خبر « الشقاقي » أذاب « القضبان » بفكره.. وباقتفاء أثره أصبحنا « جنرالات الصبر »

الساعة 09:00 ص|08 أكتوبر 2011

"الشقاقي" أذاب "القضبان" بفكره.. وباقتفاء أثره أصبحنا "جنرالات الصبر"

فلسطين اليوم-غزة

ستة عشر عاماً مضت، ولا تزال رائحتك العطرة تفوح من جدران سجني عسقلان ونفحة، تلك المعتقلات التي صنعت منها مدرسةً للفكر الجهادي المقاوم، هناك حيث التفت إليك الجميع، واتخذوا منك أستاذاً موحداً بين الفصائل كافة، هناك على تلك الطاولة التي ساندتك في كتابة أفكارك وكتاباتك، ورسائلك إلى المجاهدين خارج حدود المعتقل، لا تزال تقبع مكانها بجوار الحائط الذي كنت تتخذ منه منارةً لتعليم أولئك القدامى الذين لا يزالون يقبعون خلف القضبان، أساليب الصمود والصبر حتى بات يطلق عليهم "جنرالات الصبر" و"عمداء الأسرى".

ورجوعاً إلى تلك الحقبة التي صنعت فيها مجداً غير منتهي، وأدرت فيها حركة الجهاد الإسلامي، لتعطي من خلالها أوامرك بمهاجمة مضاجع العدو المغتصب وعدم السماح له بالنوم براحة وأمان في الديار الفلسطينية، تحدثنا إلى بعض أولئك القدامى من الأسرى المحررين، والذين منّ الله عليهم بالحرية والإفراج، في سبيل الحصول على إجابة تساؤل بات لغزاً غير مفهوم، لصعوبة العثور على الموثقين القدامى الذين شهدوا الزنازين مع الشهيد المعلم فتحي الشقاقي خلال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال.

أخوة المعتقل والقضية

يقول الأسير المحرر "عبد القادر المشوخي" من مدينة رفح، والذي عاصر د. الشقاقي خلال فترة الأسر، إنه تعرف على الشهيد المعلم قبل اعتقالهما، بعد أن بات غنيا عن التعريف في الساحة الفلسطينية، موضحاً أن معاشرته الحقيقة للمفكر الشقاقي كانت خلف زنازين الاحتلال وبالأخص داخل سجن عسقلان.

ويصف المشوخي الذي حكم عليه بالسجن 30 عاماً قضى منها 8 سنوات فقط، حتى أفرج عنه في إطار صفقة تبادل للأسرى عام 1994، الدكتور الشهيد بـ"الأستاذ المعلم وصاحب القدرة الكبيرة على التأثير"، مشيراً إلى أنه كان عندما يتجاذب أطراف الحديث مع الآخرين يتحدث من منطلق قوة وحق وحقيقة، لذلك كان بمثابة قدوة حسنة للكثير من الأسرى.

وأضاف: "لقد قاسمني الشقاقي الخبز والملح داخل زنزانة اشترك معنا فيها 8 أسرى آخرين، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والذين لا يزالون في المعتقل حتى هذه اللحظة"، مشيراً إلى أن الكثير من قادة الفصائل الإسلامية الأسرى، كانوا تلاميذاً في مدرسة الشقاقي ويلتفون حوله في كل فرصة لتشرب الأفكار الإسلامية.

وحول النشاط الذي كان يقوم به الشهيد المفكر الشقاقي، داخل سجون الاحتلال، قال الأسير المحرر إن الشهيد المعلم، "كان يعرف بقلة النوم في الليل، فقد كانت إدارة سجون الاحتلال تغلق إنارة الزنازين الساعة العاشرة مساءً، فكان الشقاقي يقوم بوضع الطاولة بجوار بوابة الزنزانة ليستنير من ضوء الممر، ويضع سماعات الراديو في أذنيه حتى لا يزعج الأسرى النائمين، ويستمع إلى الإذاعات الأجنبية والإسرائيلية، إلى جانب استمراره في الكتابة ودراسة الكتب الدينية والمؤلفات الإسلامية، وأحياناً كنا عندما لا يأتينا النوم، يعطينا درساً في الجهاد والفكر المقاوم، حتى ينام قليلاً قبل آذان الفجر ليصليه فينا جماعة، ويعاود الدراسة والكتابة من جديد، لذلك كان موسوعة فكرية متنقلة، لا تعرف الخضوع أو الاستسلام".

سجين باعث للآمال

أما عن حياة الأسر ومعايشة الآخرين، فيقول المشوخي إن "الشقاقي اتصف بزهده في تعامله مع الآخرين، فقد كان يقاسم من معه في غرفة المعتقل، نظافة الزنزانة، وصنع المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة، وكان ذلك يسير في إطار منتظم وكلنا يعرف دوراً له في ذلك، ورغم أن العديد من الأسرى كانوا يرغبون في حمل عبء ذلك عن الدكتور المفكر، لجعله متفرغاً في تقديم الدروس الدينية والجهادية وكتابة المؤلفات الإسلامية، إلا أنه لم يكن يوماً يقبل بذلك، وكان يصر على ألا يأخذ أحد دوره في هذه الأعمال".

وبخصوص كيفية تواصله مع المجاهدين خارج المعتقل وإدارته ساحة الصراع مع العدو الصهيوني وهو داخل الزنازين، أوضح المشوخي أن الشهيد الشقاقي كان يرسل الرسائل السرية للمجاهدين على هيئة "كبسولات" بطريقة خفية، حتى ضاقت به إدارة السجن وبمهارة إدارته للحركة في الخارج، إلى أن قررت سلطات الاحتلال إبعاده قبل انتهاء فترة محكوميته لما كان يمثله من خطر كبير على أمن دولة الاحتلال.

ويختتم الأسير المحرر المشوخي حديثه بالقول: "في هذه المناسبة الشقاقي، يستحضر الأسرى داخل سجون الاحتلال خاصة القدامى منهم، أب عظيم استطاع نشر فكره، وتوحيد الأسرى في السجون، حتى ترك بصمته على الساحة الفلسطينية والإسلامية شهيداً، مخلفاً وراءه جيشا من الذين حملوا فكره بالسجن وخارجه.

طراز فريد من نوعه

أما الأسير المحرر "سعيد العتبة" أحد عمداء الأسرى الفلسطينيين، والذي عايش الشقاقي وفكره داخل السجون، أصر على أن يتناول في حديثه عن لقاءه بالشقاقي الجانب الإنساني الذي كان يطغى على كاريزما الأخير، ويقول: "الدكتور الشهيد الشقاقي، كان إنساناً مناضلاً ومعطاءً من الطراز الأول، لقد عرفته خلال السجن وكنت قد سمعت عنه قبل دخوله المعتقل، فهو صاحب مبدأ وفكر قوي، وكان متميزاً بصفاته التي كان يحملها، وحرص على أن ينسج العلاقات مع السجناء من كافة الفصائل الفلسطينية".

وأوضح العتبة الذي قضى في سجون الاحتلال 37 عاماً من عمره، أن الشقاقي كان يملك سلاحاً مؤثراً داخل السجون، وهو الحوار والنقاش، "فما من أحد يستطيع هزيمته بهذا السلاح الذي كان ينطق بالحق والفكر المتزن، وكان يعرف بالهدوء الشديد". وأضاف: "لقد عاصرت د. الشقاقي في سجن نفحة عندما كان يقبع فيه نحو 80 أسيرا فقط، ومعرفتي فيه هي اعتزاز كبير حقاً، فقد عرفت عنه ديناميكية عالية في التفكير والعمل، وكان كثير الكتابة، وجادا في الوصول إلى أهدافه التي تصب في صالح القضية الفلسطينية، وهذا الاندفاع أدى إلى تشكيل تنظيم إسلامي شكّل انطلاقه إسلامية نحو الوصول إلى تحرير فلسطين بكامل أراضيها المحتلة منذ عام 1967، وعام 1948.

ويتحدث الأسير المحرر عن أحد المواقف لمؤسس حركة الجهاد الإسلامي داخل المعتقل، حيث يضيف: "عندما كنا في الأسر، كنا نشاهد مباراة كرة قدم هامة بين الاتحاد السوفيتي وهولندا، في سياق تصفيات كأس الأمم الأوروبية، حيث شاركنا الشقاقي في مشاهدة هذه المباراة، وبرزت فيه روح رياضية كبيرة، لم نكن نعرفها من قبل، رغم أن بعض الأسرى قد حاولوا تسييس هذه المباراة لأوضاع سياسية كانت سائدة حينها، إلا أنه كان ينظر إلى المباراة من منطلق رياضي بحت دون إثارة أي نعرات سياسية بين الأسرى".

نقل وإبعاد فاستشهاد

ويذكر الأسير المحرر العتبة، لحظة قرار نقل الأسير المفكر الشقاقي إلى سجن عسقلان عام 1988، حيث كان يقبع في غرفة رقم (5) قسم (ج)، ويقول: "كنت أنا أمكث في الغرفة المقابلة له، وعندما صدر قرار نقله إلى سجن آخر، سمعت بكاء بعض الأخوة في المعتقل ، لأن الدكتور الشقاقي سيفارقهم، ما يعكس الحب الشديد الذي كانوا يكنونه له".

كان ذلك آخر يوم بين الأسرى في سجن عسقلان والدكتور فتحي الشقاقي، الذي تقرر نقله إلى سجن نفحة، ولم يدم طويلاً في هذا المعتقل، حتى صدر قرار بإبعاد المفكر الشهيد إلى جزيرة قبرص، بعد أن نفدت الخيارات أمام سلطات الاحتلال في تقييد فكر الشقاقي، لما كان يمثله من خطر كبير على أمنهم، وحياتهم.

واتصف الشهيد د. الشقاقي بالتوازن في كل مسارات الحياة داخل المعتقل، وكانت هذه الرؤية جزءا من أفكاره ومبادئه، التي لم تتسم بالشدة والتعصب، لذلك أحبه الجميع، لما كان يحمل من صفات إنسانية رائعة، استطاع أن يجسدها على أرض الواقع، ليضع اسمه في أعلى قائمة قادة ثورتنا الفلسطينية- وفق قول العتبة.

ويختتم العتبة حديثه حول الأيام التي لحقت بإبعاد الشقاقي، وتنفيذ عملية الاحتلال الجبانة في اغتياله، قائلا: "لم ننس أبدا الشقاقي عندما أبعد إلى قبرص، وكان الحديث يدور داخل السجن عن أخباره، وحتى جاء اليوم الذي لا يفارق ذاكرتي، كان حينها يوم الخميس الموافق 26/10/1995، حيث فقدنا الشقاقي شهيداً تاركاً وراءه مئات المحبين والمحزونين على فقدانه، وقد تلقى الأسرى الخبر بحزن شديد، ولكننا استقبلناه أيضاً بفخر واعتزاز، وقام الأسرى بتعزيه بعضهم بعضاً، والتجمع في ساحات المعتقل لإلقاء الكلمات حول حياة الشقاقي وبطولاته ضد دولة الاحتلال، معتبرين استشهاده خسارةً كبيرة للشعب الفلسطيني ومجاهديه.