خبر بين ثمر البيان وثمر السلاح >>علي عقلة عرسان

الساعة 10:42 ص|21 أكتوبر 2011

بين ثمر البيان وثمر السلاح  >>علي عقلة عرسان

 

قتل يقتل، قاتل مقتول.. تلك كلمات تدل على بعض سنن الحياة في أرض الله منذ قابيل وهابيل إلى يوم يرث اللهُ الأرض ومن وما عليها.. وعلى الرغم من نهي الأديان عن القتل بوصفه إحدى الكبائر فإن الناس يقتلون ويُقتلون، ويسيل دم ويتجدد قتل.

النفس بالنفس تلك إحدى قواعد العدل، والقتل بسبب من فساد في الأرض عقاب يقره الدين والمجتمع ويحدده الشرع والقانون، ولكن القتل بغير ذلك ظلم يجر ظلماً، ودم يجر دماً وفوضى تعم وخطبٌ يطم.. وفي خضم القتل والقتل المضاد تضيع أنفس وحقائق، وتستيقظ ثارات، وتغلُظ قلوب ورقاب، ويواكب ذلك فرح وحزن في دار من الدارين أو معسكر من لمعسكرين.. وكلٌ يجد ما يسوغ به ما يفعله ما يشعر به ويعبر عنه.

ولكن القتل يبقى هو القتل..

والقتل في أوار الحروب بين جيوش وجيوش وأمم وأمم يكون أوسع مداراً وأشد فتكاً وأكثر ضحايا وأعمق وقعاً على البشر وأرسخ جذوراً بين أمم منهم.. ومع ذلك يقبلون عليها إقبال الفراش على النار، وكل من يسقط فيها شهيد بنظر هذا الفريق أو ذاك.. وليس هناك من يستطيع أن يميز ليقرر في مثل هذه الأوقات الحالات بين قتيل وقتيل، ولكن كل فريق يعد من فقده شهيداً والأمر لله من قبل ومن بعد. والقتل داخل نطاق الأمة الواحدة أو الشعب الواحد في الوطن الواحد ينبت ثارات ويجر جرائر ويترك عقابيل، ويدفع الناس في كل الأماكن والأوقات ثمن ذلك ويستمرون في ارتكابه على الرغم من شكواهم منه؟!.. والقتل لا يتوقف والإنسان لا يتعظ ولا يرتدع.

الظلم ظلام، وفي ديجوره يتخبط أصحاب النظر الحاد فكيف بالأعشى وقصير النظر ومن عميت بصيرته وبقي بصره!؟ وفي ظلمة الظلم وجبروت الاستبداد يثمر القهر حقداً ويثمر الحقد عنفاً، ويثمر العنف موتاً.. فيبعث الدمُ الدمَ، ويقتتل العدلُ الظلم، ويسقط مزيد من الدم ليستمر جريان تلك الساقية الحمراء محددة معالمها بألوانها في نهر الحياة الهدار.

وفي خضم الموت نسأل عن الحياة ونتعلق بها ونشم شذاها، وفي خضم الظلم يتبدى لنا العدل قمراً وأملاً، وفي خضم الفوضى والخوف نعرف قيمة النظام والأمن، وفي خضم الظلم ندرك قيمة العدل ومفاعيل الرحمة.. وبين زمن وزمن، وفي مدى يقصر أو يطول، تكون لنا وقفة على هذه الضفاف في لحظات من إشراق العقل والروح لنسأل: أين العقل والحكمة والبصيرة وحسن الرؤية وسلامة القلب مما نحن فيه؟ وأين مكان الحسنى والقيم والأخلاق والإنسان وأين دور ذلك كله في الحوار الذي يقود إلى المعرفة والحكمة والمصلحة لنخرج على هديه من الظلمات إلى النور، ومن نار الفتنة إلى جنة المحبة ودارات المودة والإخاء؟!

الحوار بين المختلفين مفتاح مغاليق المواقف، وبين الحكماء والعقلاء غنى معرفي وروحي وارتقاء بالعقل والإنسان، وبين الباحثين عن الحلول للمستعصي من الأزمات والمشكلات بأنواعها واحة في بيداء الصراع والنزاع ذات ظل ظليل ونسيم عليل وماء ينقع الغلّة، واحة بين مناقع الدم والفوضى والعنف والغضب تسهم في المعرفة والتفاهم والتقارب والوفاق والاتفاق،  ويستبين ذو العقل والضمير المستنير بنور الحوار طريقه إلى عوامل البناء وجسور الثقة وإشاعة العدل والحرية وإسعاد الناس.. وإذا لم يورق الحوار ويزهر ويثمر فإن حال العباد والبلاد لا يستقيم بين جهالة وجهالة تغلان حقداً وموتاً.

وشأن الفئات والأحزاب والأشخاص في هذا شأن الأمم والثقافات والحضارات.. فالحوار بين الثقافات لا ينقطع وينبغي له ألا ينقطع، لأنه كتيارات الماء والريح يوفر للأجواء النقاء بالحركة، ويحقق للبشر التفاعل التفاهم بالتواصل، ويكسِب الوجود تنوعاً وغنى. والحوار يجعل الثقافة تفيض جدة وتجدداً، ويكسب العقول حيوية، ويسبغ على الحياة ألواناً من المتعة، ويتيح لكل من يقبل عليه باحترام وثقة واستعداد عقلاني ومنطقي جيد فرصة الانتقال إلى ساحة رؤية فكرية وإنسانية وحضارية جديدة، ويعطي لتكشف الحقائق والمنافع دوراً في تغيير مجرى الصراع.. ويعطيهم للإنسان جرعة من الأمل ودفقة من النشاط ورغبة في معرفة الآخر الشريك في الشرط الإنساني والمصير الإنساني.

وحوار الثقافات القائم على قيم ومعايير حضارية وإنسانية يؤدي إلى تواصل وتفاهم أفضل بين الشعوب، ويجعل الأعراق والأديان أكثر تقارباً واستعدادا للتفاهم ونبذ التعصب والتطرف المقيتين. وله تأثير كبير في إزالة بؤر التوتر، وقبول الآخر، وتبادل المصالح، إذ تفضي المعرفة المتبادلة إلى تعارف أعمق وأشمل، يبدد ما يعلق بالأذهان من أوهام وما يتكوّن في النفوس من ضغائن ينميها الجهل والتباعد، ويؤسس للصداقة ونبذ العداوة التي غالباً ما يغذيها التعصب والذاكرة العامرة برواسب الأحداث والتاريخ والأفكار السلبية عن الآخرين، تلك التي تكون مثقلة بروايات تاريخ الخصومات والصراعات والحروب وركام مخلفاتها. ومن هنا تأتي أهمية حوار الثقافات وتفاعل الحضارات وضرورة اللقاءات التي تهدف إلى تعزيز دور الحوار في ترسيخ السلم على أسس العدل، ونبذ الحرب كوسيلة للوصول إلى الأهداف والغايات وحل الخلاقات والصراعات. وليس من الحضارة في شيء اللجوء إلى العدوان والقوة في الصراعات، ولا منها الظلم والطغيان والقهر والاستعمار.. وقد قال شاعرنا مطران:

يَسُومُونَنا بِاسْمِ الْحَضَارَةِ حَرْبَهُمْ / أَلاَ إِنَّهَا مِمَّا جَنَوهُ لَتَلْطِمُ

أَلاَ إِنَّهَا سَاءَتْ عَرُوساً لِخَاطِبٍ /  إذَا بَسَطَتْ كَفّاً وَحِنَّاؤُهَا دَمُ

   وليس منها ولا من الدين في شيء إشعال الفتن والتعصب والتطرف والقتل لإعلاء شأن فئة أو نظام أو طائفة أو عقيدة بالعنف والقوة.. وقد أصاب الشاعر أحمد محرم في تساؤله:

أمِنَ الحضارةِ هَذِهِ الفِتَنُ التي /  باتت لها الدُّنيا تَضِجُّ وتَجْأرُ

ذَبَحُوا السَّلامَ فَمِنْ دِماءِ ذَبِيحهِم /  في كلِّ أرضٍ لُجّةٌ تتسعَّرُ

الحربُ سُوقٌ والنُّفوسُ تجارةٌ/بِئْسَ التِجارُ همو وبئسَ المتجرُ

وللكلمة دورها في هذا المجال، سواء أكانت نثراً أم شعراً، وللشعر دوره في الحرب والسلم وفي التقارب والتباعد، فهو ثمر القلب والعقل والعاطفة، تطفر به الكلمات على الألسن، ويحفل تاريخه بالحلو والمر، بالجميل والقبيح، النافع والضار.. ويحمل الحكمة وينشرهاً آناً فيبعث على التروي والتفكير والتدبر، ويثير أعاصير الانفعالات والغرائز في أحايين فيبعث غضب "الجهال" عنفاً وحرباً وعصبية جاهلية وجهلاً مستنفراً، فيغري ويُضري، مذكراً بقول عمرو بن كلثوم:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا       فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

وثمر البيان كما ثمر اللسان يعبر عن الإنسان، ويدفعه إلى التهالك على المهالك أو إلى النجاة من كل شر وإغناء الحياة بكل خير.. ولسان الإبداع شعراً سيف يروي شفرتيه في الحرب والسلم، الحب والبغض، ويشفي القلوب أو يمرِضُها، ويزين وجه الحياة والعلاقات واللقاءات أو يقبحها ويجعلها تشتعل حقداً وناراً.

والحرب قد تبدأ بكلام وتنتهي بكلام.. ولكن قد لا يعرفها جيدا من يلقون الكلام على عواهنه فيثيرون الغرائز والأنفس ويبعثون العداوات جزعة.. فيسيل دم يطلب دماً.. والحرب يعرف أضرارها ويئد نارها حكيم ويثيرها جاهل غوي.. وفيها قال حكيم الشعراء زهير ابن أبي سلمى، فأصاب وأجاد:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ / وَما هُوَعَنهابِالحَديثِالمُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً / وَتَضرَ إِذاضَرَّيتُموهافَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها / وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم /  كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ

  فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها / قُرىً بِالعِراقِ مِنقَفيزٍ وَدِرهَمِ

والميل إلى السلم أسلم ما لم يكن ذلك مورثاً للذل، ومؤبداً للظلم، ومميتاً للحق والهمة العالية، ونافياً للعدل والحرية والكرامة.. وذاك الميل يجنب بلاداً وعباداً وشعوباً وأمما ويلات كثيرة ومخاطر كبيرة، ويحمي حضارات ويشيع الازدهار، ويرفع قيمة العقلاني والروحاني والمعرفي الأصيل في الحياة وبين الأحياء.. وقد يكون السبيل إليه كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وموعظة حسنة، وحوار بالتي هي أحسن.. وذاك خلق وأسلوب وميل قال الله سبحانه وتعالى فيه " ولو كنت فظاً غليظ القلب لنفضوا من حولك.."، وهو قول وفعل وسلوك ينميه ويهديه لنا ويهدينا إليه ثمرُ اللسان شعراً، وقد أشار ابن رشيق القيرواني إلى شيء من ذلك حين قال:

وقد مَارَسُوا مِن جَانِب الْحَرب أَخشَناً / فخابوُا ولكِنْ جَانِبُ السِّلمِ أَمْلسُ

هو الدَّهْرُ ذُو الحاليْن بؤسٌ ونعمةٌ / ولكنَّه في كُلِّ حَاليه يُلَبَسُ

  والله ولي التوفيق.