خبر لمصلحة من؟!.. علي عقلة عرسان

الساعة 01:40 م|25 نوفمبر 2011

لمصلحة من؟!.. علي عقلة عرسان

 

محزن ومؤلم نزف قطرة دم واحدة من أي إنسان على غير وجه حق، ومثيرٌ بوجه خاص وإلى أبعد الحدود مقتل بشر ومعاناتُهم وإفساد عيشهم وأنفسهم بظلم وعدوان يقعان عليهم أو ضلال وتضليل يسقطانهم في قبضة العنف والفوضى والموت وحمأة الفساد والإفساد الاستبداد.. ويقع فوق حدود المؤلم والمحزن والمثير والمحتمل مقتل أطفال وأبرياء من لحم المرء ودمه ومن أبناء أمته ووطنه بيد أشقاء لهم وأخوة ومواطنين، وهم ليسوا طرفاً في أي نزاع أو فتنة مما يولَع به متهالكون على الحكم والمصالح، متعلقون بالسلطة، ميالون إلى التسلط، طامحون أو طامعون أو منقادون لطامحين وطامعين، يجعلون الناس والأوطان وقوداً لنار يشعلونها لكي تحرق غيرهم وتفتح أو تضيئ لهم دروباً إلى مزيد من الهيمنة والعدوان والنهب والعنف والقتل والظلم والتسلط وإراقة الدم وإشعال الفِتن.. ومن هذا وذاك تعاني أمتنا العربية من بين الأمم الكثير، ونعيش في وطننا بعض هذا الكثير.   

ففي كل يوم تزداد جراح الوطن العربي وينزف دماً وتتسع مساحات الخراب فيه على المستويين المعنوي والمادي، وفي كل يوم منذ بداية الأزمة المقيتة نزداد في سورية جراحاً ونزيفاً، ويضع كثيرون من أبنائها وأبنائه الخلَّص ملحاً على الجرح ويستأنفون العمل والأمل لكي يبقى ويبرا ويتخلص من كل من/ وما يعيق تقدمه ونهضته ويُلحق به الجراح والذل والألم والضعف والفقر، ويهدد وحدته واستقلاله ومكانته وتماسك جبهته الداخلية وقوتَ أبنائه وأمنهم، وتعلو في جنبات أصوات من يتنادون ليكونوا قوة في وجه من يريدون بسورية والأمة العربية شراً ومن لا يراعون فيهما وفيما تمثلان من تاريخ ورصيد حضاري وقيم إلّا ولا ذمة.. وفي كل يوم ترتفع في جنبات بلدنا سورية أصوات تنادي بالحكمة والتعقل وإعلاء الشأن العام على الشأن الخاص ومصالح الوطن على مصالح الأشخاص والفئات، كما ترتفع أصوات بالشكوى أو بالنواح لفقد أعزة ونزيف جراح، ويتصاعد في ارجائه الغضب من وعلى.. ويفجع هذا البيت العزيز من بيوت الأمة العربية ببعض بنيها وبنيه، فيراهم يتقاتلون ويتساقون كؤوس الردى ويتهافتون، ويزْرون بالأعز الأرفع من القيم والمواقف والحقوق، ويراهم من بينهم جثثاً تؤول إلى التراب بغدر أو احتراب، ورمماً تسعى فوق الأرض طلباً لمكاسب يشمئز منها منتن الضباع وغدَّارُ الذئاب.. وفي كل يوم يضغط عليه وعلينا أكثر فأكثر من يريد أن يصل نصْل سكينه المسموم إلى القلب، قلب المواطن وقلب الوطن وقلب الصلات والعلاقات بين المواطن والمواطنين وبين المواطنين ومقومات الوطن وقيمه، حيث يُراد لذلك النصل أن يصل إلى التدمير هدفاً وغاية وإلى الهلاك والإهلاك مقصداً ونهاية.. وذاك ما يطلبه كل من لا يريد بنا ولا ببلدنا وأمتا خيراً، ويتآمر عليه وعليها، أو لا يتبصر في أمورهما بالحكمة والعقل، وكل من لا يعلي مصلحته فوق كل مصلحة مهما سمت، ولا يرى نفسه خادماً للوطن والشعب بوعي ومسؤولية وإخلاص حتى لو كلفه ذلك حياته، ومن لا يرى تلك المصلحة  مصلحة الأمة العربية بحق، تلك التي تشكل سورية مركزها ومرتكزها، بحكم موقعها وتاريخها ومواقفها وخياراتها عبر التاريخ..

واليوم كما كثير من الأيام التي مضت منذ بداية الأزمة التي باتت كثير من أسبابها وخلفياتها وتفاصيلها ومراميها واضحة ومعروفة، اليوم نقف بين مضيق ومضيق في بحر الضيق الذي نبحر فيه جميعاً إلا من نأى منا بقلبه وعقله وضميره عنا، ونجبَه موتاً بموت، وننشد الحياة بتصميم وثقة وأمل كبير، على الرغم من فداحة ثمن العيش بأمن وكرامة وحرية واستقرار في عالم يكتسحه فساد قيم وآراء ورؤى ولؤم القوة العالمية العاتية، وغلواء أصحاب المصالح وأطماعهم، عالم تسوسه سياسة بعيدة عن معايير الأخلاق ونقاء الضمائر ونُبل الغايات واحترام الآخرين ومراعاة مصالحهم وحقوقهم.. وتآكل الاعتماد المتبادل فيما بينهم، ذلك الاعتماد الذي من شأنه أن يعزز العدل والأمن ويقيم السلام العادل على أسس وطيدة.. إننا ندفع ثمن العيش المكلف بين موت وموت، ونستشرف أكثر من أي يوم مضى منذ بداية هذه الأزمة أخطاراً كبيرة وخطيئات كبريات في "حمية" بعض العرب، وحمأة التدخل الخارجي والتلويح به، وعنجهية المكابرين، وضلال الضالين والمضلين والسادرين في غيهم.. اليوم نغرق في نجيع صباح فجيع من نوع جديد ما مر علينا إلا القليل جداً من مثله منذ بدأ طفح هذه الأزمة على جلدنا وبدأت مراهم علاج سطوحها تمسد تلك السطوح، ونسأل الله ألا يتكرر أبداً ذلك المشهد ذو الدلالات الصارخة لمن يقرأ جيداً، ويحلل بعمق ويضع النقاط على الحروف بموضوعية ومسؤولية.. اليوم نقف عند مشارف ذلك النجيع بألم ومرارة لنسأل: " لمصلحة من قتل سبعة من الطيارين السوريين كانوا في حافلة بين حمص وتدمر، وبيد من؟ ومن من السوريين يرضيه ذلك أو يشفي له غليلاً، أياً كان توجهه ومطلبه؟! ولمصلحة من يخسر بلدنا العزيز الكثير من خيرة أبنائه الذين يدخرهم، أو يجب أن يدخرهم، للدفاع عن أرضه ووجوده وحقوقه ومصالحه والناس فيه، وبناء نهضته وقوته؟ وهل سلاح الطيران السوري في مواجهة مع المتظاهرين السوريين أو غيرهم، أم أن أولئك الطيارين تلقوا أوامر " بقتل متظاهرين" فقُتل من رفض منهم إطلاق النار برصاص أخوته من عناصر الجيش المكلفة بذلك، حسب روايات عن أسباب مقتل كثير من العسكريين السوريين في الأحداث المؤلمة الجارية في سورية، كما سمعنا وسمع العالم معنا؟! ومن هو المستفيد الأول والأخير من قتل الطيارين السوريين خاصة ومن قتل السوريين عامة، سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين، في نهاية المطاف.؟! أسئلة كثافة مرارتها تعقد اللسان، لا سيما حين يعرف المرء ويدرك معنى السؤال وفحوى الجواب وما وراء السؤال والجواب.. ولكن يبدو أن هذه الأسئلة وما هو على شاكلتها لا ترضي بعض الناس الغارقين إلى ما فوق آذانهم في تفاصيل الأزمة المؤلمة وتفاعلاتها وانفعالاتها، وهي بالتأكيد لا تعني من يقفون وراء الأزمة السورية من قريب أو بعيد، ولا تعني بالضرورة من ينفخون في نارها ويريدون لها أن تحرق الشعب والوطن وتدمر العلاقات الوطيدة بين أبناء سورية الذين حافظوا على علاقات طيبة بينهم مهما كانت انتماءاتهم وعقائدهم وتوجهاتهم الاجتماعية والثقافية، وهي بالتأكيد لا تحرك في كثير من الضالعين في الأزمة والمنخرطين فيها بعمق وحتى في المقحَمين عليها.. سوى نزعات بدائية تتصل بالحقد والثأر والقتل والغَلبَة والفوز..إلخ.. ولا يعني كثيرين من أولئك الذين ينخرطون هو أن يصل كل منهم وأن يصل المرتبطون به والواقف خلفهم أو إلى جانبهم، أن يصلوا معاً إلى مآربهم، ويتحقق لهم ما يرمون إلى تحقيقه من أهداف، ولو كان ذلك على حساب الوطن والشعب والهوية والعقيدة والتاريخ والبشر الذين يموتون ويعانون ويتحملون.!! ويبدو أن ما يرضي من يدفع الأزمة في سورية إلى مزيد من التعقيد والعنف والدم ليفضي بها إلى مدارات أوسع وتفاعلات أعمق وأشمل، هو أن تدفع سورية العروبة والموقف والانتماء والمبدأ ثمن انتمائها ومواقفها ومبادئها، أياً كان من يحكمها أو سيحكمها، وأن تتخلى عن مواقع ومواقف وثوابت، وعن هويتها ونزوعها القومي وخياراتها السياسية، لكي يصل إلى ما يريده منها ومن الأمة العربية والمنطقة بكاملها.. ومن يفعل ذلك، ومن يسير مساره بوعي منه أو من دون مسؤولية ووعي، لا يدقق كثيراً في قراءة متأنية تشير بموضوعية إلى حقيقة صارخة، تاريخية وعصرية ومستقبلية، ترتبط بالشعب العربي في سورية وإرادته ووعيه ومسؤوليته.. وهي أن خيارات سورية هي خيارات شعب وليست خيارات نظام، أي نظام مهما كان وكيفما جاء، يفرضها بطريقته منذ استقلال سورية إلى اليوم، وسيبقى ذلك شأن سورية وشعبها إلى آخر الأيام، لأن الشعب العربي في سورية هو صاحب السيادة والإرادة والقرار، وهو مصدر السلطة ومن يمنح ويمنع ويخفض ويرفع، وهو يعرف جيداً كيف ومتى يملي إرادته على أي نظام، ويحدد له السياسات والتوجهات والخيارات الاستراتيجية التي يريد، وهو الذي له وعليه أن يراقب تنفيذ ذلك النظام إرادة الشعب ويصحح المسارات عند اللزوم.. وحين يختار الشعب يدافع عن خياراته ويتحمل تكاليف تلك الخيارات.. وأية مواقف وخيارات وصراعات لا تعلوا بمستوى أصحابها تصغرهم أمام الناس والأمم وأمام شعب بكامله يعلي شأن العيش المشترك والحياة الحرة الكريمة ويريد له ولوطنه الأمن والاستقرار والمنعة الوطنية والقومية والحرية والكرامة. إن تلك أفعال مؤلمة ومفجعة ومستهجَنة ولكنها لن تودي بشعب ووطن وقيم وعلاقات أبَّدها الدهر.

لن تخرج سورية من جلدها، ولن تغير انتماءها تحت أي ظرف ولأي سبب ومهما كانت الصعاب والتكاليف والنتائج، فهي عروبتها والعروبة هي على نحو ما بها تقوى وبها تعتز، ذاك خيارها الواعي وانتماؤها التاريخي قبل أن يكون مصيرها وقدرها.. ولا يغترّن أحد بانفعالات غضب عبر عنها بعض الأفراد من السوريين بنزق من جراء جرح مس الكبرياء الوطني والقومي فصرخ صاحبه بوجه السكين التي وضعت بيد عرب من العرب لتُشهر عليها.. فهي هي لمن يسأل عنها ولمن يهمه شأنها ويريد أن يتعرف على وجهها الأصيل أو أن يختبر معدنها.. وستبقى سورية.. ستبقى، إنها تعاني اليوم ولكنها لن تسقط أبداً، وستبقى بيتاً للعرب ولكل أبنائها.. ولكل ابنائها من دون استثناء، مهما شرق الشرفاء من أبنائها وغربوا سيجدونها الحضن الدفيء حين يشعلهم الحنين إليها.. إنها أمهم ولن ترفض الجافي منهم حتى لو آلمها ما دام يحن إلى ضرعها.. فكثيراً ما يؤلم الطفل ثدي أمه في أثناء الرضاع ولكنها على الرغم من الألم، وربما بسببه، تحن عليه أكثر وتدر له مزيداً من الحليب الأمومي الصافي الذي لا يمكن أن يجد مثله في أي ثدي آخر.. فيا أبناء سورية و يا أبناء العروبة.. خذوا من ثدي أمكم حليبها واتقوا الله في الزرع والضرع، واحفظوا عليكم نعم الله ظاهرة وباطنة في وطن نريده عزيزاً ونريد أن نعيش فيه جميعاً أعزاء وأحراراً كرماء.

دمشق في 25/11/2011