خبر البطل الأكثر مناهضة للبطولة.. معاريف

الساعة 12:37 م|19 أكتوبر 2011

البطل الأكثر مناهضة للبطولة.. معاريف

بقلم: بن كاسبيت

(المضمون: مهما يكن هنا، يا جلعاد، وليس مؤكدا انه سيكون خيرا، تذكر دوما ان ليس شيء بذنبك، ليس هناك عبء على كاهلك. لست أنتَ المذنب بل نحن، حافظ على نفسك، خذ كل شيء بخفة، ابدأ حياتك من جديد، عش اللحظة، على الاقل أمس كانت لحظة تستحق العيش  - المصدر).

ليس هناك من لم يرغب في معانقتك أمس، يا جلعاد. كنت تبدو كقط صغير مبلل، منتفض، مجوع، في ليل عاصف مظلم. انتزعت الدموع منا جميعا أمس يا جلعاد، من اولئك الذين ايدوا صفقة تحريرك ومن اولئك الذين لم يؤيدوها، مثلي. إذ في النهاية نحن بنو بشر، في صدورنا جميعنا يخفق قلب انساني، ونحن جميعنا نعرف كيف نشخص لحظة انسانية تقبض الانفاس حين نلتقي بها. يوم أمس، كله، كان لحظة كهذه. نفوسنا ارتعدت امس مع صوتك، نفسنا ثقيل مع نفسك. وبالفعل، كم خير أنك جئت الى الديار.

قبل أكثر من خمس سنوات انتزعت من دبابتك في ظلمة الليل واختفيت في القبو. ذهبت عنا كرجل فريق دبابة مجهول. وأنت تعود، ليس بذنبك، كعظيم. الفائز الاكبر في "نجاة غزة". عندما ذهبت كان يعرفك رفاقك في فريق الدبابة، رفاقك في السرية، وأهالي متسبيه هيلا. اما اليوم وانت تعود فان صورتك تبرز من مئات اليافطات في أرجاء البلاد. اسمك على كل لسان. زعماء أجانب يطالبون بسلامتك، مؤثرون عالميون يعنون بك، ونحن، نحن فجأة نعرف بالضبط اين تقع متسبيه هيلا. البلدة الصغيرة هذه، النائية، اصبحت هدفا محصنا، جادة روتشيلد في الجليل.

اتخيل أن مستوى الاستقبال الذي انتظرك امس يا جلعاد، فاجأك قليلا. ولعلك سألت نفسك إذا كنت قد حررت المبكى لتوك؛ او فزت بجائزة نوبل؛ او أقنعت حماس الاعتراف باسرائيل ونزع سلاحها طواعية. لا، كل هذا لم يحصل، لو أنك لا سمح الله قتلت في الدبابة في تلك الليلة الى جانب رفيقيك حنان باراك وفابل سلوتسكر، وكان وصل الى متسبيه هيلا مندوبان عن ضابط المدينة، الى جانب خبير نفسي ليبلغون ذويك. وكان سينشر اعلان صغير عنك في الصحف وكنت ستذوي عن الواقع الجماهيري. ولكن كونك لم تقتل بل مجرد انتزعت من الدبابة وجررت الى داخل غزة، استقبلك امس رئيس الوزراء، وزير الدفاع وما لا يقل عن ثلاثة جنرالات.

هكذا نحن، يا جلعاد، لا يوجد توازن. لا يوجد هنا ضبط للنفس. لا يوجد طريق وسط. الاستقبال على شرفك أمس هو النقيض التام لطبيعتك، تواضع وانطواء عائلتك. أي هوة فغرت امس فاها بين شخصيتك الهشة وبين محبي المتعة ممن أحاطوا بك في الطريق من المروحية الى امك. كلهم تمسكوا امس باطرافك، كلهم حاولوا ان يقتطعوا لانفسهم بعضا من المجد، مجد الاستسلام للارهاب. وتركزت الكاميرا في الجانب الطيب لرئيس الوزراء عندما أديت التحية له. هذا ليس بالضرورة هو جانبك الطيب، إذ انك انت بعد خمس سنوات ونصف في القبو، ليس لك جانب طيب الان، ونأمل ان يكون.

يثور الانطباع يا جلعاد بانك شاب مثقف، شجاع، وبالاساس متواضع، ليتني أستطيع ان انقطع في السنوات القريبة القادمة عن وسائل الاعلام، الا اقرأ الصحف والا اشعل التلفزيون وذلك لان الضوء الذي يغمرك الان، هذا الضوء مضلل من شأنه ان يحرقك. أمس تصرفنا هكذا مثلما نتصرف مع قطعة فخار هشة قابل للكسر، غنية الواقع، فريدة النوع. اتروجة حقيقية. المشكلة هي أن أمس قد مر. والان بانتظارك الغد. اسرائيل تحولت، بفضلك الى عائلة كبرى، ولكن اسرائيل ايضا تعرف كيف تكون غابة بلا رحمة.

انت تعود الى دولة كافحت في سبيلك خمس سنوات ونصف، ولكن عندما ستنزل لتقود السيارة في طرقها، سيكون غير قليل من السواقين الذين سيسرهم دهسك، وربما أيضا تركك على قارعة الطريق. اذا كنت مريضا، يحتمل ألا ينتظرك اطباء (إذ هم مستقيلون). واقعنا هنا يتراوح بين ذروة الرحمة العالمية وبين انعدام الرحمة. وعليه فان حياتك الجديدة ستكون معقدة جدا، ولن يكون سهلا التصدي لمتطلباتها، وانا أصلي لنجاحك.

عندما ذهبت كنت ابن أفينا ونوعام. ومع عودتك انت ابننا جميعنا. التوقعات في السماء، الاذان الى الحائط والكاميرات في كل ثقب. خمس سنوات ونصف لم يعانقك أحد، أما الان فقد تختنق بالعناق. خمس سنوات ونصف لم يتحدثوا اليك، والان قد تتشوش من كثرة المتحدثين. انت البطل الاكثر مناهضة للبطولة التي يمكن تصورها. انت تحتفظ برقم قياسي نادر، خاص، لن يحطم ابدا. انت الشخص الوحيد الذي التقطت له صورا في نصف ساعة مع رئيسي أركان: لحماس وللجيش الاسرائيلي.

خرجت أمس من المكان الادنى في العالم مباشرة الى القمة الاعلى. مهما يكن هنا، يا جلعاد، وليس مؤكدا انه سيكون خيرا، تذكر دوما ان ليس شيء بذنبك، ليس هناك عبء على كاهلك. لست أنتَ المذنب بل نحن، حافظ على نفسك، خذ كل شيء بخفة، ابدأ حياتك من جديد، عش اللحظة، على الاقل أمس كانت لحظة تستحق العيش.