خبر مصالحة برئاستين متناغمتين، أم انقسام بحكومتين متعاكستين؟! ... الدكتور/ أيوب عثمان

الساعة 08:25 ص|01 مارس 2012

كاتب وأكاديمي فلسطيني

جامعة الأزهر بغزة

 

على الرغم من أن "إعلان الدوحة" هو خطوة تُعَدُّ – حال الشروع الصادق في تطبيقها – إنجازاً حقيقياً يكسر الجمود الثقيل الذي أعاق المصالحة الوطنية على طول سنوات الانقسام الخمس السابقة وعرضها، حيث تنازل عباس عن خياره الوحيد، فياض، الذي ظلت ترفضه حماس، فيما تنازلت حماس ليكون خيارها المنقذ من الأزمة، عباس، الأمر الذي يعني مرونة فائقة أبداها الطرفان لبلوغ المصالحة، إلا أن "إعلان الدوحة" – في غياب برنامج موحد يقوم على قواسم مشتركة – لن يكون في مكنته أن ينهي الانقسام، لاسيما في وجود معيق مهم، بل ربما هو الأهم، وهو أن "السلطة لم تعد سلطة" كوصف الرئيس محمود عباس أكثر من مرة، لاسيما في آخر اجتماع عقدته لجنة المتابعة العربية في الدوحة.

الرئيس/ محمود عباس يدرك مجريات الأمور عربياً وإقليمياً ودولياً، لاسيما ما يحدث في مصر من متغيرات، وما يجري في سوريا من أحداث ما تزال مفتوحة على مجموعة من السيناريوهات: حرب أهلية، تقسيم، فتنة طائفية، إسقاط نظام الأسد أو التعايش معه في سياق حلول وسطية!

أما السيد/ خالد مشعل – الذي أبان في "إعلان الدوحة" عن اعتدال غير عادي وغير متوقع – يدرك مدى الحاجة لإنهاء التناقض بين حاجة "الإخوان المسلمين" الذين حققوا انتصارات ساحقة في الانتخابات التي أجريت في أكثر من بلد عربي، فضلاً عما يتوقع لهم من انتصارات ومكاسب في بلدان أخرى، والتي سوف تعمل على ترسيخ أقدامهم في الحكم، وتعينهم على عبور المرحلة الانتقالية فيحققوا اعترافاً أمريكياً وأوروبياً ودولياً بأنهم صالحون للحكم وقادرون على إدارة شؤونه، الأمر الذي يحتم على حماس – كما يرى البعض – أن تتكيف مع الواقع الجديد، ما يجعلها تستدرك أن استمرار وجودها كحركة مقاومة مسلحة إنما يساعد إسرائيل على امتلاك الذرائع التي تستطيع بها أن تقطع الطريق على أي اعتراف أمريكي أو أوروبي أو دولي متوقع بحقها في الحكم وصلاحيتها له وقدرتها على تصريف أموره. وعليه، فإن حماس تحسن صنعا إن هي فكرت ملياً فأحجمت عن القيام بأي شيء جزافي غير محسوب، ذلك أن ذلك يُعَدُّّّّّّ من قبيل المخاطرة أو المغامرة بما حققته لنفسها من وزن وأهمية، وإنما بالوطن كله، مستقبلاً وقضية. بكلمات أخرى، لا ينبغي لحماس أن تغامر فتجعل من نفسها اليوم قرباناً للإخوان المسلمين كي يقوموا بدعمها ومساندتها غداً، ذلك أنه إذا ما صار انقلاب في الصراعات أو السياسات على المستوى العربي أو الإقليمي أو الدولي وقدم "الإخوان المسلمون" مصالحهم على حماس التي كانت بالأمس القريب قد وهبت نفسها قرباناً لهم وأسهمت في ترسيخ حكمهم، صار الضرر الأكبر لقضيتنا التي سيكون أقصى ما يمكن أن يبذل في سبيلها ليس أكثر من أن ينظر إليها باعتبارها حرفاً أو كلمة أو جملة ناقصة لا استكمال لها في موسوعة المشروع الإسلامي الكبير، تماماً كما حدث الضرر الكارثي لها بعد نكبة التهجير عام 1948 حين نظر إليها حرفاً أو كلمة أو جملة ظلت منقوصة يبحث المبتدأ فيها عن خبرها الذي ظل غائباً أو تائهاً في موسوعة المشروع القومي العربي الكبير!

إن أحداً لا يستطيع – وإن أراد – أن ينكر أن موافقة حماس على إسناد رئاسة حكومة التوافق الوطني الانتقالية إلى الرئيس عباس هي في الحقيقة مؤشر على اعتدال "حماس"، لاسيما إذا انطلق "إعلان الدوحة" إلى مرحلة التطبيق العملي، دون معيقات لها علاقة بأي خلافات داخلية في حماس، كما أشيع، وما يزال يشاع!

إن من يتذرع في رفضه "إعلان الدوحة" بمخالفة ذلك الإعلان للقانون الأساسي، إنما يقول قولة حق يراد بها باطل، ذلك أن كل  من يتذرع بالقانون إعلاء لشأن القانون الذي لا يُسَنُّ أو يصاغ إلا ليعلي المصلحة الوطنية العليا ويضعها فوق كل اعتبار، ينبغي له أن يفهم أموراً ثلاثة: أولها، أن المصلحة الوطنية العليا هي أعلى شأناً من القانون، وثانيها، أن القانون ليس إلا أداة لإعلاء شأن المصلحة الوطنية العليا وجعلها فوق كل اعتبار، وثالثها، أن القانون الذي يتذرع بعضنا بالمحافظة عليه، إنما هو في الأصل مُضَيّع ومهدور ومهان في ظل انقسام نحن صنعناه فقسمنا ما تبقى لنا من الوطن إلى قسمين بحكومتين كل منهما تعاكس الأخرى، فيما الحكومتان مع القانون تتعاكسان، فضلاً عن أن وجود كل منهما يتعاكس مع القانون أصلاً.

لقد ثار جدل كبير حول "إعلان الدوحة" على المستوى القانوني وعلى المستوى السياسي، لاسيما في شأن جمع الرئيس عباس بين منصبي رئاسة السلطة ورئاسة مجلس الوزراء التوافقي، معاً، في آن. ما أثير، وما يثار، من جدل قانوني وسياسي، حول هذا الشأن، يشير إلى عمق الأزمة التي تحتوي الوضع الفلسطيني من خلال "إعلان الدوحة". في سياق هذا الجدل، ترى أن حركة فتح قد ظهر فيها اتجاهان: أولهما يطالب بالمسارعة في إنجاز ثلاثة أمور، فوراً، ودفعة واحدة، وهي: 1) إنفاذ إعلان الدوحة 2) إقالة حكومة سلام فياض 3) تشكيل حكومة الوفاق الوطني الانتقالية. وفي سياق الجدل الفتحاوي، لابد من القول إن اتجاهاً كبيراً على المستوى العددي والتنظيمي ظل يعمل على – ويدعو إلى – إبعاد فياض وحكومته وتشكيل حكومة جديدة يتمتع الفتحاويون فيها بمواقع حساسة ووازنة. حجة أصحاب هذا الاتجاه – وهو كبير كما قلنا – في مطالبتهم بتشكيل حكومة جديدة بدلاً من حكومة فياض هي أن هذه الحكومة التي يقودها فياض هي في الحقيقة ليست إلا حكومة الرئيس عباس، وبناء على ذلك، فإن كل ما تفعله هذه الحكومة من سلبيات وسوءات إنما يتحمل تبعاتها الرئيس عباس وحركة فتح، على أن الرئيس عباس يتحمل عيوب هذه الحكومة ومساوئها مرتين، وليس مرة واحدة، باعتباره رئيساً للسلطة التي يرأس فياض حكومتها، وباعتباره رئيساً لحركة فتح التي أساء فياض لها ولقادتها وكوادرها، كما يقول أصحاب هذا الاتجاه. وعليه، فإن أصحاب هذا الاتجاه يصفقون ملء اليدين لحكومة يرأسها عباس – كما في "إعلان الدوحة" – لأن في ذلك استجابة لمطالبتهم المتواصلة والمتصاعدة على مدار أكثر من أربعة أعوام، وهي التخلص من فياض وحكومته.

إلى جانب هذا الاتجاه الذي وصفناه بالكبير آنفاً، والذي بلغت حماسته لإعلان الدوحة الذي يضمن التخلص من حكومة فياض، هناك اتجاه آخر في السياق الفتحاوي يعارض أشد المعارضة "إعلان الدوحة"، نظراً لأن الرئيس عباس سيكون – بموجب هذا الإعلان – رئيساً لحكومة التوافق الوطني الانتقالية. حجة أصحاب هذا الاتجاه الذي يعارض "إعلان الدوحة"، هو أن الرئيس عباس – الذي يجب أن يرأس الحكومة إلى جانب رئاسته للسلطة – إنما هو منشغل حتى أذنيه في المسائل السياسية الشائكة كالتفاوض، والمصالحة، وتحقيق المقعد الفلسطيني في الأمم المتحدة، والعلاقات العربية والإقليمية والدولية، وهي مهمات ليس – ولن يكون – في مكنة أي وزير خارجية أن ينهض بها، الأمر الذي يُلزِم الرئيس عباس ألا يكون متفرغاً لرئاسة الحكومة من حيث مراقبة عملها وشؤون وزاراتها ومؤسساتها ودوائرها، أو في تزويد الحكومة بما يلزم من أموال أو في ضبط الأداء المالي أو الإعداد لمرحلة الانتخابات التي يركز عليها "إعلان الدوحة". لقد ذهب أصحاب هذا الاتجاه المعارض لإعلان الدوحة، ولرئاسة عباس لحكومة التوافق الوطني الانتقالية، إلى أن عباس لن يكون في مُكْنَتِه أن يدير حكومته بالإضافة إلى رئاسته للسلطة، إلا إذا قام بتكليف من يراه مناسباً من رجاله بمهمات محددة سيكون هو الوحيد المسؤول عن أخطائهم وخطاياهم، الأمر الذي يحتم عليهم أن يعارضوا "إعلان الدوحة" ويطالبوا بالتفتيش عن اتفاقات أخرى لا يكون فيها سيادة الرئيس محمود عباس – كما يقولون – "محشوراً في الزاوية ومتورطاً في أكثر من مهمة كبرى"!

أما في سياق الجدل الحمساوي، فهناك آراء ثلاثة: أولها مع "إعلان الدوحة" وداعم له بأقصى قوة دفع، ودون أدنى تحفظ، مع المطالبة بتنفيذه على نحو فوري، دون تأجيل أو إبطاء، وثانيها ضد "إعلان الدوحة" ليس من منطلق سياسي، وإنما من منطلق قانوني على اعتبار أن القانون الأساسي للسلطة الذي فصل بين منصبي رئيس السلطة ورئيس الحكومة، لا يجيز الآن الدمج بينهما، لكن أصحاب هذا الرأي لم تكن معارضتهم للاتفاق معارضة مفتوحة على إطلاقها، وإنما هي معارضة مقيدة مفادها أن يدعى المجلس التشريعي للانعقاد بغية مراجعة القانون الأساسي وتعديل مواده على نحو يجيز الجمع بين رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة. أما الرأي الثالث، فهو رافض ومتطرف في رفضه: يذهب أصحاب هذا الرأي إلى الاعتراض المبدئي الواضح والصريح على أن يكون الرئيس عباس رئيساً لحكومة التوافق. وحجتهم في ذلك هي أن جمع عباس بين رئاسته للسلطة ورئاسته للحكومة يعني أن تكون الامور كلها في قبضته: أمور السلطة في قبضته وأمور الحكومة هي الأخرى في قبضته، ما يعني أن الانتخابات لن تتم. وقد اعتبر أصحاب هذا الرأي أن خالد مشعل – بتوقيعه على "إعلان الدوحة" – إنما كان تصرفاً فردياً ولا يمثل موقف حركة حماس مطلقاً. لكن ما رأيناه في القاهرة مؤخراً، حيث كان اجتماع ضم عباس ومشعل وهنية وأعضاء من المكتب السياسي لحماس في الخارج والداخل، بالإضافة إلى كثير من التصريحات لقادة من حماس على مستوى المكتب السياسي، أشار إلى أن الجدل الحمساوي في شأن "إعلان الدوحة" قد بدأ ينحسر وما يزال آخذاً في الانحسار، وأصحاب هذا الاتجاه الحمساوي الرافض على نحو متطرف خفف من حدة رفضه وتطرفه حينما طالبوا بتوفير ضمانات غير عربية لإجراء الانتخابات وفق موعد محدد ومرجعية محددة حتى لا تبقى حكومة عباس الانتقالية حكومة أبدية.

وبعد، فإنهاء للجدل الفتحاوي والحمساوي والفصائلي والشعبي حول "إعلان الدوحة"، لاسيما جمع عباس بين منصبي الرئاستين معاً في آن، فإنني أتساءل عما إذا كان ممكنا أن يكون لكل من التساؤلين الآتيين حيز أو فائدة أو اعتبار:

أما الأول، فهل يقدم الرئيس عباس استقالته من منصب رئاسة السلطة ويصرف الأمور بصفته رئيساً لحكومة التوافق الوطني الانتقالية إلى أن تأتي الانتخابات برئيس جديد للسلطة، لاسيما وإن الرئيس عباس أكد في عشرات المرات السابقة – والتي ختمها مؤخراً بتأكيد قال إنه لا رجعة عنه قبل ثلاثة أيام فقط – أنه لن يرشح نفسه، البتة؟!

وأما الثاني، فهل يتوافق عباس مع ما يمكن أن تطمح له حماس من الاستمرار في حكم توافقي دون انتخابات لبضع سنوات تستقر خلالها الأوضاع السياسية في المنطقة العربية فترسو السفينة لصالح الإسلاميين؟!

أما آخر الكلام، فإن "إعلان الدوحة" هو اتفاق لا يستند إلى القانون في شيء، بل يستند إلى السياسة منطلقاً صوب المصلحة الوطنية العليا عبر المصالحة في كل شيء، ما يعني أن من يصدق في تأييد المصالحة فوضعها فوق كل اعتبار، صار لزاماً عليه أن يُغَلَّـبها على القانون الذي يراه جميعنا مهدوراً ومهانا في ظل حكومتين متعاكستين لشعب واحد وموحد. وعليه، فهل يظل بعضنا مصرا على أن يتوسد القانون كي يرفض "إعلان الدوحة"، أم هل نركض جميعنا إلى "إعلان الدوحة" ركضاً، بدلاً من أن نبقى على جمر انتظار إعلان آخر في دوحة أخرى؟! هيا، إذن، إلى مصالحة تجمع بين منصبي رئاستين متناغمتين فلا نبقى – كما نحن الآن ومنذ خمس سنوات – نعيش حالة الفرقة والتشظي والتفكك والانقسام.