خبر في مواجهة بديهيات الخطر الإسرائيلي .. بلال الحسن

الساعة 05:23 م|19 ديسمبر 2011

في مواجهة بديهيات الخطر الإسرائيلي .. بلال الحسن

 

منذ أن أعلن الرئيس محمود عباس أنه لن يمارس المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لقي ترحيباً من الولايات المتحدة الأميركية. وكان يفترض في هذا الترحيب أن يفتح الباب أمام العمل الدبلوماسي. وأملاً في ذلك ذهب الرئيس عباس إلى الأمم المتحدة، عازماً على إلقاء خطاب أمام مجلس الأمن باعتباره الهيئة السياسية الدولية العليا التي يمكن أن تبت بأمر من هذا النوع، ولكن تم عملياً إيقافه أمام باب المجلس، ومنع عملياً من الدخول إليه، فألقى خطابه أمام باب المجلس، ثم تسلم المجلس منه الخطاب، وكفى الله المؤمنين شر القتال. وبهذا تكون الولايات المتحدة الأميركية قد دفعت باتجاه وقف العمل العسكري، ثم دفعت باتجاه وقف العمل السياسي الدولي، وطرحت فقط أن يجلس الطرفان على طاولة التفاوض الثنائي بينهما، وهو أقصى ما تريده "إسرائيل".

 

وحين أعلن عباس أنه مستعد للعمل السياسي على قاعدتي حدود 1967 ومبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة في حرب ذلك العام، أعلنت "إسرائيل" رفض قبول هاتين القاعدتين، وطالبت كما هي العادة بمفاوضات دون شروط مسبقة، ولكنها بادرت فوراً، وكنقيض لقاعدتها التفاوضية، بالإعلان عن أنها تريد تفاوضاً يضمن لها أمنها. وترجمة ذلك إسرائيلياً أنها تريد تفاوضاً يعدل في حدود عام 1967، والوصول إلى حدود جديدة، تطرح هي صيغتها، وتقرر هي إن كانت تضمن أمنها أم لا.

 

لقد جاء الرئيس محمود عباس إلى السلطة حاملاً شعار وقف العمل الفدائي، ومؤكداً شعار التفاوض والتفاوض فقط، ولكن الرد الإسرائيلي أغلق الباب أمام هذا المنهج بالشروط التعجيزية التي وضعها. وبذلك يكون طريق الدبلوماسية قد أغلق، كما تم من قبل إغلاق باب المقاومة المسلحة.

 

يلقى هذا النهج الإسرائيلي في العمل تأييداً من الولايات المتحدة الأميركية، وهو ليس نهجاً يدعم مبدأ التفاوض، بل هو منهج يدعم ما تطلبه "إسرائيل" فقط. ومن شأن هذه النتيجة التي انتهت إليها الأمور أن يتجمد التفاوض السياسي، وأن يغلق بابه نهائياً. وحين تصل الأمور إلى هذا الحد لا يكون هناك من خيارات منطقية سوى أمرين:

 

الأمر الأول: العودة الفلسطينية إلى المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي.

 

والأمر الثاني: الرضوخ لمطالب "إسرائيل" والتفاوض معها حسب صيغتها، وصيغتها ترفض منطق الشرعية الدولية التي تقوم على قاعدة ضرورة الانسحاب من أرض احتُلت بالقوة. وعند هذه النقطة يكون طريق المفاوضات قد سد نهائياً.

 

وبسبب وجود احتلال لأراضي 1967، وبسبب رفض منهج محمود عباس الداعي للتفاوض (فقط) حسب القانون الدولي، تنشأ الحاجة إلى وجود بديل لكل هذه الطرق المسدودة. والبديل الموضوعي الوحيد هو العودة إلى منهج المقاومة المسلحة للاحتلال.

 

ولكن ما هو قائم على الأرض هو أن الاحتلال الإسرائيلي مستمر لأراضي 1967، وهو أن المقاومة المسلحة للاحتلال غائبة نهائياً، بل ويعيش الاحتلال الإسرائيلي الآن حالة اطمئنان، وحالة هدوء، وهو ما يغري "إسرائيل" بأن تواصل احتلالها ما دامت لا تدفع أي ثمن لمواصلة هذا الاحتلال، وما دام الدعم الأميركي لموقفها قائماً لا يتبدل.

 

نظرياً ومنطقياً.. هناك احتمال وحيد لتحريك هذا الوضع الجامد، وهو بروز إرادة عربية تتطلع إلى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وإنهائه. ولكن هذه الإرادة العربية معطلة بسبب الموقف الفلسطيني، مهما بدا هذا الأمر غريباً وعجيباً.

 

الموقف الفلسطيني الآن يقوم على قاعدتين: القاعدة الأولى رفض منهج مقاومة الاحتلال بالقوة المسلحة. والقاعدة الثانية أن الموضوع المطروح هو موضوع فلسطيني، وهو موضوع ثنائي بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل". وهذا يعني مباشرة: إقصاء العامل العربي من الصراع الدائر مع "إسرائيل"، سواء كان الأمر من خلال المقاومة المسلحة، وهي مرفوضة، أو من خلال التفاوض، وهو معطل بشروط إسرائيلية وبدعم أميركي للشروط الإسرائيلية.

 

لقد كانت قضية فلسطين منذ أن قامت قضية عربية، وكان الصراع منذ أن قام صراعاً عربياً إسرائيلياً، ولكن منذ اتفاقات أوسلو المشؤومة برز النهج القائل بأن الصراع فلسطيني فحسب، يعالجه الفلسطينيون مع "إسرائيل". وبرز النهج الذي يحبذ أن لا يكون للعرب دور في هذا الصراع، سوى دور الدعم المعنوي لما يطلبه الفلسطينيون.

 

وحين تبلورت فكرة أن الصراع مع إسرائيل" هو صراع عربي، لم يكن ذلك رغبة في دعم الفلسطينيين وتقويتهم، بل كان تأكيداً لنهج راسخ ولا جدل حوله (حتى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993) بأن "إسرائيل" تشكل خطراً على العرب كلهم، وليس على الفلسطينيين فقط. ولكن جاءت اتفاقات أوسلو، وانتزعت «عروبة» الصراع، وأحالته إلى صراع ثنائي فلسطيني - إسرائيلي، وأحالته أيضاً إلى صراع تفاوضي لا مكان للقوة المسلحة فيه.

 

وحين نراقب الأمور الآن نجد ظاهرتين بائستين:

 

الظاهرة الأولى: أن "إسرائيل" مرتاحة إلى هذا الوضع، فهي تعيش احتلالاً هادئاً غير مكلف.

 

والظاهرة الثانية: أن هذا الاحتلال المحمي بالهدوء العربي محمي أيضاً بالرغبة الفلسطينية التي تظن أن التفاوض، والتفاوض فقط، هو الطريق المؤدي إلى النجاح، حتى قيل رسمياً وعلنياً إن الكفاح المسلح كان شراً على الفلسطينيين.

 

لقد آمنت السلطة الفلسطينية، وبخاصة أثناء رئاسة الرئيس محمود عباس، بمنهج التفاوض هذا، ولكنها فوجئت بصد إسرائيلي وأميركي، حين سعت إلى نقل هذا الصراع إلى مجلس الأمن، من خلال محاولة الرئيس عباس إلقاء خطاب في مجلس الأمن يحرك النقاش حول الوضع.

 

لقد دعت أميركا الفلسطينيين دائماً إلى وقف المقاومة المسلحة، واللجوء إلى منهج التفاوض. وحين حاول الرئيس عباس أن يكرس هذه القاعدة، معلناً أنه مع التفاوض والتفاوض فقط، اعترضته أميركا قبل "إسرائيل" على باب مجلس الأمن، وقالت لا بد من عودة الطرفين إلى التفاوض الثنائي بينهما. وموقف أميركا هذا ليس في حقيقته دعوة للتفاوض الثنائي، بل هو دعوة لتفاوض الطرفين في ظل توازن القوى القائم على الأرض، حيث الطرف الأول هو الإسرائيلي المحتل، والطرف الثاني هو الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال. وفي ظل معادلة من هذا النوع فإن المحتل للأرض هو الطرف الأقوى، وهو القادر على فرض شروطه وإرادته، الأمر الذي يعرقل أي تفاوض محتمل.

 

الأمر المهم هنا أن منهج التفاوض والتفاوض فقط قد تم تجريبه، وعلى يد الرئيس عباس، وهو أشد المتحمسين له، وكان أن واجه الصد لموقفه من قبل "إسرائيل" ومن قبل الدولة العظمى أميركا، بحيث لم يعد هناك مجال لمواصلة الجدل حول هذا الأمر وجدواه. لقد فشل هذا المنهج أيضاً، ولا بد من استخلاص العبر من ذلك. والعبر في صراعات الشعوب المحتلة أراضيها معروفة ومسلم بها تاريخياً، وهي أنه لا بد من مقاومة الاحتلال. وهذا يعني عملياً أن على الفلسطينيين واجب الإعلان عن أن موقفهم الداعي للتفاوض قد فشل، والفشل يعني دعوة الشعب الفلسطيني للعودة إلى تنشيط المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، ويعني أن على السلطة الفلسطينية مسؤولية الإعلان عن أنها لم تعد تتبنى منهج التفاوض وحده، وتدعو إلى العودة لمنهج المقاومة المسلحة للاحتلال.

 

وإذا كان قد جرى في السنوات السابقة تأكيد وتكريس منطق «فلسطينية» النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، فلا بد من الآن وصاعداً من تأكيد وتكريس «عروبة» المواجهة مع "إسرائيل". وتعني عروبة المواجهة مع "إسرائيل" دعماً مباشراً للفلسطينيين، ولكنها تعني أيضاً أن العرب يدركون خطورة المشروع الإسرائيلي، وهم مستعدون لمواجهته، إما مباشرة، وإما من خلال دعم النضال الفلسطيني بكل أشكاله وصوره.

 

يكابر كثير من العرب، ويرفضون الوصول إلى هذه النتيجة، ولكن أي قراءة استراتيجية للواقع تؤكد أن مواجهة "إسرائيل" هي مصلحة عربية مثلما هي مصلحة فلسطينية.

 

صحيفة الشرق الأوسط