خبر الدكتور/ أيوب عثمان يكتب : « إعلان الدوحة » من المنظور الدستوري ومنظور التوافق الوطني

الساعة 02:59 م|12 فبراير 2012

 

كاتب وأكاديمي فلسطيني

جامعة الأزهر بغزة

 "إعلان الدوحة" هو عنوان آخر لـ "المصالحة الوطنية الفلسطينية" وليس بديلاً عنها، ولكنه تأكيد عليها، بصفتها ضرورة وطنية لا يجوز تجميدها أو تأجيلها، بل ينبغي تطبيقها وإعمالها، دون إبطاء أو لف أو دوران أو مراوغة.

أستغرب كثيراً – بل وأشعر بالاشمئزاز والنفور والتقزز – من هذا الجدل الناشئ عما اصطلح على تسميته بـ "إعلان الدوحة"، لاسيما وإن مثل هذا الجدل يأتي ويتواصل ويتعاظم ويتسع دون أن يصف لنا المجادلون والجدليون لدائنا دواء نطبب به أزمتنا فننهي انقساماً دام فينا وتمكن منا خمس سنوات دون أن نجد مخرجاً. أستغرب هذا الجدل الذي لا طائل منه، لاسيما بعد أن مرت بنا خمس سنوات ثقيلات والانقسام يجفف الضرع منا ويذبحنا فينال منا ولا ننال منه! أستغرب مثل هذا الجدل: فمن معترضٍ على إعلان الدوحة لأسباب منشأها قانوني وآخر لأسباب منشأها سياسي! أستغرب في اعتراض هذا الذي يسوق لاعتراضه أسباباً قانونية أو ذاك الذي يعترض لأسباب سياسية، مع تجاهل كامل للسبب الوطني، وتناسي الانقسام والقطيعة!

فإذا كان منشأ الجدل في "إعلان الدوحة" هو "رئيس الوزراء"، وإذا كان الرئيس عباس مصراً على فياض، رئيساً للوزراء، وإذا كانت حماس مصرة على رفض من يريده عباس، رئيساً للوزراء، فهل يظل عباس مصراً على فياض خياراً واحداً ووحيداً ليظل الوطن في وحل الانقسام وجحيمه غارقاً؟! وهل تظل حماس مصرة على رفض  خيار عباس الواحد والوحيد ليظل الوطن للانقسام نهباً؟! هل يظل كل من عباس وحماس على خيار واحد ووحيد، فيضيع الوطن ويذهب إلى المجهول؟! ألا يفكر الجدليون أن البديل الوحيد لإصرار عباس على خياره هو إصرار حماس على خيارها، وأن البديل الوحيد لإصرار حماس على خيارها هو إصرار عباس على خياره؟! وألا يفكر الجدليون أن البديل الوحيد لإصرار كل من عباس وحماس على ما لديه من خيار هو أن يتوافقا، وإلا فاستمرار الانقسام هو البديل؟! وعلى الرغم من أن استمرار الانقسام هو البديل الأخطر، إلا أنه سيظل جلاباً لما هو أخطر وأخطر. ألا يفكر الجدليون أن عشرة أشهر انقضت على توقيع اتفاق المصالحة في القاهرة كانت مدة كافية للاتفاق على رئيس للحكومة؟! ألم تشكل تسمية رئيس الحكومة أزمة كبيرة أعاقت تطبيق اتفاق المصالحة الذي أبرمته فتح وحماس في القاهرة في الرابع من مايو من العام الماضي، وبحضور عربي ودولي واضحين، إذ طرحت فتح سلام فياض الذي رفض رفضاً باتاً وحاسماً من حماس التي طرحت – طبقاً للدكتور إسماعيل رضوان – أسماء عدة من بينها المهندس جمال الخضري الذي رفضته فتح؟!  لقد كانت الأشهر العشرة أكثر من كافية، ولكن الطرفين لم يتفقا. فإن لم يكن الطرفان قادرين على الاتفاق طيلة عشرة أشهر مضت، فلِمَ نجْلِدُ الآن توافقهما على محمود عباس رئيساً للحكومة بالإضافة إلى رئاسته للسلطة؟! ولمَِ نتبارى الآن في عقد جدليات لا طائل منها؟ إذا كان المقود الفلسطيني لا يزال في أيادي عباس وحماس، وإذا كان الجدليون هم ضد هذا التوافق بين عباس وحماس، وإذا كانوا الجدليون أيضاً غير قادرين على طرح بدائل لتوافق عباس وحماس غير الجدل، فما الذي يريده الجدليون، إذن؟!

حينما أفكر كما كانت "ستي" تفكر، أقول: "نُصِّ العمى ولا العمى كله". فإذا كان الانقسام هو "عمى كلي"، وإذا كان التوافق على محمود عباس رئيساًَ للحكومة سيُذهِب الانقسام، فإن علينا أن نفضل "نصف عمى"ٍ بقبولنا محمود عباس رئيساً للوزراء إلى جانب رئاسته للسلطة عن "عمى كلي" سببه انقسام يستمر وجوده برفضنا عباس رئيساً للوزراء.!

أرى أن "إعلان الدوحة" الذي أعطي رئاسة الحكومة التوافقية الانتقالية إلى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، هو خطوة تمثل – حال الشروع الصادق في تطبيقها – إنجازاً حقيقياً يكسر الجمود الثقيل الذي أعاق المصالحة الوطنية طيلة الفترة السابقة. فبعد أن ظل عباس يصر على فياض رئيساً للوزراء، وبعد أن ظلت حماس تصر على رفض هذا الخيار الوحيد لعباس، فإن "إعلان الدوحة" يعد إنجازاً لأنه تحدى مرحلة الجمود، مقرراً كسرها واختراقها حيث تنازل عباس عن خياره الوحيد، كما تنازلت حماس عن رفضها السابق لما نراها توافق الآن عليه، وهذه مرونة أبداها الطرفان في سبيل المصالحة الوطنية.

أما في شأن الجمع بين منصب رئيس السلطة ومنصب رئيس مجلس الوزراء معاً في آن، انطلاقاً مما يترتب على تطبيق "إعلان الدوحة"، فينبغي القول: إن لأمر الجمع بين رئاسة السلطة ورئاسة الحكومة معاً في آن وجوهاً ثلاثة: أحدها قانوني، وثانيها سياسي، وثالثها وطني. فأما القانوني فمفاده – وباختصار شديد ومفيد – هو عدم جواز الاستحواذ على منصبي رئيس السلطة ورئيس الحكومة معاً لما يشكله الجمع بين هذين المنصبين في يد واحدة من انتهاك واضح للقانون الأساسي المعدل لعام 2003 والذي فصل فصلاً تاماً بين صلاحيات كل من رئيس السلطة ورئيس الحكومة، ومن إفساد للنظام السياسي الفلسطيني بصفته نظاماً ديمقراطياً برلمانياً. وأما السياسي، فإن البعض يرى أن "إعلان الدوحة" مخالف لاتفاق المصالحة الذي تم التوقيع عليه في مايو 2011 في القاهرة، والذي حدد إسناد رئاسة الحكومة إلى شخصية مستقلة، الأمر الذي يعني عدم جواز إسناد رئاسة مجلس الوزراء إلى رئيس السلطة محمود عباس الذي يراه البعض مسبباً رئيساً من مسببات الانقسام الذي يسير الآن نحو نهاية عامه الخامس.

صحيح أن أحداً – مهما كان ميله أو تأييده لأي من طرفي إعلان الدوحة – لا يستطيع أن ينفي صحة ما يقال عن مخالفة "إعلان الدوحة" للقانون الأساسي الفلسطيني المعدل، كما لا يستطيع أحد أن ينفي أن ما تم الاتفاق عليه سياسياً في القاهرة يتناقض "إعلان الدوحة" الآن معه، ولكن... ألا ينبغي لنا أن نبذل بعض جهد فكري في محاولة منا لفهم ما نحن الآن فيه وما يدور حولنا لنرى أن إعلان الدوحة – وبكل بساطة – هو كاتفاق القاهرة، تعبير عن توافق وطني بعد أن تأكد الطرفان بما لا يدع مجالاً لأي شك أن الأفق السياسي قد بات الآن منسداً تمام الانسداد، الأمر الذي أكد لهماٍ أنه ما بات لأي منهما من خيار سوى التوافق الوطني. وعليه، فإن جاء "إعلان الدوحة" مخالفاً لـ "اتفاق القاهرة" في قليل أو كثير، فإننا لا يجب أن نقف أمامه مأخوذين بعنف الصدمة فيه، لاسيما وإن "إعلان الدوحة" و "اتفاق القاهرة" هما محطتان مهمتان من محطات التوافق الوطني بين حركتي فتح وحماس. صحيح أن "اتفاق القاهرة" قد أسند – بالتوافق– رئاسة الوزراء إلى شخصية مستقلة، لكن "إعلان الدوحة" أسند – وبالتوافق أيضاً – رئاٍسة الوزراء إلى رئيس السلطة، محمود عباس، كأفضل الخيارات الممكنة. وعليه، فلا بأس في ذلك طالما كان الأمر بالتوافق، ولا بأس أيضاً طالما كان منطلق التوافق وطنياً.

وبعد، فإذا كانت حالة الانقسام الفلسطينية الراهنة تستعصي معالجتها بالدستورية والقانونية، فما الذي يمنعنا، إذن، من معالجتها بالتوافق، بعيداً عن حرفية الدستور والقانون؟! ألا ينبغي لنا – بعد كل الويلات والمآسي التي مرت بنا – أن نرى ما خلفه الانقسام البغيض من واقع بات متناقضاً مع الكثير من نصوصنا القانونية في مبانيها وفي معانيها؟! وإلى أي حد ينسجم وجود حكومتين متعاكستين في رام الله وغزة مع الدستور والقانون؟! وعليه، فإنه ينبغي لنا – في مثل هذه الأوضاع التي نعيش وهذه الحالة الفلسطينية التي نعاني – أن نمارس مرونة تعيننا على محاولة الاستهداء والاستنارة من كل طرح يفضي إلى الوفاق الوطني مع أشد الحرص على ألا يتناقض ذلك مع القانون ما أمكن ذلك، على ألا يقف النص القانوني عائقاً أمام التوافق الوطني، الأمر الذي يعني أن النص القانوني إنما هو نص مفتوح للتعديل والتغيير والتطوير في اتجاه الصالح الوطني الأعم والأعلىٍ. وباختصار، فإن انتشال الوضع الفلسطيني من أزمة الانقسام الراهنة ليس بالاحتكام الحرفي إلى نصوص قانونية فقط، وإنما أيضاً بصياغة قواعد واجتهادات قانونية تتسع لمعالجة ما قد يطرأ من عوارض وأزمات، مع استيعاب التحولات السياسية التي تفرض اليوم قبولاً لما تم بالأمس رفضه، بالإضافة إلى الاستهداء بمتطلبات الوفاق الوطني والاستنارة بعوامله ومسوغاته.

أما آخر الكلام، فإن توافقاً وطنياً يدفن الانقسام ويصنع المصالحة ينبغي أن يكون مقدماًٍ على حرفية نص قانوني لا ينهي الانقسام فيعطل المصالحة أو يؤجلها، ذلك أن الوطنية الجمْعية هي فعل توافقي وليست تطبيقاً لنص قانوني، ذلك أن التوافق الوطني أو السياسي هو فعل يقطع الطريق على أي خلاف قانوني، تحقيقاً للمصلحة الوطنية العليا. هيا، إذن، إلى فعل نتوافق عليه، لا إلى نص قانوني نختلف عليه فنفترق عنده وننقسم في شأنه.