خبر تَقاصري آكلْ جَناك قاعداً>>علي عقلة عرسان

الساعة 12:09 م|11 نوفمبر 2011

تَقاصري آكلْ جَناك قاعداً>>علي عقلة عرسان

 

بعد قراءة ومتابعة وتأمل، وتوقف عند قرارات ومواقف وقضايا لا حصر لها، ازددت يقيناً على يقين بعدم الثقة بالسياسة الأميركية ولا بمن يصنعها من الساسة، ولا بمن يواليها ويعلي شأنها اتباعاً، وأدعو غيري إلى عدم الثقة بها وبهم، وإلى الحذر من كل ما يقولونه ويقومون به ويقدمونه، حتى في "نطاق إنساني خالص"، فأولئك حتى في مثل ذلك الظرف والموقف " يرمون كسرتهم على رغيف" كما يقول المثل، ويعملون وفق ما استقر في تقاليدهم بأنه لا غداء من دون ثمن.. فمن يطعمونه اليوم ينهبونه غداً.

لا يعنيني أن أتوقف عند إدارة ما من تلك الإدارات الرئاسية الأميركية المتعاقبة ولا عند أفعالها، ولا عند هذا الرئيس أو ذاك، هذا السياسي أو ذلك، هذا الكيسنجر أو " البوش، أو "الفلتمان" أو ذاك.. فكل ما سمعته وقرأته واستقرأته واستنتجته يفضي إلى خلاصة واحدة: " لا تثق بهم، واحذرهم، واجتنبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا..".. أنهم يقيمون جداراً سميكاً جداً بين السياسة والأخلاق، ويعملون بمكيافلية صافية " الغاية تبرر الوسيلة"، ويسوِّغون كل ما يرتكبونه من جرائم ويتسببون به من كوارث ويقومون به من نهب وسلب وقتل وقهر للشعوب والدول والجماعات البشرية، ويحولون القيم الإنسانية الكبرى ذاتها إلى سلع سياسية يتاجرون بها ويخادعون الناس.. ولا يشترطون في أي عمل يقومون به وسياسة ينتهجونها سوى النجاح وتحقيق الهدف مهما كانت الوسائل والنتائج على الآخرين، فعندما ينجحون يكتبون تاريخ الحدث على هواهم، ويسجلون نجاحهم بدم ضحاياهم فضائل لهم، ويرفعون تلك الصفحات فوق تمثال الحرية في نيويورك مزينة بأكاذيب وادعاءات وافتراءات هم أهلها الأول والمجلّون في ميادينها..

أشير إلى هذا هنا واليوم، بعد أن أشرت إليه مراراً وتكراراً، لأنني أرى وطني العربي كله، وليس قضاياه العادلة فقط وعلى رأسها قضية فلسطين وشعبها الذي طالت معاناته، يُستهدَف بسياستهم وأسلحتهم وجيوشهم وأدواتهم وصنائعهم وإعلامهم..إلخ.. وألمس نجاحهم في توظيف قطاعات من أبناء الأمة للنيل من الأمة بكل قيمها ومقوماتها، تغويهم وتساندهم وتغريهم وتزين لهم ما يتطلعون إليه أو يحلمون به، وتقبض أرواحهم وأرواح مواطنيهم، وأموالهم وثروات بلدانهم وخيراتها.. ثمناً لذلك التسخير المجاني لهم وجعلهم سكاكين تنحر رقابهم ورقاب وطنهم وشعبهم.؟!

  ومن أسى وأسف أن هناك من تُعشي بصره الأحلام فتفضي به إلى متاهات الأوهام، ولا يستطيع في خضم يغرق فيه أن يجري حساباً دقيقاً لما هو فيه حتى لو أراد، ولا يتصالح مع الواقع أو يتعرف عليه من خلال معطيات في أرض الواقع تجعله على بينة من الأمور.. لأنه محجوب عنه بالحلم والوهم وبما تمنّيه به نفسه ويزينه له غيره ممن يغوونه ويغرونه ويدفعونه ويستثمرونه.. وهذا الصنف من الناس عندما يتصدى لقيادة الناس أو لحمل رايات قضايا يتأثر بها الناس، يضلِّل حتى لو أراد أن يهدي، ويضيِّع حتى لو لم يرد ذلك، لأنه يوضع في قفص أكبر من قدرته على إدراك حدوده.. وقد يكون ذا وطنية صادقة ونية حسنة.. ولكنه يقاد فيقود باتجاه هوى من هوى به إلى حضيض ما، ويغدو ممن ينطبق عليه قول من قال: " إن جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة"..

لكن هل يمكن أن يسير شعب أو جزء من شعب خلف صاحب نية حسنة ويدفع ثمن سيره ذاك دماً ومعاناة وأمناً وتهديداً بنزف الدم واستمرار المعاناة من دون أن يتنبه لذلك ولو بعد خسارة ووقت ودروس؟ لا .. لا أظن أن ذلك من الممكنات، وإن وقع فلا دوام له إلا في حالة يكون فيها الشعب في خضم الجهل والبؤس، أو قد غُمَّ عليه وضاق ذرعاً بما هو فيه، فاستطاب أي شيء سوى ما هو فيه، وأحب أن يخرج من مأزقه حتى لو دخل في مأزق سواه، فلكل جديد لمعة، ولسان حاله يقول: " من عمود إلى عمود يفرجها الرب المعبود.".. لأنه لم يعد يتبين طرق الخلاص وصادق الأقوال وحسن الأفعال، ولم يعد يثق بما يُقال له ويوعد به.. وهنا تتظافر عليه ظروفه وظروف أخرى تجعله في عمق الغمَّة، يسير كالمنوم  من عتمة إلى عتمة.. ففي مثل هذه الحالة لا بد أن يكون لدى كل من الضال والمضلِّل ما يشدهما أحدهما إلى الآخر حتى يمكن الاستمرار في مسارات مكلفة من هذا النوع.. وفي مثل هذه الحالة تقع مسؤولية الضال والمضِل والمضلَّل على من يملكون القدرة والرؤية والحكمة، ومن يستطيعون التضحية بشهواتهم وذواتهم لينقذوه.. ولكن أولئك هم من تغيبه عن مجال الحكمة والرؤية أوهام أو شهوات أو سلطات أو عنجهيات أو حسابات من نوع ما، أو هم ممن تغيَّب أصواتُهم أو يغيَّبون في مثل تلك الظروف والأوقات الصعبة.. ليبقى المجال مفتوحاً لمن يهمم من البقرة حليبها ولا تهمهم حياتها.

حزنت وأنا أرى السوريين واليمنيين ومن قبلهم المصريين والليبيين والصوماليين..إلخ يشوه بعضهم بعضاً، ويلغ بعضهم في دم بعض، ويقدمون لشعوب العالم وبلدانه صورة لا تليق بهم لا بأوطانهم وأمتهم، ورأيت كيف يعتلي أحدهم جثة أخيه أو جثة شعبه أو جثة وطنه مأخوذاً بنشوة إراقة الدم وتدمير الوطن وهو يصرخ: " ها أنذا.."، ثم يرعد ويزبد:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا      متى أضع العمامة تعرفوني

بعضهم عض على عظْمة السلطة بناجذيه أو قرأ ما يرسم له ولها  فكز بأسنانه عليها لينقذها وينقذ بها، وبعضهم استمات في طلبها أو دُعي إلى ذلك وأغري بأن يكون منقذاً فاستجاب من دون حساب.. والكل غرق أو أغرق نفسه وغيره في اللعبة السياسية والدهاليز الأميركية على نحو ما، سواء أكان أداة أو ضحية، صاحب رأي أو دراية أو مجرداً من الرأي والدراية.. ودخل كل أولئك، بنا أو على حسابنا، دائرة الخداع السياسي الطاغي، فمنهم من أبهجته صورته وصورة من حوله في فضائيات وصحف وتظاهرات فسار إلى حتفه بظلفه من حيث يدري ولا يدري وأغرقنا بالدم، ومنهم من تمسك بوهم من نوع ما، استقاه وتشربه من مضللين أو من معطيات يقين، ولكنه أفضى بنا، أو يشرف على أن يفضي بنا، إلى الموقع الذي أفضى إليه صاحبه..

وفي ظني أنه قد يندم العاقل ذو البصيرة والضمير، أياً كا شأنه أو وقعه، إذا قيظ له أن يخرج من تلك الزفة ويتفرج عليها من الخارج.. وسيكون هناك من قد لا يغفر لنفسه خطأها أو التهلكة التي ألقته في خضمها السياسة الخادعة أو السياسات المخادعة حين غرق أو استغراق في الخداع السياسي والكذب على الذات.. وبعض المفكرين والأخلاقيين والساسة والمثقفين تشدهم أوضاع وقضايا وحقائق وقيم، ويمضون في طريقها على هدي من ضمائرهم أو قناعاتهم من دون أن يحسنوا قراءة الواقع واستنطاق التاريخ.. ولا يرون اللاعبين الكبار الذين يتلاعبون بالقضايا والشعوب والضمائر والقيم، أو لا يقدرونهم حق قدرهم، أو يخطئون في التقدير والتدبير، فيقعون في الفخ، ويصبحون.. ويجعلون غيرهم.. ضحايا وقضايا في آن معاً.. ويدخلون صفحة من صفحات التاريخ على نحو ما.. وقد يهمهم أو لا يهمهم حكم التاريخ.. وقد يكتوون بنار من نوع ما ويعضهم اليأس والأسف، ويجلسون على مفرق من مفارق الزمن ينتظرون المصير.. وقد يشيخون من الهم والغم وهم ينتظرون الفرج الذي لا يجيء.. شأنهم شأن " غودو".. إن كانوا من أصحاب الفكر والرأي والتبصر.. وفي كل حال وعلى كل حال سيجلسون تحت ظلال شجرة السياسة بعد الندم أو الهرم، جلسة الشيخ اليماني الهَزَّانيُّ الذي جلس تحت نخلة سامقة وقد هده التعب والسّغَب، وأخذ ينظر إلى ثمرها العالي، يتشهَّاه ولا يطاله، ويهزها حسب اقتداره فلا تهتز ولا يسّاقط عليه من ثمرها شيء.. فيقول لنفسه، وقد هده الكبر والجوع وطول الانتظار واستطالة الوهم: "تقاصري آكلْ جَناك قاعداً"!!. وحين لا تستجيب له، وتبقى في عليائها متعالية، عابثة لاهية.. حينذاك ربما يدرك وضعه وما جناه على غيره وما جنته عليه الأيام، فيقول ما قاله عبيد بن عبد العزى الربعي، والحسرة تعصف بكل كيانه:

إن الليالي أسرعت في نقضي   أكلن بعضي وتركن بعضي

حَنَين طولي وطَوين عَرضي    أقعدنني من بعد طول نَهضي

ولا حول ولا قوة إلا بالله.