خبر وتكبُر في عين الكبير صغارُها..علي عقلة عرسان

الساعة 12:03 م|24 فبراير 2012

مصير سورية لا يتقرر في تونس العزيزة أو في سواها بل في دمشق وليس في سواها، ومصير سورية يقرره أبناؤها، كل أبنائها، قبل "أصدقائها" وأعداء شعوب يلبسون لبوس الأصدقاء، وأهل البيت الشامي أدرى بما فيه، وأحرص على سلمه وبنيانه وأمانه، حين تخلص النوايا ويحسُن الأداء على أرضية الانتماء، ويُحتكَم للعقل والوجدان، ويرتفع الوطن فوق كل الاعتبارات.. ومن لا يرى ذلك يغيِّب الواقع أو يغيب عنه بشكل من الأشكال، ويرفض مقاربة حقائق الأمور، ويملي حلاً من أعلى لا تقبله الأرض ولا يستنبت في الأنفس، ويريد أن يزيد الأمر تعقيداً والنار وقوداً.

ولا أظن أن الاقتتال بين السوريين وتعزيز قوة الداخل بقوة الخارج سيحسم الأمر لصالح الوطن، وينهي مفاعيل ما في دهاليز الأنفس من جراح وحزازات ومرارة وثارات، والحوار بنظري هو المدخل إلى معالجة ذلك كله حين نعتمده بدل السلاح، والوساطة الخيرة التي تفضي إليه خير من التجييش للوصول إلى ما يلغيه أو يملي شيئاً ولا يقاربه ولا يرقى إليه.

وكما أن التفاعل الخلاق بين العقول والإرادات والثقافات، والسعي لوضع حد لشقاء البشر، وفتح نوافذ الأمل والآفاق الجديدة أمام الأفراد والشعوب ينبغي ألا يتوقف، كذلك الحوار المسؤول الذي هو أهم المداخل إلى معرفة الآخر، وإشاعة السلم، والخروج من بؤس الأزمات وتخفيف حدة الصراعات.. ينبغي ألا يلغى أو تغلق من دونه الأبواب أو يتوقف، لأن الحوار بوابات العقل والمنطق ومدخلهما إلى الأمور والأنفس والقضايا الشائكة، ولا يفوت أوانه أبداً، لأنه يفضي إلى التفاهم والوفاق وحقن الدماء وبلسمة الجراح وصفاء الأنفس وتوافقها على ما فيه العدل ومصلحة الخلق، إن هي أخلصت للعدل والخلق، وهو توظيف إنساني مبدع وخلاق لخلاصة العقل والمنطق اللذين لا يتجاوزهما الزمن، ولا تُغلق دونهما الأبواب، ولا يبطُل مفعولهما أبداً، ولا معدى عنهما للمختلفين والمتخاصمين والمتحاربين، وليس لمفعول العقل والمنطق مدى وأمد وضفاف، ولا ينتهي دورهما بتقادمهما أو بتقادم الحدث الذي يتناولانه. ومن يزعم غير ذلك يركب المركب الأصعب إلى غايات وأهداف مسرْبَلة بالدم، قد تعنيه وتعني له الكثير ولكنها لا تعني من تمسهم نار الصراع وينزفون الدم ويتعرضون للموت واليتم. وحين يجتمع خلق على أي مستوى من الأهمية والمسؤولية لمعالجة أزمة ما ويضعون الحوار خارج جدول أعمالهم وخلف ظهورهم، بوصفه أحد أهم المداخل لحلها، فإنهم لا يجتمعون لحل الأزمة بل للقضاء على فرص الحل السلمي والسياسي لها، ويمضون في طريق رسموها أو رُسمت لهم، يرونها ولا يرون سواها، وهي تفضي إلى التهلكة، وقد نهي المسلمون عن أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة.

إن الحيلولة دون تفاقم الصراعات والأزمات مسؤولية إنسانية وأخلاقية وسياسية لدى من يقيمون صلة وطيدة بين السياسة والأخلاق، وإيجاد الحلول السلمية للأزمات قبل تحولها إلى كوارث وحروب قد تخرج عن نطاق السيطرة، هو الأجدر بالاهتمام والاعتبار والإكبار لدى الكبار، وهو الاهتمام الأول للفكر والمؤسسات الإنسانية والدولية وللسياسة المسؤولة، وللثقافة والمثقفين، وواجب القوى العظمى في العالم.. وليس المهم في مثل هذه القضايا والمواقف أن نقول كلمتنا ونمضي ونترك نار الفتنة تزداد اضطراماً، مكتفين بحكم التاريخ على من يشعلها.. على أهمية التاريخ وأهمية حكمه.. فالتاريخ المعتبر يقدم الدروس، ويلهم الشعوب والقادة، وقد يصدِر الأحكام الصائبة والقاسية، ولكنه لا يردّ المظالم، ولا يشفي الجرحى والمعوقين، ولا يعيد الحياة للموتى، ولا يمنع المعاناة، ولا يزيل حزازات النفوس.!! إن الأكثر أهمية من حكم التاريخ، من وجهة نظري، هو ألا يسجل التاريخ وقوع الكارثة، وألا يكون هناك دمار وضحايا ودماء ومعاناة بشرية ولا تأسيس لحروب على أنقاض حروب ومآس على أنقاض مآس، وألا تنهمر دموع الأطفال وتغرق الأوطان في البؤس واليأس، وألا تضيع الحقائق وتزهَق الأرواح وتستباح الحرمات والمحرمات في خضم الصراعات والحروب.. وهذا ما ينبغي أن يفعله الحكماء والقادة الكبار والمثقفون والمحررون لشعوبهم وبلدانهم ولشعوب العالم وبلدانه، والذين تعنيهم الحضارة الإنسانية والقيم الإنسانية، والمؤمنون بدور إنساني للحكومات والشعوب والمؤسسات، وبالصداقة الحقيقية وبالتفاعل الإنساني والثقافي البناءين بين الأمم والدول.. وأعتقد أن الكبار، أينما كانت مواقعهم، يقاسون بمواقفهم وبما يقومون به من أفعال منقذة وبما يقدمونه من مبادرات خيرة ويقومون به من تضحيات في سبيل الأهداف الإنسانية النبيلة.. وليس بقوة عضلاتهم وزعيقهم وصواريخهم وحاملات طائراتهم وقدرتهم على إلحاق الأذى والجوع بالآخرين.. فمظاهر القوة حين تستخدم هي أدوات موت ومقومات القيم والمفاعيل الإنسانية هي بواعث حياة، وشتان بين الموت والحياة وما يميت وما يحيي.. ولا شك في أن من يكون مع الحياة أفضل ممن يصدِّر الموت ويختاره للآخرين "حلاً لمشكلاتهم". 

لقد طالت معاناة الناس في سورية، العربية بامتياز والحبيبة بارتكاز واكتناز في القلب والنفس، طالت المعاناة واستفحلت من جراء الأزمة التي بدأت فيها منذ أحد عشر شهراً وما زالت مستمرة، ودخلت تلك الأزمة عند بعض الأطراف العربية والدولية المنخرطة فيها بشكل ما، دائرة التحدي الشخصي الثأري الذي يُعمي ويُصم، وأصبحت عند الأطراف السورية، المنخرطة فيها مباشرة وبصورة دموية، مسألة حياة وبقاء وغَلَبة وتقرير رؤية وتثبيت خيار، واشتفاء نفوس مما تجد، وحرباً كريهة تنذر بما هو أشد منها كراهية، إذا نمت واستمرت على خلفيات بغيضة أخذت تترعرع في زوايا مظلمة لا تطيقها سورية ولا تريدها ولا عهد لها بها.. وكل الخسائر في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة والبنى التحتية والاقتصاد.. إلخ، لحقت بسورية الوطن، وأرهقت الناس، معظم الناس ولا نقول كلهم، فهناك شرائح في كل المجتمعات والدول والأوقات تبقى خارج المعاناة في الكوارث والحروب، بل وتربح من الأزمات والكوارث والحروب.. ولا بد بعد كل هذا الذي عشناه ونعيشه ونحصد زؤانه ليل نهار، لا بد من خروج من أزمة خانقة يغيب فيها صوت العقل والمنطق وتغيب الرؤية الحاضرة والمستقبلية، وتحضر فيها الحماسة والتعاسة إلى جانب جهل وحقد ومرارات قلوب، وآراء غبية تفتك بالبرية، ويملى في تلك الأزمة وبسببها على الناس المواطنين ما لا يريدون وما لا يطيقون.. نعم لا بد من الخروج العاجل من هذه الأزمة الخانقة.. ولكن كيف السبيل إلى الخروج الأمن، أو إلى أي خروج مما نحن فيه، وهناك من دخل دائرة التحدي والثأر والمكابرة واستغرقته، لا يخرج منها ولا يبحث عن خروج؟ وهناك من أصبح من أبناء سورية في برنامج أعدائها لا يريم ولا يعنيه أن يفكر بما أصبح عليه!؟ وهناك من لا يسأل ويريدها على هواه، ولا يرى لأحد سواه فيها رأياً ولا رؤية ولا إرادة، إلا ما ومن وافق رؤيته وهواه من ذلك وأولئك، ويمسك سيف الوطن فيرتعش بسبب ذلك كل من في الوطن، حميَة وتقيّة.؟!

كيف السبيل إلى الخروج من ليل الأزمة إلى صبح الحل؟.. نعم هناك الإصلاح والتأسيس للإصلاح والسعي مع الناس إلى ما يصلح حال كثرة من الناس، ولكنه غير منظور ولا مقبول ممن لا يريدون إلا التغيير الجذري الشامل الكامل المنطوي على إلغاء رداً على ما يعتبره إلغاء مزمناً!!.. وهناك القوانين الجديدة، والدستور الذي يؤسس لنظام جديد.. ولكن في مدى ضبابي ينتظر أن تجلوه الممارسات، والممارسات تفاصيل وتفاصيل، والشيطان يكمن في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل!!.. وهناك التخريب والإرهاب والتشويش الذي يستدعي الملاحقة، وهناك التهريب والتجييش والقتل والرفض والتشويه بكل وسائل التشويه .. وما يرد به على ذلك بما يفوقه ويريد أن يلجمه بالقوة، لكي يسود أمن ينمو فيه الإصلاح ويُستعاد الرأي وتصح الرؤية.. وهناك وهناك.. وهناك..؟!

ما عاد يصلح لسورية ما كان صالحاً، ولا يصلح لها ما يفصَّل لها في عواصم عربية وعالمية.. ولا يصلح لها ما يراه فريق من أبنائها يقفون على مقربة من لعبة السياسة ودائرة العنف..؟!! ويبدو أن هذه هي طبائع الأمور في الأزمات الخانقة والصراعات الدامية.. كما يبدو أنه في مثل تلك الأحداث والأوقات والظروف تضيق الرؤية، ويحتجب العقل أو يحجب أو يكل، وتتورم الأنا، ويغشى الأعين ما يغشى..                  

وتكبر في عين الكبير صغارها      وتصغر في عين الصغار الكبائر.

علي غير ما رأى وقرر وقال أبو الطيب، رحمه الله.

كان الله في عون سورية وشعبها.

دمشق في 24/2/2012