خبر قد تنبت الدفلى.. علي عقلة عرسان

الساعة 12:37 م|10 فبراير 2012

 

لا أظن أنه يمكن أن يوجد وضوح أكثر مما هو كائن من وضوح في المشهد السوري الدامي وتداعياته المدمرة، ولا أظن أن الغرب وتحالفاته وأدواته بحاجة إلى بلاغة وإفاضة أكثر لكي يوصل رسائله القوية إلى سورية، وهو يرتب خططه وبرامجه للقيام بما هو أبعد من العقوبات والضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي عليها، ولا أظن أن موقف الدول والقوى المساندة لسورية، لا سيما روسيا والصين وإيران.. هو الآخر بحاجة إلى وضوح أشد.. فنحن فعلاً تجاوزنا مشارف التحالفات ودخلنا خضمها المعلن وخططها المتضادة.

إن من يريد أن يتدخل في شؤون سورية عسكرياً، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأن يغزوها بصور مختلفة، منها إرسال أجيال وأشكال جديدة من منظمات " بلاك ووتر" السيئة الصيت التي ذبحت الكثير من العراقيين بتخطيط أميركي قذر، إن من يريد ذلك يتابع الحشد والاستعداد والقيام بما اختار القيام به من فعل لن يسفر إلا عن دم ودمار وتعقيد للأزمة، وهو لا تنقصه الذرائع والمسوغات وقد لا يحتاج إليها أصلاً.. ومن يعارض هذا النهج من الفعل ويعارض التدخل الخارجي في الشأن الداخلي السوري، ويريد للأزمة السورية حلاً سلمياً وبأيدي السوريين وحدهم، يرتب هو الآخر لما اختاره ولما قد تضطره إليه تطورات الأوضاع في سورية والمنطقة، وهي تعنيه استراتيجياً بصورة من الصور.. وربما أصبح مجلس الأمن الدولي خارج اللعبة السياسية في سورية بعد الفيتو الروسي الصيني المزدوج وإعادة الحضور لقطبين يمثلان كتلتين قويتين كبيرتين في العالم، ينهي حضورهما القطبية الأحادية التي تمثلت في هيمنة الغرب على المؤسسة والسياسة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي. ويبدو أن الحديث لم يعد اليوم حول منطق وقانون وشرعية دولية وسيادة دول ومصالح شعوب، ولا عن ميثاق الأمم المتحدة وأهداف مجلس الأمن الدولي وصلاحياته وحدود القانون الدولي المفترَض واحترامه، بل عن تصارع إرادات سياسية واستراتيجيات دولية، وعن نفوذ ومصالح وهيمنة وعودة قوى استعمارية إلى ساحة الفعل السياسي بكل أنواع القوة لتفرض إرادتها السياسية ورؤاها على الآخرين، ولتجبر كسورها الاقتصادية والمالية، وتبسط سيطرتها من جديد على المواقع الاستراتيجية ومصادر الثروة والطاقة، وهي تتبنى في القتال دفعاً عن مصالحها ومكانتها نهجاً يعتمد على أن يقتتل أبناء المناطق المستهدَفة بأيدي بعضهم بعضاً ويدفعون لها تكلفة السلاح والموت والدم وإعادة السيطرة..

وعلى من يريد الوقوف على دلالات ومؤشرات لا تحتمل هوامش واسعة من الخطأ أن يقف على تصريحات وتحركات الساسة والقادة الأطلسيين، لا سيما أوباما وهيلاري كلنتون وساركوزي وجوبيه وأوغلو ومن معهم من العرب، وسعيهم لما يسمى تحالف "أصدقاء سورية"، من جهة، وعلى تصريحات القادة الروس والصينين وعلى كل ما له من دلالة مباشرة وغير مباشرة بهذا الشأن، ومنه قول نائب زير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف :" إنه يجب عدم السماح بأي تدخل عسكري خارجي في سورية مشيرا إلى وجود تعاون عسكري وثيق بين سورية وروسيا وإلى أن الخبراء الروس يعملون في مختلف المشاريع العسكرية فيها. وقال بعد إعلان جهات إسرائيلية أنباء: ".. عن إرسال وحدات خاصة قَطرية وبريطانية إلى سورية..".. إن القيادة العسكرية الروسية ترصد بانتباه الوضع المحيط بسورية وبطبيعة الحال لا يمكن لروسيا أن تقف غير مكترثة بذلك.". ومتابعة مواقف الصين ودول وقوى أخرى حول الموضوع من جهة أخرى.

وباختصار شديد نحن في الأزمة السورية أمام أبعاد داخلية وعربية وإسلامية ودولية، وأمام من يعمل على سيناريو ليبي مطور يحمل في طياته زخم التدمير الأميركي للعراق، ومن يتصدى لذلك السيناريو الكارثي ويقوم بما يمكنه فعله لتبقى خريطة التوازنات الاستراتيجية في المنطقة مقبولة له ومتفقة مع مصالحه ووجهة نظره.. ولكن هناك ما يضاف إلى هذا وذاك، وهو من الأهمية بمكان، ويحمل فرادة الزمان والمكان، وله في التاريخ بعد وفي الجغرافية أبعاد.. فسورية بنسيجها البشري والاجتماعي والثقافي والروحي، وبموقعها ومواقفها ودورها القومي تحمل خلاصة منطقة أوسع يُراد لها أن تدخل في الصراع الدامي، ويُخشى عليها وعلى غيرها من الدخول في هذا الصراع في الوقت ذاته، لأنه في الوقت الذي يجعلها تتشظى وتنغرس فيها الأحقاد سيؤدي إلى ما هو أبعد وأوسع من الدمار والخراب اللذين سيحلان بها.. حيث ينتشر ذلك في أفق دولي أوسع وأشمل.. وحين تتكبد هي القسط الأوفر من ضريبة الدم لن تتوقف تلك الضريبة الباهظة عند حدودها.. ومن هنا تأتي أهمية أن نتبصر في الأمر ونتحمل مسؤوليته بوصفنا أول من يحترق بالنار ومن يقدِر على منع احتراقه واحتراق الآخرين بها.. إنا نسير في الطريق الصاعدة نحو المحنة، وهناك سباق بين من يريد أن يحسم الأمور بسرعة قبل أن تصل إلى درجة اللاعودة ويتفاقم التدخل الخارجي، ومن يسارع إلى التدخل الخارجي قبل حسم الأمور داخلياً في سورية بالقوة، وفي كل من الوضعين نحن أمام دماء تسيل ومآس تتراكم وخسائر فادحة يتحملها الشعب السوري وحده.. وأمام الاحتمالات الأكبر والأكثر خطراً.

من هنا تأتي أهمية أن نخلق نحن السوريين بمسؤولية تامة، مناخاً داخلياً يساعد على تبادل الثقة وترسيخ الأمن والأمان في أرضنا، وأن نتجه جميعاً نحو التفاهم والتعاون والحوار الذي لا بديل لنا عنه ولا غالب ولا مغلوب فيه.. ولا أفهم أن نرفض الحوار بذريعة أنه فات أوانه، فالحوار فهم وتفاهم وتبادل رأي وحجج ومواقف على أرضية العقل والمسؤولية والمنطق، لولا يمكن أن يفوت أوان ذلك مطلقاً.. كما أنه لا حجة في القول بأنه لا يتم أو لا ينبغي أن يبدأ بعد سقوط آلاف الضحايا من السوريين، فالإقبال على كل ما من شأنه حقن الدماء وتجنيب البلد والشعب مزيداً من الخسائر والأحقاد خير وشجاعة وانتصار للإرادة الخيرة.. وأن نتحاور بعد سقوط ما يقرب من ستة آلاف شهيد، بين مدني وعسكري رحمهم الله جميعاً، أفضل من أن نضطر إلى الحوار بعد سقوط عشرات أو مئات الآلاف، بتدخل خارجي أو من دونه. وإذا كان البعض ممن ليست أيديهم في النار تأخذهم عزة النفس والمكابرة لتحقيق غَلَب كاسح يلجأ على إثره الفريق الآخر للاستسلام والتسليم فإن عليهم أن يتذكروا أن النار ستبقى تحت الرمادـ

فقد تنبت الدفلى على دِمَن الثرى     وتبقى حزازات النفوس كما هي

ويفعل كل ذلك فعله في البلد والشعب.. فخير لنا أن نتفق الآن من أن نندم على عدم الاتفاق بعد فوات الأوان.

إن كل قطرة دم تسيل هي خسارة لسورية ولشعبها وللأمة العربية، وما لم نتدارك هذا الوضع بالحكمة والمسؤولية الخلقية والوطنية والقومية فإننا نؤسس لدم يسيل، وموت ينتشر، ودمار يعم، ولأوضاع تودي بنا وبغيرنا إلى الكوارث. إن المكابرة " وركوب الرأس" في هذا المجال سقوط في الجاهلية والجهل حتى لا نقول العته والخبل، وموت للحكمة والعقل والإنسان، ولا منتصر على المنطق والحكمة وإنسانية الإنسان، مهما بلغ من القوة والجبروت وجمع من التحالفات والصداقات وكان على كثير أو قليل من الحق.. ومن ينتصر بقوته أو قوة سواه على أخيه ووطنه وشريكه في الوجود والمصير خاسر ويجر وطنه وشعبه إلى الخسران!! إن من يتربص بنا لكي يقتلنا ويقتل الحق والمنطق فينا عدو، ومن ينصح لنا ويتدبر معنا أمورنا ويلتمس معنا المخارج من الأزمة بالتفاهم و الحوار والتعاون وحقن الدماء والعودة إلى دفء البيت الواحد وأمنه.. هو صديق.. وقد خبرنا العداوة والصداقة على مدى عقود وعقود من الزمن، وعرفنا الدول والشعوب والسياسات في السلم والحرب.. وآن لنا أن نرفع مصلحة الوطن والأمن والأمان والبناء والإصلاح والعقل والحكمة والمسؤولية الخلقية والإنسانية فوق كل اعتبار وفوق كل عرض ومرض يصيبنا أياً كانت أسبابه، لأن تجذر الحقد في الأنفس بلاء وابتلاء لن يسفرا إلى عن فناء وإفناء.. وفي الإقبال على السلم الداخلي وأمن الأنفس وأمانها واطمئنانها في أوطانها بكرامة وحرية وعدالة ومساواة.. انتصار لبلدنا ولإنسان فينا ولكل منا، وانتصار ولأمتنا وللخير الذي أعتقد أنه سيبقى فينا ما اهتدينا بكتاب الله واتبعنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدل واعتدال، وما اتبعنا المنطق ونهج الإيمان القويم وطرق الشعوب إلى الخير والصلاح والنهضة والنصر والبناء.

والله من وراء القصد