خبر صفقة الوفاء للأحرار " ... دروس ودلالات !!!.. د. حسن أبو حشيش

الساعة 01:16 م|12 أكتوبر 2011

في البداية دعونا نعترف بفضل الله علينا , ونعمه , ورحمته, ورعايته، فلولا الله ما خطفنا ولا صمدنا ولا فاوضنا ولا أنجزنا. فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً يوازي نعمه ويكافئ مزيده، ويا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد في السماء وفي الأرض وما بينهما وفي أي شيء بعدهما.

بدأنا بهذه الكلمات لأنها تضيع في زحمة اللغة السياسية والعسكرية والأمنية، وضياعها ينتج عنه بتر في اللغة, ونقص في البناء المعلوماتي, وبالتالي خلل في النتائج.

بكل المقاييس نحن أمام حدث سياسي وأمني وعسكري ... تاريخي ومفصلي، وسيؤرخ المؤرخون لما قبل صفقة " الوفاء للأحرار" ولما بعدها . ورغم أنها ليست الصفقة الوحيدة، وليست الأولى في تاريخ الصراع مع هذا الكيان الصهيوني الغاصب ... إلا أنها فريدة من نوعها والأولى في نقاط كثيرة . فهي تحمل من الدروس والدلالات العديدة من أبرزها:

أولا : صلابة الوفد المقاوم المفاوض الذي رسم خريطته منذ اللحظات التي أعقبت اسر الجندي الصهيوني, وحدد ما يريد وكيف يريد, ووقف صامداً أشم في وجهة التحديات والضغوطات والمؤامرات والمكائد والإرهاب الدموي والحرب والدمار والحصار... كان مفاوضا عنيدا وطنيا لم يعهد الصهيوني مثل هذا العناد والإصرار والتمترس خلف الحقوق.

عرف أنه يمثل آمال وتطلعات شعب و أسرى وذويهم، فلم يتلاعب بمشاعرهم، ولم ينتقص من حقوقهم، فكان خير الأمين وخير المثل وخير المتحدث باسمهم .ولم يبرم أمرا إلا بمشورتهم ورأيهم وحوارهم ... فنجح ووفقه الله.

وهذا يدل على أن الفلسطيني الحقيقي ليس هو ذاك المفاوض الذي أمضى عشرين عاما وهو يسهر ويأكل ويشرب ويجالس وينام مع جلاده ثم يفاوضه.. لقد كان متلقي الاملاءات ففشل وما زال يفشل.

إن مفاوضي صفته الوفاء للأحرار كرسوا كيف يجب أن تكون المفاوضات مع الخصم والعدو من حيث التخطيط والحفاظ على الحقوق والمناورات الندية والعزة والإباء .. فمن الضروري أن يخلع الشعب الفلسطيني الثوب التفاوضي الذي أُجبر عليه وفُرض عليه، ويلبس الثوب الجديد الذي فصله وحاكه المقاومون بالدماء والمعاناة ولكنه أثبت شجاعته ونجاحه.

ثانيا : تمكنت الصفقة من كسر كل المحرمات , وأبطلت الاعتراضات واللاءات التي تمسك بها الاحتلال منذ احتلاله فلسطين، وأكد عليها منذ مفاوضاته مع المقاومة ، فلا اعتراف بحماس, ولا مفاوضات مع المقاومة , ولا علاقة للضفة والقطاع بأسرى القدس وأسرى 48, والأسرى العرب ولا إفراج عن (الملطخة أياديهم بالدماء), ولا إفراج عن المؤبدات بما فيها النساء... فمع إصرار المفاوض العنيد ذابت كل هذه اللاءات وغيرها , وحققت الصفقة انجازات لأول مرة تتحقق في تاريخ الصفقات , من هنا استحقت لقب الندرة والتميز والشمولية , وهذا أيضا درس إن الاحتلال وقراراته ليست قدراً أزلياً علينا وبالإمكان تغيرها وكسرها وتجنبها بما يحقق مصلحة الشعب الفلسطيني.

ثالثاً: أفادت كل المعلومات التي رشحت من بين ثنايا جولات التفاوض أن الوسيط المصري كان له دوراً بارزاً وأساسياً في إنجاح الصفقة رغم أن الملف لم يخرج من يد الحكومة المصرية منذ خمسة أعوام , وهذا يشير إلى وطنية جهاز المخبرات العامة المصرية الذي تسلح بقرار سياسي وطني ومسئول. و هنا يبرز قضية مهمة جدا وهي أن الأمة العربية حكومات وشعوب تملك من أدوات التغيير والإجبار للاحتلال، فالأمر ليس قطعياً بين حالة الحرب العسكرية المباشرة وبين حالة الاستسلام الكاملة، فهناك مساحات رمادية واسعة، وأدوات ضغط  اقتصادية وسياسية وأمنية وإعلامية، لتحقيق قضايا محددة بعينها.

فعلينا البناء على هذا الموقف المصري المشرف، لننفض الغبار عن مقدراتنا الضاغطة, وأدواتنا النضالية المتنوعة فالمعركة طويلة وتحتاج تضافر كل الجهود، وتستوجب الاعتماد على الذات. فالعالم اليوم لا يعرف إلا لغة الأقوياء، لا لغة الاستجداء والضعف وتسول الحقوق.

رابعاً:الصفقة جاءت بفعل المقاومة. ولقد أجمع على نتائجها كافة اللون السياسي، حيث باركتها فتح ومنظمة التحرير كما باركتها حماس والجهاد وبقية الفصائل، وهذا يؤكد أن المقاومة تُجمع الشعب الفلسطيني, والتمسك بالحقوق يُوحد الأسرة الواحدة، ومكونات المجتمع .. عكس خيار التسوية والتفاوض الفاشل الذي كان سببا في الانقسام والتشتت والاختلاف والتشرذم، فمهم جدا ان نتوقف عند هذا المعنى الدقيق, ما دمنا نبحث عن مستقبل وشراكة وتثبيت للحقوق.

خامساً: أثبتت المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس أنها ترى بعين الكل، وتراعي حقوق الجميع، فالصفقة لم تميز بين مكونات الحركة الأسيرة. وهذا سمت من أراد أن يكون كبيراً وجامعاً ومجمعاً. وهنا نؤكد أن احتمالات البعد عن الحزبية والفئوية كبيرة جداً في السلوك الفلسطيني ولا يُقصد التخلي عن الحزبية فهذا مظهر من مظاهر الصحة والديمقراطية، ولكن نقصد التعصب الأعمى بحق وبدون وجه حق، وعلى حساب المصلحة العامة للقضية الفلسطينية، فمستقبل فلسطين لا ينسجم مع الرؤى الحزبية واستفرادها بالتحكم بالكل.

سادساً: وأعتقد أن الصفقة وجهت رسالة قوية لكل الأطراف أهمها اعتبارها رافعة نحو المصالحة وإنهاء الحالة القائمة، والمصالحة ليست بشروط الرباعية ولا الاحتلال ولا ضغوط الإقليم فالصفقة هي الحلقة الأصعب والأعقد والأغلى ثمناً ... ولكنها تمت نحو الإنجاز، والمصالحة أسهل بكثير ولكن تحتاج إلى الإرادة التي توفر لإنجاح الصفقة.

فهناك قاسم مشترك بين معوقات المصالحة والصفقة فلا يُعقل تذويب معوقات الصفقة مع الاحتلال، ولا تستطيع الأطراف تذويب معوقات المصالحة.

سابعاً: نجاح المقاومين بالاحتفاظ بالجندي الصهيوني وسط كل مؤامرات محلية وإقليمية ودولية بجانب الاحتلال يُشير إلى عظمة المقاومة وعظمة هذا الشعب، الذي قُدمت له كل الإغراءات المادية لإفشاء السر والكشف عن مكان الجندي، ومُورست ضده كل التهديدات من حصار وعدوان وشهداء وجرحى. وفي ذلك رد ساطع وقوي على كل المشككين في نزاهة هذا الشعب المعطاء والمضحي، وعلى الصورة الحقيقية لهذا الشعب الذي احتضن المقاومة قولاً وفكراً وفعلاً، لقد التحم الشعب وحكومته ونوابه وقواه الحية في بوتقة واحدة ملامحها الوحدة والصبر والثبات فكان الانجاز... شعب وفي، ومخلص، وحكومة ونواب دفعوا الثمن غالياً دون التنازل ... وفي ذلك درس كبير للحالة التي يجب أن تسود في الميدان والواقع، وإنهاء حالة الخصومة النكدة التي كانت من قبل بين الحكومات المتعاقبة وبين المجتمع والشعب.

وأخيراً لا يمكن لنا إلاَّ أن نرفع القبعة إجلالاً وإكباراً للمقاومة وعلى رأسها كتائب القسام، ولشيوخ وقادة المقاومة الذين قضوا نحبهم والذين مازالوا ينتظرون.

من المهم أن نقابل الصفقة متواضعين حامدين شاكرين عابدين لله، أوفياء للأسرى والشهداء وللمقاومين.

صفحة جديدة من تاريخ الشعب الفلسطيني أُفتتحت تحتاج مضمون جديد من الرؤى المتطورة بما يحقق حلم الاستقلال والعودة والحرية وبما يضمن الوفاء للدم الفلسطيني.