خبر الشيخ خضر « يدق جدران » أكثر من « خزان »../ علي جرادات

الساعة 01:37 م|15 فبراير 2012
حال الحركة الوطنية الفلسطينية داخل السجون الإسرائيلية ليست أفضل حالاً مما هي عليه خارجها. وهذا طبيعي بحسبان أن الأولى ليست مجرد فرعٍ في الشكل للثانية، بل، هي أيضاً امتداد لمضمونها، يتغذى منه ويغذيه في كل تحولاته، الإيجابية والسلبية. وهذا ما يفسر أن تعاني مؤسسات الحركة الوطنية الأسيرة، بشقيها الفصائلي والوطني، وخاصة منذ وقوع الانقسام الداخلي، ذات الخلل البنيوي الذي تعانيه مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، أي الافتقاد لأداة تنظيمية وطنية واحدة، (مؤسسة اعتقالية وطنية بلغة الأسرى) ببرنامج مواجهة مُوحَّد ومُوَحِّد، وإلا ما معنى ألا يأتي "دقُّ جدران خزان" السجن جماعياً، بل، فصائلي حيناً، كما حصل في الإضراب المفتوح عن الطعام الذي خاضته مجموعة من الأسرى لمدة 23 يوماً قبل شهور، وفردي حيناً آخر، كما يفعل البطل الفلسطيني الحقيقي، الشيخ خضر عدنان، الذي يسجل بطولة فردية أسطورية، حيث يدخل إضرابه المفتوح عن الطعام شهره الثالث، وما معنى ألا يؤدي تعليق الجرس في المرتين إلى إشعال كامل السهل الوطني، سواء داخل السجون أو خارجها؟؟ حيث اقتصر في المرتين، داخل السجون وخارجها، على فعاليات تضامنية متأخرة ومحدودة النطاق، ما يكشف عما تمر به الحركة الوطنية الفلسطينية، خارج السجون وداخلها، من تهشيم، أفقدها أول ما أفقدها، روحها، وثقافتها، ولحمتها، وحميتها، الوطنية الجامعة، التي بفضلِ تأججها وسيادتها على ما غيرها من انتماءات فئوية وشخصية ضيقة في مراحل سابقة، تمكَّن الشعب الفلسطيني، منذ تعرُّضِه لاستعمار استيطاني، سلبَه جلَّ أرضه، واقتلع نصفه ويزيد منها، أن يسجل في صراعه الدفاعي المفروض، ملحمة نضالية وطنية جماعية أسطورية، قل نظيرها، سواء لجهة فداحة معاناتها وجسامة تضحياتها أو لجهة عظمة بطولاتها، ذلك بمعزل عن سؤال عدم تكللها بانتصار سياسي حاسم، كسؤال لا يحيل، ويجب ألا يحيل، إلى الجهود المبذولة في هذه الملحمة، بل إلى سوء، (كي لا نقول بؤس)، طرائق إدارتها واستثمارها، (وطنياً وقومياً)، وإلى هولِ تحدياتها الخارجية، سواء لجهة ضخامة عوامل قوة عدوها المباشر، أو لجهة تعدد حلفائه وتنوعهم، إقليمياً ودولياً، بما لهم من مصالح إستراتيجية، تحميها ترسانات قوة باغية ومتنوعة.
 
هنا، وإن كان من التعسف حصر تجارب هذه الملحمة الأسطورية في إحدى تجاربها، أو اختزال جماعية أي منها في بطولة حالات فردية، فإن من غير الإنصاف تجاهل تمايز إشراق تجاربها أو إغفال التنويه باستثنائية بطولة حالات فردية بعينها. وفي فضاء تجربة الأسرى الفلسطينيين، التجربة الأكثر إشراقا، (بعد تجربة الشهداء)، يلمع اليوم اسم الشيخ المناضل خضر عدنان، الذي ما زال ماضياً في تسطير بطولة فردية فريدة، بل نادرة، حيث يدخل إضرابه المفتوح عن الطعام شهره الثالث، متمنطقاً قوة إرادة استثنائية، أذهلت سجانوه وأرعبتهم، (ساسة ومنفذين)، ونالت إعجاب مناصريه وأدهشتهم، (داخليين وخارجيين). وفي حالتي الذهول والدهشة، ما يشي بقلة، (حتى لا نقول بعدم)، إدراك أن هذا البطل الفلسطيني إنما يستلهم، ويكثف، قوة إرادة شعبه، ويعبر ببطولة فردية نادرة، قد تكلفه حياته، عن الضرورات الخارجية لتفجرها، وعن السبيل الأنجع لدقِّ جدران خزان تبعثرها الداخلي.
 
لقد كثف الشيخ خضر التعبير عن هذه الضرورات الخارجية، وتلك الاستحقاقات الداخلية، في كلمات هربها مع محاميه، قائلاً: "أنا لا أسير نحو العدمية، بل أدافع عن كرامتي، وعن كرامة شعبي المستباحة وعن حقوقه المغتصبة". بهذه الكلمات القليلة، إنما العميقة في دلالتها ومغزاها، يكون الشيخ خضر الذي عرفتُ، وتعرفتُ عليه، أثناء فترة اعتقال إداري جمعنا سوياً، قد لخص، (لمن لا يعرفه أو لم يتعرف عليه، عن قرب)، مكنونه الإنساني والنضالي الرفيع، الذي جعل منه مناضلاً وطنياً عقائدياً مسكوناً حتى مخ العظم بقناعاته الفكرية، (الدينية)، إنما دون استعمالٍ أو تعصبٍ لها أو انغلاق عليها، بل، بانفتاحٍ يكاد يكون فريداً على حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، سيما في مجالها السياسي، وفي ما تعلق منه بقضية شعبه الوطنية تحديداً.
 
الشيخ خضر الذي عرفتُ يجادل بأدب جم، ويحاجج بتهذيبٍ لافت، سقفه وهدفه في ذلك، البحث عن أنجع الطرق، (برنامجاً وممارسة)، لوضعِ حدٍ لمعاناة شعبه، وانتزاع حقوقه الوطنية والتاريخية المغتصبة. وهاكم دليل على سعة، بل عمق، انفتاح هذا المناضل على الآخر الوطني، ويتمثل في أن يرسل للقائد الوطني أحمد سعدات، (برغم اختلاف الفكر والفصيل السياسي)، سؤالاً، يطلب فيه سماع رأيه فيما أقدم عليه من إضرابٍ مفتوح عن الطعام، هو الأطول بين إضرابات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام.
 
لقد لفت، بل شدَّ، انتباهي حرصُ الشيخ خضر، وهو الذي يخوض بطولة أسطورية نادرة بكل المعاني والمقاييس، على نفي تهمة العدمية عنها، وكأنه يتوقع إلصاقها بها، وإن همساً ودون إعلان، من هذه الجهة الوطنية أو تلك، حيث قال "أنا لا أسير نحو العدمية"، ما يحيل إلى وعيه العميق، بما تعانيه، وتكتوي بناره، الحركة الوطنية الفلسطينية، خارج السجون وداخلها، من بذخٍ في إطلاق التصنيفات والتهم والأحكام الجزافية، في وجه كل من يريد، مخلصاً وصادقاً، وبالفعل قبل القول، أن يدل المجموع الوطني، ونخبه القيادية تحديداً، على حقيقة مرة وموجعة، جوهرها، أنه ليس ثمة مجال حقيقي، أو إمكانية فعلية، أو سبيل جدي، لإحراز أية إنجازات وطنية، بل، ولا للحفاظ على ما تحقق منها، دون استعادة توحيد مكونات الصف الوطني، برنامجاً سياسياً وأداة تنظيمية وممارسة نضالية.
 
وفي ظني، أن هذه هي رسالة الشيخ خضر للداخل الوطني الفلسطيني، داخل السجون وخارجها، لكن ليس عبر تقديم المواعظ، بل، عبر الدقِّ ببطولة فردية أسطورية على "جدران خزان" سجون المحتلين، التي لا يعرف قَدْرَ معاناتها الحافزة على اجتراح بطولات تعانق عنان السماء، يخوض الشيخ خضر غمار واحدة من أكثرها أسطورية، إلا من اكتوى بنارها لسنوات وسنوات.
 
بقي أن نقول إنه كان من شأن أسطورية بطولة الشيخ خضر، أن تتحول إلى شرارة لإشعال كامل السهل الفلسطيني، داخل السجون وخارجها، لولا ما تعانيه الحركة الوطنية الفلسطينية من خلل بنيوي، اسمه الانقسام الداخلي. ونُذكِّرُ كلَّ من يظن بتعسف هذا الاستخلاص، بأن إضراب الأسرى، كان هو الشرارة التي أشعلت الهبة الجماهيرية في آذار ونيسان عام 1986، التي كانت بمثابة "بروفة" لاندلاع الانتفاضة الكبرى الأولى في كانون أول عام 1987، وبأن إضراب الأسرى، كان هو الشرارة التي أشعلت الهبة الجماهيرية في أيار عام 2000، التي كانت أيضاً بمثابة "بروفة" لاندلاع الانتفاضة الكبرى الثانية في أيلول 2000. لكن، مع ذلك، وعليه، يكفيك يا خضر الشيخ العقائدي والمناضل الوطني الأصيل، شرف محاولة تقدُّم الصفوف، ودقِّ "جدران أكثر من خزان"، وتعليق الجرس، في ظرف وطني ملتبس، والأمل كل الأمل، والرجاء كل الرجاء، ألا ترحل، وترقد رقدتك الأبدية، قبل الأوان، فهذا ما يريده لك السجان، ومن أسف، أن تأتي مساندتك الوطنية، داخل السجن وخارجه، محدودة ومتأخرة، ولا أظنك بغافلٍ عن السبب، الذي دعا مناصروك من شباب وشابات فلسطين، لرفع لافتة كُتب عليها: " لحِّقوه قبل أن يستشهد". وأنا أختم، (بعد إزجاء التحية لبطولته، وحني الهامة أمام أسطوريتها)، بالقول: نعم "لحقوه قبل أن يستشهد".