خبر النوعي في الحراك العربي الراهن../ علي جرادات

الساعة 03:54 م|04 ديسمبر 2011
منذ قرنٍ ويزيد صار تداخل القومي والوطني والديمقراطي في الحياة السياسية العربية، تداخلاً موضوعياً ومفروضاً، ذلك بمعزل عن تفاوت تجليه، وعياً وممارسة، لدى أطياف الفكر السياسي العربي وأحزابه وتنظيماته ونخبه السياسية القائدة. أما لماذا؟    فقد كان القرن التاسع عشر قرن نشوء "الدولة الأمة"، بعد أن سارت أحداث التاريخ باتجاه تجميع الأمة المُنتشرة في عدة دول في دولة واحدة، وانقسام الإمبراطوريات متعددة القوميات إلى دول قومية، وبذلك توحَّد مصطلحا الوطني والقومي في مفهوم الأمة، (nation). وفي بداية العقد الثاني من القرن العشرين، حاول العرب، شأنهم في ذلك شأن بقية الأمم، الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية التركية، لتشكيل دولة عربية-الدولة الأمة، لكن محاولتهم فشلت، حيث نقضت الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وعودها لهم بذلك، بل، وقامت بتقسيم الوطن العربي إلى عدة دول، بعضها "مستقل"، وبعضها تحت الانتداب، وفقاً لمخططي اتفاقيتي سايكس بيكو (1916)، وسان ريمو (1920)، ناهيك عن وعد بلفور (1917)، الذي قضى بإقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". ومعلوم أن "مبضع" ذلك التقسيم لم يأخذ في الحسبان العوامل التاريخية والجغرافية والاقتصادية والثقافية للوطن العربي، بل، إن كل ما أخذه كان تقاسم النفوذ بين دول الاستعمار الغربي.    بهذا، توافر الشرط الموضوعي لاشتعال الموجة الأولى من الثورات الشعبية العربية، التي اجتاحت الأقطار العربية، لكنها لم تفضِ بالنتيجة، بمعزل عن الأسباب والملابسات الداخلية والخارجية، لا إلى قيام دولة عربية قومية، ولا إلى نيل الأقطار العربية استقلالاً وطنياً ناجزاً، ولا إلى بلورة حياة سياسية ديمقراطية داخلية، بل إلى مجرد استقلال وطني، قادته نخب سياسية تقليدية، ربطت مصيرها بمعاهدات خارجية، تتيح استمرار التواجد والتدخل الأجنبيين، وكانت نكبة فلسطين عام 1948، الحدث التاريخي الأبرز في الكشف عن شكلية هذا الاستقلال، وعن عجز النخب السياسية التي قادته، عن التصدي لتحديات تطويره، قومياً ووطنياً وديمقراطيا، خاصة بعد ما لعبته من دور في إجهاض تلك الثورات الشعبية، وتقزيم مضامينها وأهدافها.    عليه، وبفعله، تهيأت الظروف لانطلاق الموجة الثانية من الثورات الشعبية العربية، لكن، وفي ظل تضعضع التنظيم السياسي الشعبي وعدم جاهزيته، فقد تصدى الجيش، كقوة منظمة للمهمة، من خلال القيام بعدة انقلابات عسكرية، أزاحت من المشهد السياسي العربي تلك النخب التقليدية، وحلت محلها في السلطة في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا، وأنتجت أنظمة سياسية دعمتها الشعوب، وحققت العديد من الإنجازات المهمة في مجالات:   التصنيع، والتأميم، والسيطرة على الثروات والموارد الوطنية، والإصلاح الزراعي، وتحديث الجيش، ومجانية التعليم، وإلغاء المعاهدات الاستعمارية، ومناهضة المشاريع الاستعمارية، وإجهاض بعض مخططاتها، وتشكيل منظومة عدم الانحياز...الخلكن هذه الأنظمة، ظلت، في الأغلب الأعم، حبيسة الخيار العسكري، الذي فصل، بصورة تعسفية، بين المهام الوطنية والقومية من جهة، وبين المهام الديمقراطية من جهة أخرى، ما أفضى إلى تصحر الحياة السياسية والاجتماعية العربية وتجريفها، وإلى حرمانها من ما تزخر به الشعوب من طاقات هائلة، والشبابية الناهضة منها بخاصة، بل، وجاءت هزيمة عام 1967 لتكشف عن العواقب الوطنية والقومية، المترتبة على هذا الفصلالتعسفي.    وأكثر من ذلك، فإنه، وفي ظل غياب المساءلة الشعبية، عدا صورية المرجعيات القانونية والدستورية، فقد سهَّل هذا الفصل الطريق أمام ولادة نخب سياسية، خرجت من عباءة هذه الأنظمة، وتمكنت من الارتداد على ما جاءت من أجله، حيث حولت السلطة إلى حقل للتوريث ومصدر للثروة، بل، وإلى آلية جهنمية للتبعية والفساد والإفساد والثراء الفاحش والقمع والإفقار والبطالة والحط من الكرامة... الخ ما أدى إلى إعادة تشكيل بنى الدولة، وإلى تدجين الجيوش وتهميشها، لمصلحة تقوية أجهزة الأمن الداخلي، التي تم دمجها عضوياً بالجهاز البيروقراطي الحكومي، وإلى إطلاق يد الحاكم الفرد في خرق المحرمات الوطنية والقومية، ناهيك عن ما أقدمت عليه هذه النخب من ارتدادات عن المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية والوسطى، لمصلحة تسمين طبقات وفئات طفيلية متحالفة مع بيروقراطية منتفعة، قادتا سوياً عملية تدمير القطاع العام، الذي تم بيعه للمغامرين المتسلقين بأبخس الأثمان، وأطلقتا يد السوق الحرة وقوانينها، من خلال الاندراج في دواليب الليبرالية الجديدة، والرضوخ لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وسياستهما، الداعيتين إلى الخصخصة وبيع القطاع العام، وتخليع أبواب البلاد وفتحها، من دون رقيب، أمام الاستثمارات الغربية ورأس المال الاحتكاري، بكل ما قاد إليه ذلك من سيادة للرشوة ونهب المال العام، لا بل، وإلى الاستيلاء على الأصول الوطنية السيادية كالأراضي ومناجم المعادن وغيرها من الموارد.    بذلك، وبفعله، تأججت تناقضات النظام السياسي الرسمي العربي، الداخلية منها والخارجية، وصار محتوماً انفجار الموجة الثالثة من الثورات الشعبية العربية، (مهدت لها هبات شعبية عديدة)، وتجلت في اشتعال نيران الحراك الشعبي العربي الراهن، بعد عقود من الغضب المكتوم. والسؤال هنا: ترى ما هو الجديد النوعي في هذه الموجة الثالثة من الثورات الشعبية العربية؟    بعيداً عن تزويرات نظرية المؤامرة وأغراضها، وعن عقم القراءات الذاتية القاصرة وأوهامها، فإن الحراك الشعبي الراهن، وبمجرد انفجاره، ناهيك عن استمراريته، وعن ما حققه من انجازات حتى الآن، قد جعل الشعوب العربية، لاعباً أساسياً، في تحديد وجهة الحياة السياسية العربية، ليس فقط في مواجهة الأنظمة السياسية، التي انطلق ضدها، وأطاح بعضاً منها، بل، وفي مساءلة ما تمخض عنه، أو ما سيتمخض عنه، من سلطات سياسية أيضاً، ذلك بمعزل عن لونها الفكري والسياسي، ما دام شأن توليها للسلطة، أو عزلها عنها، خاضعاً للتجديد والتبديل والتداول السلمي، عبر صناديق الاقتراع، التي تهب الصوت دورياً، تبعاً للإنجازات المحققة في الأجندة السياسية العربية، لا قومياً ووطنياً فقط، بل وديمقراطيا، بالمعنيين السياسي والاجتماعي، أيضاً.