خبر الرّبيع العربيّ انتهى إلى شتاء إسلاميّ..لماذا وإلى أين؟ - بقلم: هاني المصري

الساعة 08:51 م|06 ديسمبر 2011

الرّبيع العربيّ انتهى إلى شتاء إسلاميّ..لماذا وإلى أين؟ - بقلم: هاني المصري

أثارت نتائج الانتخابات في تونس والمغرب والمرحلة الأولى من الانتخابات في مصر، التي فازت فيها الأحزاب الإسلامية، القلق عند الليبراليين والقوميين واليساريين والأقليات والمسيحيين؛ خشية من ألا يؤدي الربيع العربي إلى التحرر الوطني والاستقلال والسيادة والكرامة والعدالة والتنمية والديمقراطية، وإنما إلى دولة دينية تتحكم فيها أحزاب توظّف الدين لتحقيق أغراضها السياسيّة.

وعلى الرغم من التطمينات التي أرسلها قادة إسلاميون، مثل راشد الغنوشي في تونس، وبن كيران في المغرب، وعدد من القادة الإسلاميين في مصر والمنطقة من أن الإسلاميين لن يفرضوا دولة دينية ولن يُقصوا الآخرين، وسيعتمدون على ترسيخ الأسس الديمقراطية في الحكم، خصوصاً لجهة ضمان حقوق المرأة والأقليات والمسيحيين، وأنهم لن يفرضوا الحجاب ولن يمنعوا شرب الخمر، لدرجة أن الغنوشي قال: "إن حكومة النهضة لن تمنع لبس البكيني"، إلا أن القلق لم ينحسر. فليس المهم ما يقوله بعض القادة الإسلاميين الأكثر تنوراً وانفتاحاً، وإنما ما يقوله قادة آخرون من الإخوان المسلمين، وما يقوله القادة السلفيون الذين حصلوا على أكثر من 20% من الأصوات في مصر من أنهم يرفضون إقامة دولة علمانية، بل ورفضوا مصطلح إقامة دولة مدنية، ويصرون على أن الإسلام هو مصدر التشريع في الدولة (الوحيد أو الرئيس)، وليس أحد مصادر التشريع، ويصرحون جهاراً نهاراً إنهم سيحاربون الكفر والانحلال الثقافي والفني، وسيغيرون وجه السياسة الاجتماعية جذرياً. ولعل ما يثير القلق أكثر، الأحاديث عن إتمام صفقة بين جماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأميركية، وحكومات الغرب بشكل عام، وهناك من يؤكد إتمام الصفقة، ويبرهن على ذلك بالاتفاق بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر، والتحالف بين الإسلاميين وحلف الناتو في ليبيا، والموقف المشترك مما يجري في سورية، ولعل التصريحات الأميركية التي صدرت على لسان هيلاري كلينتون، وغيرها من أركان الإدارة الأميركية التي أظهرت ترحيباً أميركياً بنتائج الانتخابات في تونس والمغرب ومصر، وأنها لن تقطع المساعدات عن مصر حتى لو فاز الإخوان المسلمون في الانتخابات فيها، وهذا يشير إلى تغيّر في الموقف الأميركي من معاداة الأحزاب الإسلامية إلى السعي إلى احتوائها، ولا يبرهن وحده على أن الصفقة تمت أو أنها حتماً ستتم. هناك لقاءات عدة عقدت بين قادة إسلاميين في مصر وتونس وغيرهما مع مسؤولين أميركيين، ما يدل على أن السياسة الأميركية السابقة التي كانت تفضّل دعم الديكتاتوريات العسكرية خشية من انتصار الأصولية الإسلامية بحجة دعم الاستقرار في المنطقة والحفاظ على وجود دور إسرائيل وعلى المصالح الأميركية؛ قد تغيرت. ويذهب البعض إلى حد تصوير كل ما جرى في المنطقة على أنه: أولاً، مؤامرة عقدتها الدول الغربية مع الإسلام السياسي "المعتدل"، تحديداً الإخوان المسلمين، وتقتضي بمحاربة "الإرهاب والتطرف الإسلامي" مقابل السماح للإخوان المسلمين بتولي الحكم أو المشاركة فيه بقوة شريطة المحافظة على معاهدتي السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وأن يعقلنوا حركة حماس، وأن يقفوا مع أميركا والدول العربية الخليجية ضد إيران، وفي وجه صعودها واحتمال انتشار المد الشيعي بالمنطقة. وثانياً، مؤامرة يشارك فيها مباشرة دول الغرب وتركيا، وبشكل غير مباشر إيران؛ لفرض سايكس بيكو جديد يقسم المنطقة ليس على أساس جغرافي فقط، وإنما على أساس توزيع الموارد والثروات والأسواق. لا أوافق على الإطلاق على اعتبار كل ما يجري في المنطقة هو ثمرة خبيثة لمؤامرة بين الإسلام السياسي والغرب، أو بين الغرب وتركيا وإيران، مع أن الأهداف الأميركية والغربية الرامية إلى إيجاد شرق أوسط جديد، وتقسيم المنطقة قديمة وواضحة للعيان. وعلى الرغم من أن الرجل العربي المريض يشجع جيرانه والدول المهمة في العالم على محاولة توزيع ميراثه، إلا أن ما جرى في المنطقة ثورات نظّمتها الشعوب العربية، خصوصاً الشباب، ضد الاستبداد والفساد والتبعية والديكتاتورية والتجزئة التي جعلت العرب في ذيل قائمة الدول في العالم، من حيث مؤشرات العلم والتقدم والتنمية والمساواة والعدالة والحرية والكرامة والديمقراطية. فلم يحرق بوعزيزي نفسه ـ حيث كان الشرارة التي أشعلت السهل العربي عبر نزول الملايين إلى الشوارع، وبلغ عددهم بمصر في أحد الأيام 18 مليون متظاهر ـ تنفيذاً لمؤامرة خارجية، أو تحقيقاً لصفقة حقيقية أو متخيلة بين الإسلام السياسي والغرب الاستعماري، بل خرج من أجل الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية. كما أن تأييد الولايات المتحدة للثورات يرجع إلى تراجع الدور السياسي لها؛ جراء تراجع اقتصادها ونفوذها في العالم كله وذلك بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وبعد خسائرها البشرية والاقتصادية في العراق وأفغانستان وغيرهما، فيكفي أن نشير إلى أن حجم نسبة مساهمة الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي تراجعت أكثر من 10% في العقد ونصف العقد الماضيين لتصبح من 35% إلى أقل من 25%. وخلق هذا التراجع فراغاً في المنطقة العربية ساهم في حدوث الثورات، وكانت الأحزاب الإسلامية هي الأحزاب الوحيدة المهيأة لملء الفراغ، فهناك صعود للإسلام السياسي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد فشل وهزيمة الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية والديكتاتورية العسكرية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة وسيطرة قطب واحد على العالم. لقد مُنِعَت جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر من ممارسة الحكم بعد فوزها الساحق في الانتخابات منذ أكثر من عشرين عاماً. ومُنِعَت أيضاً حركة حماس من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، لأن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل كانتا في ذروة القوة، أما الآن فهناك انحسارٌ بدأ في الظهور بعد هزيمة القوات الإسرائيلية في الحرب اللبنانية عام 2006، وفي عدم تحقيق إسرائيل أهدافها في حرب الكوانين 2008-2009 على غزة، وفي تمكن إيران من تحقيق نفوذٍ واسعٍ في المنطقة بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص، ومُضيّها في طريقها الصاعد للحصول على القنبلة النووية على الرغم من العقوبات والتهديدات بالحرب الأميركية والإسرائيلية والدولية ضدها. وفي هذا السياق، صعدت تركيا لموازنة الصعود الإيراني، وكرد فعل لعدم تمكّنها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكثمرة للتقدم الاقتصادي الذي أحرزته تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية، حيث تضاعف الاقتصاد التركي 100% في عشر سنوات. ما سبق، يعني أنّ هناك تنافساً وسباقاً بين المؤامرة لتقسيم المنطقة وفرض سايكس بيكو جديد عليها، وبين السعي إلى إجهاض الثورات العربية وحرفها عن تحقيق أهدافها واستنزافها في صراعات داخلية بين "الإسلام المعتدل" و"الإسلام المتطرف"، والشيعة والسنة، والإسلام والمسيحية، والأقليات والأغلبية، وصراع إقليمي بين العرب وإيران وحلفائها، وبين الشعوب العربية وقواها الثورية، بما فيها الأحزاب الإسلامية لوضع أقدامها على درب الحرية والكرامة والعدالة والتقدم والديمقراطية والاستقلال. لا يمكن التعامل على أساس أن المسألة حُسِمت أو أنها يمكن أن تُحسم بسرعة، فلقد جرت مياه كثيرة خلال العقود الماضية، وهذا أدى إلى تغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية، فتحولت من قوى رجعية محافظة تتحالف مع الرجعية العربية والاستعمار الغربي ضد عبد الناصر والقومية والشيوعية والاتحاد السوفيتي، إلى قوى تحارب الاستعمار بلا هوادة، مثل القاعدة، وإلى قوى أخرى أصبح لديها طابعٌ وطنيٌ كفاحيٌ أدى إلى وقوفها ضد الاستعمار والتبعية وإسرائيل ومعاهدات السلام معها، وقدمت التضحيات الغالية في تونس ومصر ومختلف البلدان العربية على أيدي أنظمة استبدادية مدعومة من الغرب الاستعماري. هناك خشية من عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى ما كانت عليه سابقاً، ولكن هناك أملاً أيضاً في انتصار الاتجاهات الوطنية التي انفتحت على قيم الديمقراطية والاستقلال والسيادة الوطنية. فهناك فرق بين ما أعلنه بلحاج أحد قادة جبهة الإنقاذ الجزائرية فور إعلان نتائج الانتخابات بأن الديمقراطية عرس ليوم واحد انتهى بفوز جبهة الإنقاذ، وبين ما يعلنه راشد الغنوشي ومحمد مرسي وحمزة منصور وخالد مشعل بأن الديمقراطية تعني انتخابات دورية وتداولاً للسلطة، ومساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن الجنس والدين والقومية. على الإسلام السياسي أن يعرف أن الديمقراطية ليست انتخابات أو حكم الأغلبية فقط، وإنما حق الأقلية في التعبير عن نفسها بكل حرية، وضرورة توافر حقوق وحريات الإنسان، وأنها حتى تتقدم يجب أن تستند إلى دستور جامع لا تخضع موادّه إلى الأغلبية والأقلية، وإلى ديمقراطية اجتماعية تحقق العدالة وتكافؤ الفرص وتكافح الفقر والجهل والبطالة والاستغلال. إن الديمقراطية شكل من أشكال ممارسة الحرية، الحرية للوطن والمواطن، فلا يمكن بيع القضايا الوطنية والاستقلال والسيادة على مذبح صفقة تتولى فيها الأحزاب الإسلامية الحكم، بحيث تكون أنظمة تتغطى بقشرة إسلامية تُخفي تحتها استمرار أنظمة الحكم السابقة، بحيث يبقى الفساد والاستبداد والتبعية والتجزئة. يبقى أن الرهان على الشعوب العربية وعلى المواطن العربي الذي خرج من القمقم، وأدرك أنه قادر على التغيير، لدرجة أن الحاكم العربي الآن بات، لأول مرة، يخاف من المواطن العربي، وهذه حقيقة بالغة الدِّلالة ستفرض نفسها شيئاً فشيئاً على جميع البلدان العربية، حتى التي لم تشهد ثورات. فبعد الربيع العربي لن يعود المواطن العربي مثلما كان، مع أن التغيير بحاجة إلى مراحل، ويتخلله مدٌ وجزرٌ، وإذا لم يلب الإسلام السياسي حاجات المواطن العربي فسيسقط مثلما سقط الذين قبله.