خبر العرب: حراكهم، أنظمتهم، « معارضاتهم »، وهويتهم../ علي جرادات

الساعة 10:37 ص|23 ديسمبر 2011

العرب: حراكهم، أنظمتهم، "معارضاتهم"، وهويتهم علي جرادات

كأية هوية، فإن تبلور الهوية العربية، (فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً)، لم يكن، وما كان ليكون، معطىً منجزاً ونهائياً ومنغلقاً، بل، هو عملية، (صيرورة)، من التفاعل والتحوير والتطوير والتحول، ازدهاراً وركوداً. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان العرب نجحوا في تجسيد هويتهم في دولة الأمة الواحدة، ولما كان مرَّ قرن من الزمان، على محاولتهم الأولى لبناء هذه الدولة، دون الظفرِ بها، بل، ولما تقهقرت مشاريعهم القُطرية، ووصلت إلى طريق مسدود، وعجزت، حتى، عن بناء دولٍ وطنية ديمقراطية ومستقلة اقتصاديا، بل، ولما أفضت إلى مجرد دول شكلية الاستقلال والسيادة، تابعة ومنهوبة، وتتهددها مخاطر التفتيت والتجزيء والتقسيم.

 

وأكثر، فإن تبلور الهوية العربية، وبقدر ما يتعلق بتوافر الوعي والشعور الجمعيين لدى العرب، (أفراداً وجماعات)، بوحدة الوجود والمصير، ارتباطاً بما يجمعهم، ويميزهم عن غيرهم، من سمات روحية وفكرية ونمط حياة وطرائق إنتاج، اقتصادي وثقافي، فإنه يتعلق أيضاً بوجود "آخر"، متفوق، ناهب ومسيطر، يهدد هذا التبلور ويعيقه. ولو لم تكن الحالة كذلك، لما كان رواد النهضة العربية، قبل قرنٍ من الزمان، بحاجة إلى السؤال: "لماذا تقدم "الغرب" على العرب"، الذين جرى تقسيم وطنهم إلى عدة دول، بـ"مشرط" تقاسم النفوذ بين دول الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الأولى.

 

وفي الحالات جميعاً، فإن القول بالهوية العربية، لا يعني تطابق مكوناتها دون اختلاف وتنوع، ذلك أن الهوية، أية هوية، هي وحدة من التطابق والاختلاف، ما يحيل إلى ضرورة توافر الشرط الديمقراطي الداخلي، كشرط لازم لبلورتها.

 

هنا، وبالنظر إلى ما بين نسبية المعرفة وموضوعيتها، وبين نضج السياسة وجديتها، من علاقة وطيدة، طابعها التغذيةِ والتغذي، أو الفعلِ والانفعال، (إيجاباً وسلباً)، فإن التَمَثُّل المعرفي والسياسي المنقوص والجزئي والمشوه للحقائق أعلاه فيما يتعلق ببلورة الهوية العربية، كان، ولا يزال، هو العامل الأساسي في تعثر صيرورة بلورتها وحمايتها، فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ذلك على الرغم من وجود العرب على أرضهم منذ آلاف السنين، وعلى الرغم مما يجمعهم من عوامل جغرافية وتاريخية واقتصادية وثقافية، وعلى الرغم من انقضاء قرنٍ على محاولات تجسيد هويتهم في دولة واحدة، (الدولة الأمة)، منذ انفصالهم عن الإمبراطورية العثمانية التركية.

 

أجل، إن التمثُّل المعرفي والسياسي المنقوص والجزئي والمشوه لحقائق صيرورة تبلور الهوية العربية، (كأية هوية)، هو السبب الأساسي في إطالة مدة تبلور الهوية العربية، وفي ما شاب مسيرتها من تشويه، تجلى، بصورة أساسية، في الفصل بين القومي والوطني من جهة وبين الديمقراطي من شروط تبلورها، إذ صحيح، أنه، ومنذ الحرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى تقسيم الوطن العربي، صار التجسيد العملي لهوية الأمة العربية، صيرورة ذاتية، دخلت في صراع موضوعي مفتوح، مع آخر متفوق، ناهب ومسيطر، لعب، وما زال يلعب، دوراً في إفشال، محاولات العرب بلورة هويتهم، ما فرض دخولهم في مرحلة "التحرر القومي والوطني"، لكن هذا ما كان ينبغي له أن يقود إلى إلغاء الحديث عن المواصفات الديمقراطية للدولة العربية بمفهومها الفلسفي والنظري، لمصلحة اقتصار الحديث عن دورها في تحديد الهوية العربية وحمايتها، ذلك أن الفصل بين النهج الديمقراطي والنهج الوطني والقومي المعادي للاستعمار والتبعية، هو فصل تعسفي، افتعلته أنظمة سياسية استبدادية، وغطاه، بوعي أو بجهالة، الكثير من المفكرين والمنظرين العرب، الذين، على اختلاف مشاربهم، تجاوزا، بدرجة كبيرة، وكسمة غالبة، "الطابع الاستبدادي والشمولي لسلطة الدول القُطرية العربية"، وتساهلوا مع خرقها للدساتير والقوانين الناظمة، وغضوا الطرف عن قمعها للمعارضة، ومصادرتها للحريات وحقوق التعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب و...الخ من صور القمع للمجتمع العربي، (بشقيه السياسي والمدني)، الذي خضع لعملية تجريفٍ منقطعة النظير، حرمته من التطور والازدهار، وطمست ما يتوالد في أحشائه من طاقات شبابية ناهضة، وأجيال جديدة، لديها الكثير مما تقدمه، وتعطيه، وتضيفه، لصيرورة تحديد الهوية العربية وبلورتها وحمايتها، فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

 

ظلَّ الأمر كذلك حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي، حيث لم تثمر التجربة العملية لصيرورة تحديد الهوية العربية عن ملامح دولة قومية واحدة، مثلما لم تفضِ إلى استرداد فلسطين، بل، وتعرض العراق للاحتلال المدمر، فيما يتعرض الصومال للتمزيق، وانتهى السودان إلى تقسيم فعلي، ينذر بوقوع شبيهه في أكثر من قُطر عربي، لتتضح بذلك أكثر فأكثر، أهمية توافر الشرط الديمقراطي لبلورة الهوية العربية.

 

هنا، كان طبيعياً أن يهبَّ الشباب العربي، في أكثر من قُطْرٍ عربي، مطالبين بمواصفات ديمقراطية للدولة القُطْرية العربية، متجاوزين بذلك ما كان سائداً من تبريرات "سلطوية"، غيبت دور البعد الديمقراطي وأهميته، في صيرورة تحديد الهوية العربية وبلورتها وحمايتها، وفصلته، بتعسف، عن دور البعدين الوطني والقومي في هذه الصيرورة. فقد كان لافتاً، تطور هذه الهبات الشبابية، (على عكس هبات شعبية سابقة تم قمعها وإخمادها)، إلى انتفاضات شعبية عارمة ومتواصلة، انتقلت بسرعة قياسية من قُطْرٍ عربي إلى آخر، بل، وتطور مطلبها بإجراء تغييرات إصلاحية سياسية واجتماعية واقتصادية، إلى مطلب "الشعب يريد إسقاط النظام"، كناظم سياسي عام لهذه الانتفاضات، التي طال لهيبها أنظمة "الاعتدال" و"الممانعة"، على حد سواء.

 

بهذه الانتفاضات الشعبية، التي فجرها الشباب العربي، استبشر كل عربي بدفع صيرورة بلورة الهوية العربية، خطوات كبيرة للأمام، عبر إغنائها، وتحصينها، بشرطها الديمقراطي، لكن، ومن أسف، فإنه، وبينما شكَّل استبداد الأنظمة وقمعها وفسادها وتبعيتها، تعطيلاً تعسفياً لهذا الشرط، نجد أن "المعارضات" العربية، التي، بتياراتها المتنوعة، لم تحظَ بشرف إشعال الشرارات الأولى لهذه الانتفاضات الشعبية، حيث لحقت بركبها بعد تردد، بل، وعقدت العديد من المساومات مع بنية أنظمة أطيح رأسها، قد رأت في نفسها، (لمجرد اختلاف الاسم)، وليس في النظام الديمقراطي، بديلاً لأنظمة الاستبداد الآيلة للسقوط، لتعود ثانية للصراع الذاتي التائه فيما بينها، على قضايا، هي عملياً خارج الأجندة الفعلية للشعوب العربية وانتفاضاتها، بما يهدد بتحويل الخلاف الفكري والسياسي المشروع بينها، على المواصفات الديمقراطية الأمثل للدولة ونظامها السياسي، إلى خلاف على هويتها. وتبدى ذلك جلياً، سواء في تجرؤ بعض أطراف هذه المعارضات على الاستعانة بالأجنبي، الغربي أو الإقليمي، وطلب تدخله، كما حصل في ليبيا، وقد يحصل في سورية، أو في غلو المعارضات "الإسلاموية"، ذات المنشأ النفطي الوهابي، التي عادت سريعاً إلى ديدن تقسيم المجتمع إلى "فسطاطين"، أحدهما "مؤمن"، والآخر "كافر"، كما يحصل في مصر الآن.

 

إن غرق هذه المعارضات، بعد الأنظمة، وعلى طريقتها، في بحر العجز عن التمثُّلِ المعرفي والسياسي لحقائق بلورة الهوية العربية، (سيان بوعي أو بجهالة)، لا يهدد فقط مصير ما أطلقته الانتفاضات الشعبية من صيرورة للتحول الديمقراطي، الذي من شأنه تعزيز البعد الوطني والقومي للهوية العربية، بل، ويهدد أيضاً بالعودة إلى خلط الحابل بالنابل في صيرورة هذه الهوية، التي يبقى شأن بلورتها، قابلاً للتفاعل والتحوير والتطوير والتحول، من جهة، ومرهوناً بتوافر شرطها الديمقراطي، الذي يقر بحقيقة أن الهوية العربية، (كأية هوية)، هي وحدة من التطابق والاختلاف بين أفراد، (مواطنين)، متساوين فيما بينهم، بصرف النظر عن الدين والطائفة والمذهب والجنس...الخ، من جهة ثانية، ومرتبطاً بحسم علاقة التبعية للغرب، لا بوصفه "كافراً"، بل بوصفه، ناهباً ومسيطراً، من جهة ثالثة.