خبر « الربيع العربي » ثقافة التغيير<<علي عقلة عرسان

الساعة 07:46 ص|09 ديسمبر 2011

"الربيع العربي" ثقافة التغيير<<علي عقلة عرسان

 

يعود السفير روبرت فورد إلى دمشق حاملاً في جعبته إلى جانب " الديك الرومي" الذي وعد به العاملين في السفارة، احتفالً بعيد الشكر، أسراراً وبرامج وهدايا من النوع الأميركي الثقيل، فهل إلى خير من سبيل يا ترى أم أن الأميركي هو الأميركي بما عرف عنه من أبداع في الشر والنهب والموت مع التلاعب بالمفاهيم والقيم والأحكام والمعايير، منذ إبادة الهنود الحمر وصولاً إلى تدمير العراق وأفغانستان وليبيا، مروراً بالحروب المدمرة في كوريا وفييتنام ومناطق أخرى من العالم؟!لا يمكن التفاؤل مع استمرار نزوع الاستعماريين الجدد للهيمنة والعبث بدماء الناس واستقرار البلدان، ولا أمل في أن يصبح قابيل التاريخ هابيل النزوع والتوجه.. فالشر هو الشر مهما غير في ألوانه وتشكلاته ادعاءاته.

أنا لا أطمئن إلى سياسي أميركي ولا لسياسة أميركية، ولا أدعو إلى الاطمئنان لأي منهما، وحين تلك الحرباء تغير لونها وخطابها وتحالفاتها وتوجهاتها عليك أن تزداد حذراً وخوفاً، إذ يبقى هدفها الأعلى وما هو نصب عينيها الغدر والمكر والقتل والنهب والاستخفاف بمصالحهم الآخرين وحياتهم وحقوقهم وحرياتهم، على الرغم من ادعائها العريض بنصرة الشعوب والحقوق والحريات، وهي تروج لذلك بوصفه سلعاً سياسية، لتكسب وتنجح وتربح وتذبح.  

لقد جاء السيد فورد مع حاملة الطائرات جورج بوش وقطع بحرية تدميرية أخرى، فاحذروا الشيطان الذي ما فتئ يجول ويصول في منطقتنا وهمها الوحيد ومصلحتها العليا: " إسرائيل، والطاقة، والأسواق من سوق لسلع إلى سوق السلاح والتجارة بدم الشعوب وآلام البشر.

كان حديث عرب كثيرين في الأيام الماضية عن " الربيع العربي" وما بعده، على الرغم من أنه ما زال محملاً بالكثير من سحب الشتاء وموجات الزمهرير والكثير الكثير من العواصف والغوامض والأسئلة والاحتمالات المفتوحة على مختلف الخيارات.. ومركب الربيع العربي المزدهي بألوان قوس قزح، والمتلفع بكل ألوان الطيف البشري، ماديها ومعنويها، يبحر في دوامة العاصفة، يبحث عن اتجاه ومرفأ ومرسى وزهر وازدهار..

كلنا يتطلع إلى مستقبل عربي هو بمثابة ربيع حقيقي، يحمل التجدد والتغيير، ويحمل الأمل والأمن والحرية ورائحة الحياة لأحياء يتحركون في القرى والمدن ومساحات الأرض ويفتقدون معنى الحياة والشعور الحقيقي مدخله الإصلاح، وقد يكون الإصلاح فيه ادعاء لركوب الموجة نحو السلطة والتسلط وما شابه ذلك وشاكله.

الربيع الذي يتكلم عنه عرب من العرب ويحلمون به يقوم على التغيير، ويتلامح الإصلاح فيه غلالات تخفي وتفضح أكثر مما تعد وتكشف وتبهج، وربيع التغيير عند بعض المتعلقين به والغارقين في دوامته، ربيع دم يقولون أنه لا بد منه لأنه ثورة والثورة تكتب بالدم، وتحتاج إلى سنوات وسنوات، وإلى عقود من الزمن وعقود، لكي تزهر ويتذوق الشعب ثمارها؟ ويسوق بعضهم الثورة الفرنسية التي احتاجت إلى أكثر من مئة سنة حتى أثمرت الجمهوريات الفرنسية المستقرة، وكذلك الروسية البلشفية بعقودها المختلفة من حيث الثمار والتكاليف.. إلخ.. ومثل ذلك أو قريب منه ينسحب على كثير من الثورات أو عليها جميعاً.. و الرؤية التي تحققت نتيجة مخاض اجتماعي وسياسي وثقافي امتد مئة سنة.

 والتغيير مطلب ملح ولكن الرؤية المتبلورة ذات الفلق الوضيء هي الأهم عندما يتحرك المغيرون نحو تحقيق بيئة التغيير السليمة التي تضمن غرس شتلاته في تربة مؤهلة للإنبات والنمو؟.. نحن نريد التغيير، وشبابنا يريدونه سواء أكان مدخله الإصلاح أم الإسراع نحو ثماره "بحرق المراحل"، ولكن هل لا بد من إراقة الدماء والتمكين للفتن والأحقاد والاضطراب والفوضى لكي نصل إلى مداخل التغيير " الربيع"؟! الأمر لا يتوقف على سلطة دون أخرى ومغيرين بعد مغيرين، بل بثقافة التغيير وأهدافه وأدواته وتكاليفه ونتائجه، وبمن يستفيد منه ويجني ثماره بعد دفع تكاليف الدم والتكاليف المادية والمعنوية الأخرى.. وهذا لا يعني وضع العراقيل بوجه التغيير الموضوعي المطلوب، ولا دعوة لتراجع عن المضي في مساراته، ولكنه يعني التبصر في الدروب والخطا والأثمان والنتائج، وفي حقيقة أهم وأعظم تشكل المدخل الحقيقي إلى كل تغيير وهي امتلاك ثقافة التغيير والقدرة على التبصر والاستنتاج لكي لا ندخل دوامات فوضى وعنف وحمامات دم يقحمنا فيها الآخرون أو نقتحمها بحمية جاهلية فتجعلنا ناراً ووقوداً للنار.. إن المطلوب أن نخوض عملية التغيير ونحن نمتلك القدرة على الرؤية والبصيرة التي تجعلنا نختار أقصر الطرق وأقلها تكلفة للوصول بالمنطق والحكمة والحنكة والمعرفة والتقوى إلى ما نريد دون إراقة دم وغرس حقد وخدمة برامج الأعداء..

وإرادة التغيير تستدعي بالضرورة ثقافة التغيير وتقوم علها، وهي ثقافة شاملة وعميقة وأصيلة، أو هكذا ينبغي أن تكون. وموضوع التغيير مطروح في الوطن العربي وعليه، بما في ذلك التغيير في المجال الثقافي، ونحن مع التغيير الذي يحقق التطوير والتقدم ويؤسس للنهضة والتنمية البشرية والإنسانية ويخلق ظروفا أفضل للإنسان وللحياة في وطننا ولأمتنا ووطننا بين الأمم والأوطان؛ وتؤدي إليه الحكمة والمصلحة العليا، ويقود إليه العقل والمنطق وما يجعلهما سيدين حاكمين للحركة حتى لا تكون هوجاء أو عشوائية أو تخبطاً واحتطاباً بليل. وندرك أو ينبغي أن ندرك أن ذلك يحتاج إلى بلورة رؤية ومناخ جديدين وعلاقات ومعايير مغايرة للسائد التي أسفرت عن الفساد والمفسد والفاسد، لا سيما في موضوع ممارسة السلطة وتداولها وعلاقتها بالثقافة والمجتمع وبالآخر، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني ودور المرأة والشباب، وتطبيق الشورى والديمقراطية السليمة واحترام حقوق الإنسان وحرياته في إطار القانون والمسؤولية الخلقية والانتماء الوطني والقومي، وعلى رأس ما ينبغي احترامه بل تقديسه حرية التعبير واحترام حق الآخر في الاختلاف، وحضور المعارضة السياسية في الداخل تحت سقف الدساتير والقوانين وحقوق المواطنة والتزاماتها وواجباتها. ونؤمن بأن الوعي المعرفي العميق الشامل مدخل ذلك، وأن الثقافة أحد أهم مجالات التغيير وسبله وأدواته في ميادين الحياة كلها، وأن التقدم المعرفي يحقق تنمية بشرية مستدامة بالمعنى العميق والواسع للكلمة، وأن المثقفين العرب يملكون من الفكر والمعرفة والرؤية والقدرة ما يمكنهم من إنضاج مشروع حضاري على أرضية الحوار البناء والمشاركة الفعلية في إنضاج رؤية مشتركة حول ذلك الموضوع.

ومن أجل هذا وعلى طريقه، وقبل أن ينحرنا العدو في أرضنا وعلى مذابح لا تليق بالشهداء والأنقياء والأتقياء، من تلك التي يمهد لها السيد فورد ورئيسه فيلتمان ورئيسيهما كلنتون و اوباما ومن هم في فلكهم وفي تحالفات معهم، نستذكر ما دعونا وندعو إليه وما قلناه منذ سنوات بضرورة: التغيير بالثقافة انطلاقاً من ضرورة مراجعة الخطاب السياسي والديني والثقافي والإعلامي.. إلخ في الوطن العربي بمسؤولية وموضوعية واستقلالية وجرأة وسرعة، وإلى تبيّن ما يستهدفه آخر يعلن أنه يريد "تغيير الثقافة السياسية والجغرافية السياسية" في البلدان العربية والإسلامية، ويتدخل في الشؤون الداخلية بأشكال مباشرة وغير مباشرة للوصول إلى تلك النتيجة، مستبيحاً كل وسيلة وأداة في سبيل تحقيق ذلك، ناشراً الفوضى، محرضاً على العنف، ويهدد باستخدام القوة ودفع الأمور نحو الفتنة لتحقيق ذلك.. فهل هو أحرص منا على أنفسنا وبلداننا ومستقبلنا، ويريد " ديمقراطية بلا ضفاف، ونهضة شاملة تقوم على إبداع الإنسان واحترام حقه في الحياة وخلق مناخ ينمو فيه إبداعه وتتجلى فيه قدراته.. أم أنه يرمي إلى إشاعة حركة تدمير ذاتي متنامية في فوضويتها ودمويتها ترمي إلى ترسيخ وجود العدو الصهيوني وفرض الاعتراف به وهيمنته، وحقيق مشروع استعماري واسع بالتعاون مع قوى كان يلاحقها بالموت والاتهامات وتشويه الذات منذ عقود م الزمن؟! أم يضع مدخلاً لتصفية قضية هامة ما زالت تؤثر في الثقافة والسياسة والتوجهات العامة للمجتمع هي قضية فلسطين وما يرتبط بها وينشأ عنا من صراع بما يحقق تصفية لتلك القضية وفق رؤية غربية ـ صهيونية، والمجيء بمن يقبل بما يملى عليه في هذا الصدد، وهاهي ليبيا بعد التغيير تفتح بابها لسفير إسرائيلي في طرابلس؟!

 وهيمنة أميركية صهيونية في المنطقة بعد تفتيتها وإشعال نار العداوة والفتنة والصراع بين أهلها؟! إن الحوار فيما بيننا ومع الآخر يجعلنا نتعرف بصورة أفضل على ما يرمي إليه الذي يستثمر في مجالات نشر الكراهية وتوسيع دوائرها بذريعة مقاومة الكراهية: هل يريد تغيير الثقافة أم التغيير بالثقافة؟ وأي تغيير هو المنشود، وما هي حدوده وأبعاده وأهدافه، وبأية وسائل وأدوات يتم وكيف، ومن الذي يقوم به؟ ولماذا تكون المطالب منصبة على تغيير مناهج التربية والتعليم في البلدان العربية والعالم الإسلامي وليس على تطويرها بذرائع وقف التحريض؟ وما هو التحريض المطلوب وضع حد له؟ هل هو التحريض على التحرير والتصدي للمحتل ووحدة الصف والرؤية والموقف بوجه أشكال الغزو والفتن، أم هو التذكير بالحقوق والواجبات التي هي لأجيال وعليها حيال ذلك واستحقاقات قائمة منها وضع حد للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للوطن، والتصدي لهيمنة من يغتصب جزءاً منه ويريد أن ينهي كل وجود وأثر لأعدل قضية عربية في الذاكرة والوجدان القوميين ليبدأ مرحلة جديدة من القضم والهضم للأرض والحق والوجود، بعد أن يخدر الناس بشعارات وأوهام منها " سلام" ما بعده سلام؟ وما معنى المناداة بتغيير مناهج التربية والتعليم من بروكسل ومن مقر حلف الناتو بذريعة أنها تحرض على الكراهية.. ومن هو الذي يبث أغرب صور الكراهية في مناهجه التربوية وينشر الأباطيل عن الآخرين في مناهجه ليغرس ذلك النوع من الحقد الكريه والعداء الجاهل في نفوس الأجيال أهم العرب والمسلمون أم الأميركيون والصهاينة بصورة خاصة؟

إن تغيير الثقافة يعني تغيير الهوية والشخصية لا سيما عندما يطال اللغة والتراث ومنظومات القيم الروحية والخلقية، ويطال العقيدة الدينية ذاتها في بعض أسسها وفي جذور تلك الأسس؟ فهل نوافق على هذا النوع من التغيير الثقافي بالمفهوم الشامل للكلمة؟ وكيف نتصدى له إذا كنا لا نوافق عليه؟! وهل يتم التصدي في إطار مراجعة أشمل تؤدي إلى نظرة إنسانية عامة تقود إلى وضع أفضل في العلاقات البشرية بشكل عام، وتصحيح الأخطاء والتراجع عن الأحكام والمواقف المسبقة والأوهام المضللة؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هو موقف من يطرح علينا التغيير من تغيير مقابل في ثقافته ليعالج ما بها من عيوب وأورام وسموم وشوائب وأعشاب ضارة؟؟

نحن مع التغيير الذي يعمق التفهم والتفاهم بيننا وبين الآخرين ويقيم جسور الثقة والتعاون بين أمتنا والأمم الأخرى، ويحقق التطور والتقدم والتنمية البشرية والإنسانية، ويخلق ظروفا اجتماعية واقتصادية أفضل للإنسان في وطننا، في ظل حرية مسؤولة وديمقراطية سليمة واحترام تام لحقوق الإنسان وحرياته، وعلى رأس ذلك حرية التعبير، واحترام تام أيضاً لحق الآخر في الاختلاف، واجتثاث للتسلط والطغيان والفساد والإفساد والاستغلال.. ونؤمن بأننا مؤهلون لذلك ومستعدون له.. فهل نفرض هذا التغيير أم ننتظر أن يُفرَض علينا؟ وكيف نصل إلى ذلك في الدوائر المتكاملة: المجتمع والسلطة والثقافة؟!

إن الوعي المعرفي العميق والشامل هو مدخل ذلك، والحوار هو ميدانه، والثقافة أحد أهم قوى التغيير وأدواته والمجال الذي يحقق تنمية بشرية مستدامة، مادية ومعنوية، بالمعنى العميق للكلمة.. ولكن ذلك ينضج كما القمح في الحقل ولا يأتي باتفاقيات سرية  وبرامج خفية وأفعال دموية وأساطيل الناتو وصواريخ كروز ولا عن طريق سموم وفتن ومحن يزرعها الإمبريالي العنصري مباشرة أو بواسطة أدواته هنا وهناك في تربة العرب الثقافية والاجتماعية. إنه يأتي منا نحن ونستشعر ضرورته نحن ونقوم به نحن.. من دون تجييش من أي نوع وتهويش من أي نوع، ومن دون تهديد وحصار وفرض دمار بقوة الحديد والنار لتحقيق أهداف ومصالح لأعداء الأمة هي أبعد ما تكون عن مصالح الأمة العربية وتطوير قدراتها المعرفية والعلمية والتقنية والتعليمية والتربوية.

وبعيداً عن سيل الدعوات التي تتذرع بحق يراد به باطل، نسأل أنفسنا: هل نقوم بفعل منقذ في المجال الثقافي يساهم في إنقاذ على الصُّعُدِ والمستويات جميعاً.. أم أننا نسجل عجز الجبهة الثقافية ونطالب بأن تمنحنا الجهات المعنية حرية كي نتحرك، والحرية تؤخذ ولا تعطى وتصونها المسؤولية ويجدد أفقها الوعي المعرفي وتؤتي أكلها الطيب في حقول الانتماء الصحيح والصريح للوطن والأمة والهوية والعقيدة؟! هل علينا أن نيأس من الوصول إلى أهدافنا.. ونتوارى ونحن نرى اختراقا واحتراقنا هنا وانتهاكاً هناك، وإرهاباً فكريا بذريعة مقاومة الإرهاب، في مجالات التطبيع والدعاية للاستعمار والنيل من شأن الأمة ومقدرتها على النهوض، ومحاولات إفساد للبيئة الثقافية والروحية والاجتماعية والحس القومي والذوق العام وقيم الشباب وتطلعاتهم واهتماماتهم وتوجهاتهم بوسائل شتى منها وسائل إعلام وإفساد المفاهيم والقيم والعلاقات الراسخة والتطلعات والممارسات، ونشهد تسويغاً وتسويقاً متناميين لثقافة العنف وهزيمة الإرادة والروح، واتهاماً للمقاومة المشروعة ضد الاحتلال وتشويهاً لأدائها وأهدافها واتهامها بالإرهاب ومحاولات دائبة للقضاء عليها، والحكم السلبي على قيم الثقافة العربية والإسلامية وتراثها.. وانخذال العروبة أو خذلانها هنا وهناك.. هل علينا أن نيأس أم أن هذا ينبغي أن يشكل دوافع للعمل والمواجهة والنهوض؟!

من هنا نطرح اليوم السؤال: هل يختار العرب ثقافة التغيير ويقبلون عليها ويصنعون مناخها ويقدمون الإمكانيات والطاقات اللازمة لذلك أم ينتظرون أن يغير الآخرون لهم ثقافتهم بالقوة فيستسلمون لمنطق القوة ذاك؟ وكيف تكون ثقافة التغيير، وماذا يشمل التغيير؟ وكيف نواجه استهداف الثقافة العربية والغزو الثقافي المعلن علينا بقوة السلاح والاحتلال والتهديد والحصار والتدخل وحملات الإعلام والفساد والإفساد، وتحريض جهات ومؤسسات وحمايتها لتقوم بخلخلة القيم والمجتمع والاستقرار؟ هل نواجه ذلك بالقوة ومنطقها أم بقوة المنطق وسمو الفكر وقوة الإبداع ورفعته ومتعته، والدخول إلى التغيير والتفاهم والتعاون والفهم المشترك من مداخل الحوار والمنطق والعقل والمسؤولية بالمفهوم الشامل والعميق لها؟ هل نحتكم للطغيانية والعنجهية والدموية أم للغوغائية التي تحركها عناصر وأطراف يثبت من قراءة تاريخها واستقراء مواقفها أنها ليست مع الأمة ولن تكون معها بل هي مدخل العدو إليها؟ هل نحن مع تطوير المفاهيم والممارسات ومناهج العمل السياسي والاقتصادي والتربوي أم مع تغييرها، وأي المجالات نوافق على أن يشملها التغيير الجذري وتلك التي ينفع معها الإصلاح المتدرج في التربية الدينية والقومية والتاريخ والجغرافية والاقتصاد وما يتعلق بالحقوق التاريخية للأمة العربية في أرضها ومقدساتها وثرواتها؟

كيف نطور مناهج التكوين المعرفي وأساليبه ونواجه في الوقت ذاته محاولات تغيير الثوابت والمبادئ والقيم الإسلامية والعربية السليمة، وتغيير المفاهيم والمضامين والحقائق التي تركز عليها قضايا عربية وإسلامية عادلة وجوهرية.. منها حقائق راهنة وضاغطة مثل تداول السلطة والوصول إلى الحكم الرشيد ومنها معطيات وحقائق تاريخية وحضارية تتعلق بقيمنا ومقومات هويتنا وشخصيتنا العربية وأخرى معاصرة متصلة بكياننا القومي وقوته وتماسكه، وبالصراع العربي الصهيوني وأسبابه ووقائعه ومعطياته وأهدافه البعيدة التي ينبغي أن تبقى في ذاكرة الأجيال إلى أن تحقق العودة وتُسترد القدس ويتحقق التحرير وتحضر فلسطين بعد محاولات تغييبها من الذاكرة والوجدان القوميين ؟ هل نتنازل عن حق العودة وعن فلسطين والقدس ونمسح ذلك من أدبياتنا وذاكرتنا ووجداننا أم أن القضية قضية أجيال ويجب أن تبقى مفتوحة على الزمن، ومن ثم لا نغير محتوى ثقافتنا في هذا المجال وإنما نسلك سلوكاً مغايراً للوصول إلى أهدافنا العادلة؟! وهل التغيير المطلوب هو تطوير للأداء بهدف التقدم والتطور والنهوض الحضاري، أم هو اجتثاث لمقومات الهوية والشخصية والخصوصية الثقافية والممانعة القومية والمقاومة الوطنية المشروعة؟ هل هو مدخل للوصول إلى أهداف سياسية منها الوصول إلى السلطة ونشر ثقافة الاستسلام تحت مسميات شتى تصب كلها في  دائرة الإذعان لشروط العدو الصهيوني وحليفه الأميركي والقبول بكل ما من شأنه أن يجعلنا تبعاً؟ وهل يشمل ذلك التغيير اللغة والعقيدة والجهاد والثوابت الوطنية والقومية، ويصل إلى حدود الاقتناع بأقوال المتطرفين وممارساتهم الذين ينشرون ثقافة الكراهية وينمون بيئة الفتنة والاقتتال الداخلي؟!

هل القضية ذات طابع سياسي وتنتهي عند حدود تغيير الأنظمة بأنظمة أخرى، وأية أنظمة هي المطلوبة والمقبولة؟ وهل يتوقف التغيير المطلوب عند دورة واحدة ثم يترك الأمر لديموقراطية يديرها الشعب، أم أنه تغيير مستمر لكل من لا يطبق البرنامج الإمبريالي الصهيوني المرسوم، ولكل عقل ومنطق يقوم على الانتماء لتربتنا الثقافية والحضارية ويدافع عنها؟

هل نتحاور فيما بيننا ومع الآخر أم نتصادم مع ذواتنا ومعه إلى درجة الإفناء، إفناء الذات بالذات، والذات بالآخر؟ أيهما أفضل وأجدى لنا في ظروفنا الراهنة؟.. ومن هو الآخر وما هو برنامجه، وماذا يريد منا بالتحديد, وكيف نفعل إذا كان لا يؤمن بالحوار ولا يقتنع إلا بفرض ما يريد؟

هل ثقافة الآخر الذي يطالبنا بالتغيير تخلو من تربية ورؤية واعتقاد عنصري يتعالى على الآخرين، وتحتاج بدورها إلى مراجعة أم أن الضعيف يغير ثقافته وفق إرادة القوي ومصالحه؟

مطروح سؤال التغيير، ومطروح بقوة وسرعة ووعي.. ولكن في أي اتجاه، ولتحقيق أية أهداف ومصالح؟

بوعي وتفاؤل وثقة نتوجه نحو حوار صريح وبناء حول هذا الموضوع، منطلقين من إيمان عميق بجدوى الحوار الإيجابي على الحضارات وبسلبية الأخذ بصدامها، وبحق الآخر بالاختلاف وبقدرة الحوار على أن ينقلنا إلى ساحة رؤية أفضل وغنى أعم فهل من مستجيب لذلك على أرضية من الاحترام والتعقل والمسؤولية الوطنية والقومية والأخلاقية والاقتدار؟

نسأل الله تعالى أن يتحقق توجه سليم وبنّاء نحو ذلك لنتخلص من شرور وفتن وتهديد يتراكم في فضاء وطننا، ويلتهم الأبرياء وأمننا واستقرارنا ومستقبلنا ذاته.