خبر ليس الشديد بالصُّرَعَة.. علي عقلة عرسان

الساعة 12:45 م|16 ديسمبر 2011

ليس الشديد بالصُّرَعَة.. علي عقلة عرسان

هناك حراكان متواكبان باتجاه الأزمة في سورية، عربياً ودولياً، أحدهما وهو الأبرز قد يفضي إلى نتائج إيجابية عملية على طريق التوجه نحو حل، ويبدو أنه يحمل خلاصة تقاطع رؤى ومواقف ومصالح ونتائج لاستخلاص وقراءات تطور الحوادث والأوضاع في سورية والمنطقة، وهي قراءات مختلفة من حيث المعطيات والاستنتاجات عن تلك التي حكمت التحركات والمواقف السابقة لقوى عربية وإقليمية ودولية حتى الآن.. والآخر، وهو أقل بروزاً من الأول، يتابع المسارات والقرارات والمواقف المعلنة منذ بداية الأزمة تقريباً، ولكنه معني بالتخطط والتهيئة لعمل ينطوي على تدخل خارجي، أو هو يهيئ كل ما ينبغي لذلك التدخل فيما إذا استقر رأي بعض الجهات العربية الدولية عليه.   

ومؤشرات التحرك الأول وما ينطوي عليه تبرز على الخصوص في:

1 - تأجيل اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي كان مقرراً يوم السبت في القاهرة إلى موعد آخر، والاكتفاء بانعقاد اللجنة في الدوحة، وهو تحرك يتزامن مع التحرك الذي بدأه العراق، بعد عودة نوري المالكي من واشنطن يحمل رأياً أميركياً وأوربياً لخصه للصحفيين في الطائرة التي أقلته بقوله:" ان الولايات المتحدة وأوروبا متخوفتان من مرحلة ما بعد نظام (الرئيس) بشار الأسد. لذا تفهمتا المبادرة» يعني ما سماه المبادرة العراقية، وقد نفى صفة المبادر عن التحرك العراقي وزير الخارجية هوشيار زيباري مؤكداً أنه تحرك لإنجاح مبادرة الجامعة العربية وتوقيع البروتوكول بينها وبين سورية.

وهذا التحرك يرمي إلى عقد لقاءات حوارية/ تفاوضية بين النظام في سورية وأطراف المعارضة قد تفضي إلى حلول.. وهناك لجنة عراقية ستتوجه إلى دمشق لهذه لغاية، ولقاءات عراقية وأخرى للأمين العام للجامعة مع أطراف من المعارضة لهذا الغرض.

أما

2 ـ تقديم روسيا مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي حول الأزمة في سورية، ترافق الإعلان عنه مع وجود نائب الرئيس فاروق الشرع في موسكو، وأبرز ما في المشروع الذي هو تطوير لمشروع روسي ـ صيني سابق حول الأزمة، أنه " يدين استخدام العنف من الطرفين"، و" يدعو كل الأطراف إلى وقف العنف، ولم يتضمن تهديدا بفرض عقوبات" ويشير إلى "الاستخدام غير المتكافئ للقوة من جانب السلطات السورية"، وقد رحبت الدول الغربية بالمشروع مع ملاحظات وقالت هيلاري كلينتون إنه "توجد في هذا المشروع بعض النقاط التي لا يمكننا الموافقة عليها".

  أما مؤشرات التحرك الآخر فهي:

أ – اجتماع مجلس الأمن القومي التركي يوم الأربعاء الماضي، لبحث ما يحتاجه الجيش التركي إذا ما تقرر التدخل في الشأن السوري، أو استدعت الظروف ذلك التدخل.

ب ـ وجود القوات البحرية الأميركية في البحر الأبيض المتوسط، قريباً من الشواطئ السورية، وبينها حاملة الطائرات الحديثة جورج بوش.. تحرك قطع من الأسطول الروسي نحو البحر الأبيض المتوسط، وبينها حاملة الطائرات الروسية كوزنيتسوف.. واستعداد دولة عربية أو أكثر بتمويل التدخل العسكري في الشأن السوري، بما يربو على مليار ونصف المليار دولار ، إن صحت الأخبار وصدقت قنوات لتسريب.

ج ـ زيادة استعداد جيش العدو الصهيوني لعدوان ومشاركة في التدخل فيما إذا حدث.

وترجيح كفة التحرك الأول عندي أكبر وأسلم، واحتمالات نجاحه ووفرة حظوظه أكثر، من وجهة نظري، لأسباب كثيرة يأتي على رأسها إمكانية انتشار نار الحرب في المنطقة وعلى مستوى إقليمي يتعدى حدود سورية بكثير، ويؤثر حاضراً ومستقبلاً على بلدان ومناطق قد تبدو بعيدة عن التأثر بها، وقد يتداخل العنف الطائفي والمذهبي والقومي ليجعل من المنطقة كلها ساحة له، ويجعلها عرضة للدخول في صراعات دامية لا يعرف مداها.. ولن يفلت من ذلك بطبيعة الحال الكيان الصهيوني، الربيب المدلل للقوى الغربية الاستعمارية والعنصرية، مما يجعل التدخل الدولي يأخذ أشكالاً أخرى من المواجهات المكلفة جداً، بشرياً واقتصادياً واجتماعياً، بين قوى وأطراف لا يمكن تخيل ما يسفر عنه اشتباكها من نتائج.. وهذا ما لا تريده أو لا تطيقه الآن القوى الاستعمارية بالتحديد، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تخرج من العراق، وتعاني في أفغانستان، وتعيش أزمة مالية هي وحليفاتها الأوربيات، وتشرف على عام انتخابات برلمانية ورئاسية.  

إن التوجه الأوفر حظاً والأجدر بأن يتَّبع، وطنياً وقومياً واجتماعياً ومنطقياً وأخلاقياً وإنسانياً، هو التوجه نحو الحراك السلمي، حراك الحوار والتفاهم والتعاون للخروج من الأزمة والوصول إلى ما يحقن الدماء ويوقف القتل وإراقة الدمار والإرهاب وتدحرج كرة العنف العمياء، ووضع الوطن والشعب على طريق التغيير الديمقراطي السلمي الصحيح، وتداول السلطة بحكمة ومسؤولية وطنية عليا وإرادة شعبية راسخة، واحترام للدستور وإرادة الشعب الذي هو مصدر السلطة وصاحب السيادة والقرار، وتحقيق الإصلاح المنشود في كل وجه من وجوه الحياة والعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري، إصلاح الأرواح والأخلاق والمعاملات والتربية والأوضاع والمؤسسات والوزارات والعلاقات الخاصة والعامة، وحماية الحقوق والحريات الفردية من العبث، ووضع حد للفساد والإفساد، فساد الرؤى والأفكار والسلوك والأعمال والمعاملات، وإفساد الأشخاص والمؤسسات، ورفع مراتب الأشخاص والأعمال حسب القدرة والكفاءة والمعرفة والخلق والسلوك والانتماء الوطني والقومي، وليس حسب المعايير المريضة والفاسدة المفسدة، ولا حسب الفئات والقرابات والعلاقات والمنافع والانتماءات الضيقة، أياً كان نوعها ومصدرها.. إلخ.    

      إن التوجه نحو الحراك السلمي.. نحو الحوار والتفاوض والتفاهم على التغيير والإصلاح، بمسؤولية وتعقل ووعي، وفي ضوء المصالح الوطنية والقومية العليا، يقتضي من جميع القائمين عليه، والساعين إليه، والمعنيين به.. لا سيما الأطراف الداخلة فيه، يقتضي النزاهة والحكمة وتحري الحقيقة والمصلحة العليا للشعب والوطن بمن فيهم كل الأطراف المعنية، ويقتضي من الأطراف المباشرة بالصراع، أن تقطع نهائياً مع أية علاقة أو مصلحة أو صلة أو ارتباط لا يكون الوطن مبتدأه ومنتهاه، والإخلاص للأمة والشعب معياره القيمي، والمصلحة الوطنية العليا رائده وهدفه.. لكي يتمكن كل منهم من أن يرى الحق ويتخلص من مكونات الحكم وفق الهوى والغرض والضغينة، ومصلحة أطراف أخرى تربطه بهم روابط ويطلبون إليه تحقيق مصالح، أياً كانت وأياً كان كان مسوغها ومن يقوم بها. لن تنجح جهة راعية لحوار أو وساطة أو تفاوض أو.. أو.. لا تكون موضوعية وعقلانية وأخلاقية وإنسانية في رعايتها ودفعها لمركب الحل نحو شاطئ آمن، ولن ينجح طرف من أطراف الحوار أو التفاوض يضع في اعتباره القوة حكماً وقهر الآخر وإجبارهم على أن يرو ما يرى " أنه جادة الصواب"، أياً كانت القوة التي يستخدمها وأياً كان مصدرها.. ولن يفلح، فضلاً عن أن ينجح ويكسب قلوب أبناء الشعب واحترام الناس، لن يفلح من يستعدي قوة خارجية ليستعين بها على شريكه في الوطن والمواطنة والمصير، لأنه إنما يستهدف شعبه ووطنه والحقيقة والعدالة في نهاية المطاف، سواء أراد ذلك أم لم يرده، وسواء أغلب خصمه أم غلبه خصمه.. لأن القوة الخارجية ستدمر وطنه وتحرق شعبه وتفرض الاستعمار والتخلف عليه وعلى بلده، وتقضي على كل العلاقات السليمة والحميمة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة، عندما يواليها فريق ويعاديها فريق في وطن هو للفريقين.. ولأن ذلك الفعل " استعداء الآخرين الاستقواء بهم" لن يحل المشكلات على المدى البعيد بل يولدها، وهو أمام الشعب والحقيقة والضمير والعالم كله، فعل لا يعلي شأناً ولا يرفع مكانة ولا يفضي إلى فضيلة.. إذ لا غَلب مطلقاً لمن يغلب وطنه وشعبه بقوة أعداء وطنه وشعبه وأمته وقضاياه، ويقود الناس إلى التهلكة.

نحن في وطننا التاريخي سورية، مهد الحضارة وقلب العروبة وبيت التسامح الكبير، وفي هذا المفصل التاريخي من الزمن العربي الـ.. وعلى مفترق أحداث جسام وأمام خيارات صعبة وخطيرة ومكلفة تضعنا أمام السلم أو الحرب.. لا بد أن ندرك أن سورية بلد له ثوابت ومبادئ وتاريخ ولن يخرج على ذلك التاريخ مهما كلفه الأمر، وأن نملك القدرة على الرؤية بحكمة والتصرف بشجاعة وترفع ومسؤولية.. أياً كان موقع أي منا وموقفه من الحدث، وأياً كانت جراحه ومكاسبه أو خسائره، لأن القضية تتصل بوطن ومصير بلد وشعب وخيارات أمة. وعلى من تأخذه العزة بالنفس أو بالإثم أو.. أو.. ومن يعتد بذاته وقدراته وتحالفاته ومرجعياته وتأخذ منه الحماسة مأخذاً، أن يتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " ليس الشديد بالصُرَعَة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، لأن في ذلك عودة للعقل والروية التدبر، وأن عليه أن يعرف أنه لا يغامر ويقامر بمصيره الشخصي أو مصير فئة قريبة منه هو مسؤول عنها حياة ومعاناة وموتاً، بل يغامر ويقامر بمصير شعب ووطن وأشخاص يعدون بالملايين، لم يفوضوه مطلقا ولن يفوضوه أبداً بأن يأخذهم إلى المحارق والمهالك بعصبية أو عصاب، وأن يضحي بهم على مذابح غير طاهرة وفي قضايا لا تتصل بالوجود والمصير وغاية العدل والدين.. وإنه إنما يفعل ما يفعل في سبيل سلطة يبقيها أو يعتليها، وأن الشعب هو مصدر السلطة ومن يمنحها أو يمنعها، وأنه أي الشعب أكبر وأوسع وأكثر من كل تقديرات المقدرين، ويعبر عن رأيه الحق في إطار حرية وديمقراطية ومساواة تضعه وتضع سواه أمام الخيارات الصائبة والحقائق الدامغة.

إننا لا نتوجه بقولنا هذه إلى أعداء الأمة، ممن نعرف عداءهم التاريخي لنا وحقدهم على الشعوب، وتجارتهم المفتوحة بالدم السلاح والسلع والقيم العليا التي يحولونها إلى سلع ويدخلونها ويدخلون بها ميادين سياسة تحردت من الأخلاق.. فأولئك شأنهم عندنا معلوم وتصرفهم تجاهنا مفهوم، والمرء لا يطلب من عدوه التاريخي أن يكون رحيماً وعادلاً ونزيهاً ونظيفاً و.. بل نتوجه إلى إخوتنا وأبنائنا.. إلى لحمنا ودمنا، إلى شركائنا في الحياة اليومية والمصير والتاريخ والحضارة لنقول لأنفسنا ولهم: نحن أحق بأن نحق الحق بأنفسنا وعلى أنفسنا.. فاغسلوا أيديكم وقلوبكم من كل ما يشوهها أو يشوبها بما لا ينظفها ولا يشرفها وتعالوا جميعاً إلى كلمة سواء..

والله ولي الصالحين.

دمشق في 16/12/2011

                                                                علي عقلة عرسان