خبر الخيارات والسيناريوهات بعد تقديم طلب العضوية ..هاني المصري

الساعة 06:58 م|03 أكتوبر 2011

الخيارات والسيناريوهات بعد تقديم طلب العضوية ..هاني المصري

قدم الرئيس محمود عباس طلبًا للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين على الرغم من الضغوط والتهديدات الأميركية والإسرائيلية، والنصائح التي قدمت له من الأصدقاء والأشقاء، وألقى خطابًا تاريخيًا من على منبر الأمم المتحدة، شكّل مرافعة شجاعة حملت معاناة وآلام وطموحات الشعب الفلسطيني، ورفعت سقف الموقف الفلسطيني من خلال الإصرار على رفض استئناف المفاوضات الثنائية دون الالتزام الإسرائيلي بوقف الاستيطان ومبدأ قيام دولة فلسطينية على حدود 1967.

 

على أهمية تقديم الطلب والخطاب إلا أن ذلك، كما أكد الرئيس الفلسطيني، لا يشكل بديلًا عن نهج المفاوضات الثنائية، وإنما يمكن اعتباره تكتيكًا لتحسين شروطها وتغيير قواعدها؛ بدليل أن الخطاب أكد على المفاوضات، والالتزام بالاتفاقيات المبرمة، ونبذ العنف، والالتزام بمبادرة السلام العربية التي تنص على التوصل إلى حل متفق عليه لقضية اللاجئين، ما يعني وضع مصيرها في ميزان الاتفاق مع إسرائيل التي لا يمكن أن توافق على حلها حلًا عادلًا يتضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها.

 

على الرغم من طابع الخطوة التكتيكي، إلا أنها يمكن أن تقود إلى تحول إستراتيجي وتصبح بداية لاعتماد إستراتيجية جديدة مختلفة عن إستراتيجية المفاوضات الثنائية والرعاية الأميركية الانفرادية لعملية السلام، التي تتجاوز الأمم المتحدة والقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة من خلال استبدالها بصيغة اللجنة الرباعية الدولية التي لم تؤد إلى شيء سوى إلى تقزيم دور الأمم المتحدة، بتحويلها إلى طرف من أربعة أطراف، وتجاوز المرجعيات الدولية بشكل يكاد أن يكون كاملًا.

 

يمكن أن تكون خطوة تقديم الطلب إلى الأمم المتحدة بداية لمرحلة جديدة ونهاية لمرحلة؛ لأن الأسباب التي أدت إليها مستمرة ويمكن ألا تؤدي إلى استئناف المفاوضات، على الرغم من أنها صممت لتحقيق ذلك، وهذا متوقع جدًا، حيث الأكثر احتمالًا عدم استئناف المفاوضات وفق البيان الأخير للجنة الرباعية الذي دعا إلى استئنافها دون شروط، مكتفيًا بتقديم جدول زمني متجنبًا الوضوح حول أسس ومرجعيات وقواعد المفاوضات، التي فسّرها كل جانب كما يريد، ما يعني الدعوة إلى عودة المفاوضات كما كانت عليه مع تغييرات طفيفة في أحسن الأحوال.

 

لقد حققت خطوة التّوجه إلى الأمم المتحدة حتى الآن ما يأتي:

 

أولًا: أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة جدول الأعمال الدولي بعد أن عانت كثيرًا من الإهمال جرّاء تراجع الاهتمام الدولي بها، وقدَّمت القضية الفلسطينية على حقيقتها كما لم يحصل منذ فترة طويلة، بحيث ظهرت كقضية تحرر وطني لا نزاعًا حول الأرض أو طبيعة السلام أو بين المتطرفين والمعتدلين، ولكن هذه العودة يمكن أن تكون مؤقتة إذا لم تتواصل الخطوة وتسندها خطوات جديدة، وكذلك إستراتيجية جديدة.

 

ثانيًا: أقرت الخطوة والخطاب بشكل يصعب التراجع عنه فشل مسار أوسلو والمفاوضات الثنائية الذي استمر عشرين عامًا، وأدى إلى تراجع مكانة ودور القضية الفلسطينية، وعمَّق الاحتلال ووسَّع الاستيطان، وجعل إمكانية التوصل إلى حل متوازن وقيام دولة فلسطينية أصعب وأصعب وأبعد وأبعد.

 

ثالثًا: حققت القيادة الفلسطينية عبر هذه الخطوة شعبيةً ملموسةً، كما ظهر من خلال تأييد القوى السياسية وقطاعات شعبية واسعة، وأيضًا من خلال ارتباك "حماس"، إذ حيث انقسمت ما بين مؤيد للخطوة أو متردد أو صامت أو معارض لها بكل قوة، بحيث بدت "حماس" كأنّها لا تملك موقفًا متماسكًا ولو بشروط، أو بديلًا تطرحه حتى عندما وصلت المفاوضات إلى هذا الحد من التأزم.

 

رابعًا: دَعَمَت الخطوة بشكل قوي وغير مسبوق فكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، دون الإشارة إلى مبدأ تبادل الأراضي في خطاب الرئيس، وإعادة الالتفاف حولها فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، وهذا سيرفع سقف المفاوض الفلسطيني، وسيجعل خيارات مثل استمرار الوضع الراهن، أو إقامة دولة ذات حدود مؤقتة، أو خيارات أخرى لا تتضمن دولة فلسطينية، أصعب من السابق، ولكنها تثير ملاحظات ومخاوف تتعلق بالحقوق الأخرى، مثل حق تقرير المصير وحق العودة ومكانة منظمة التحرير.

 

تأسيسًا على ما تقدم، فقد بدأنا بعد مبادرة التوجه إلى الأمم المتحدة مرحلة انتقالية، لا تمت بصلة إلى المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق أوسلو التي استمرت بأكثر من أحد عشر عامًا عما كان مقررًا لها، ولكنها مرحلة قد تكون ممرًا إلى مرحلة جديدة مختلفة كليًا، أو تعود بنا القهقرى إلى مسار البحث عن تسوية في ظل ميزان قوى مختل بشكل ساحق لصالح الاحتلال، ودون الإمساك بأوراق القوة والضغط القادرة على فرضها.

 

المشكلة لا تكمن الآن، ولم تكن سابقًا في الاشتراك في المفاوضات، فهي ليست مرفوضة من حيث المبدأ، ولكن الاشتراك في مفاوضات تحت ظروف وشروط غير مواتية ومرفوضة، كان يجعل نتيجتها معروفة سلفًا، وهي عدم التوصل إلى اتفاق على الرغم من مسلسل التنازلات الفلسطينية، وتآكل البرنامج الوطني، والمساس بالقضية ووحدة الشعب، ومع تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان ،وتقطيع الأوصال، والحصار، والجدار، وتهويد القدس وأسرلتها وعزلها، وإضاعة وقت ثمين استغلته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لفرض أمر واقع احتلالي يجعل إمكانية التوصل إلى تسوية أكثر صعوبة، ويجعل الحل الإسرائيلي يبدو كأنه الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.

 

إنّ ما يجعلنا نطلق على المرحلة الجديدة وصف الانتقالية هو، من جهة، أن الرئيس والقيادة والفصائل والشخصيات التي آمنت ودافعت عن نهج أوسلو والمفاوضات الثنائية وراهنت على الدور الأميركي والرعاية الأميركية الانفرادية للمفاوضات، ووقف المقاومة المسلحة، لم تعد مقتنعة (ما عدا عناصر أخرى نافذة) بأن المفاوضات وفق القواعد السابقة قادرة على التوصل إلى اتفاق على إقامة دولة، وازدادت قناعة وهي ترى تراجع الإدارة الأميركية عن وعودها بوقف الاستيطان، والانتقال إلى حل الصراع بدلًا من إدارته، وكذلك تراجعها عن إقامة دولة خلال دورة الأمم المتحدة في أيلول من عام 2011، والأهم تراجع باراك أوباما عن خطابه الذي ألقاه في القاهرة وظهوره أكثر انحيازًا ودعمًا لإسرائيل عن رؤساء أميركيين سابقين.

 

وما زاد القناعة الفلسطينية بصعوبات العودة إلى المفاوضات وفقا للقواعد السابقة، تعنت وتطرف الحكومة الإسرائيلية وكون معظم المؤشرات في إسرائيل تشير إلى أن أي انتخابات إسرائيلية قادمة تعقد في موعدها أو مبكرة ستحمل في نتائجها حكومة متطرفة، مثل القائمة حاليا، أو أكثر تطرفًا.

 

ومن جهة أخرى، لم تقرر القيادة الفلسطينية حتى الآن انتهاج بديل آخر، ولا تزال تردد أن المفاوضات هي الخيار الأول والثاني والثالث.

 

إن القيادة الفلسطينية بعد الربيع العربي وانعكاسه الحاصل فعلًا بالحراك الشبابي الفلسطيني، الذي بدأ وتصاعد ومن ثم تراجع، ومن الممكن أن يتصاعد مجددًا، ومن خلال رفع الضغوط العربية التي كانت ترزح تحتها، خصوصًا بسبب خضوع نظام حسني مبارك للشروط الأميركية والإسرائيلية المتعلقة أساسًا بالتعلق بنهج المفاوضات مهما كان الثمن، ورفض إنجاز المصالحة الفلسطينية حتى لا تعطل المفاوضات، وبعد المتغيرات الإقليمية والدولية، خصوصًا على صعيد تدهور العلاقات التركية – الإسرائيلية، وتراجع الدور الأميركي بشكل ملموس في العالم بشكل عام، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص؛ لم تعد قادرة، حتى لو رغبت، على استئناف المفاوضات وفقا للقواعد السابقة، لأنها إذا فعلت ذلك تقوم بانتحار سياسي، دون أن تضمن تحقيق أي شيء.

 

وإذا كانت مسيرة المفاوضات الثنائية قد وصلت إلى طريق مسدود، وفشلت جميع الجهود العربية والأميركية والأوروبية والدولية لاستئنافها، ولم يعد ممكنا الاستمرار فيها وفقًا للقواعد السابقة، فإن البديل عنها ليس متبلورًا ولا سهلًا لأن ما يسمى "عملية السلام" واتفاقية أوسلو وملحقاتها أوجدت واقعًا جديدًا، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، يظهر في إقامة سلطة تحت الاحتلال، تعتمد على الدعم والتمويل الخارجي، وتستمد وجودها وشرعيتها أساسًا من الاتفاقيات والالتزامات، ما أوجد في كنفها "جماعات مصالح" وقوى ونفوذ لا يمكن القفز عنها ولا التخلص منها بسهولة، خصوصًا بعد وقوع الانقسام السياسي والجغرافي الذي أوجد سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال، لكل منهما برامجه ومصالحه وجماعاته التي تدافع عنهما، والارتباطات العربية والإقليمية والدولية التي تدعمهما وتتحالف معهما.

 

إن تجاوز هذا الواقع بحقائقه واتفاقاته والتزاماته، خصوًصا التنسيق الأمني، ليس مهمة سهلة، على الرغم من ضرورتها، حتى لو توفرت إرادة لتجاوزه سواء عند القيادة الفلسطينية الحالية أو عند قيادة فلسطينية جديدة.

 

تأسيسًا على ماسبق، إن إدراك الحقائق والوقائع ومعرفة ما يؤثر علينا لكي يمكن أن نؤثر فيه ونغيره يعد الخطوة الأولى قبل أن نندفع إلى المجهول. لا يمكن حل الواقع المعقد جدًا بحلول بسيطة وسهلة، بل يحتاج الأمر إلى حلول مركبة قادرة على التعامل معه باتجاه تغييره.

 

فالحل ليس بسيطًا بحيث يكون بالدعوة إلى مجرد إلغاء اتفاق أوسلو وكل ما يترتب عليه، على الرغم من أن توجه القيادة إلى الأمم المتحدة يشكل تجاوزا لاتفاق أوسلو، بغض النظر عن حديثها المتكرر بأنه لا يتناقض معه، وليس بديلا عن المفاوضات وعملية السلام بل مكملًا لهما.

 

والسؤال هو: هل يرغب الفلسطينيون ويقدرون إذا رغبوا على تحمل عواقب إلغاء اتفاق أوسلو مرة واحدة مع وجود الانقسام، وفي ظل ربيع عربي لم يزهر بعد تمامًا. فمصر قائدة العرب مشغولة بترتيب أوضاعها الداخلية، والوضع الإقليمي والدولي الجديد لم يتبلور بشكل كامل حتى الآن؟

 

والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي التقدم بطلب العضوية في الأمم المتحدة، أم نحن بحاجة إلى إستراتيجية متكاملة تتضمن نقل ملف القضية الفلسطينية برمته إلى الأمم المتحدة، وتبنى بعد مراجعة عميقة للتجارب السابقة، بما فيها تجربتا المفاوضات والمقاومة (الأخيرة وصلت إلى طريق مسدود بدليل تعليقها، وهناك تهدئة في الضفة الغربية وقطاع غزة)، واستخلاص الدروس والعبر، وتقديم إجابات على كيفية حل المعضلات الأساسية التي يواجهها الشعب الفلسطيني، وأهمها:

 

§ الالتزام بالأهداف والحقوق الأساسية التي تجسّد وحدة الشعب والقضيّة والأرض.

 

§ دور ومكانة المنظمة، وكيفية إعادة بنائها لتصبح مؤسسة تمثيلية ديمقراطية تضم الجميع، حتى تكون قولًا وفعلًا تمثل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.

 

§ وضع السلطة في مكانها وموقعها في النظام السياسي الفلسطيني، كأداة من أدوات المنظمة، وحسم مسألة حلها أو إعادة النظر في شكلها ووظائفها والتزاماتها، بحيث تخدم المصلحة الوطنية الفلسطينية، وبحث إمكانية ذلك دون دعم دولي وهي سلطة تحت الاحتلال وأنشِئت باتفاق معه.

 

§ موقع القضية الفلسطينية ومكانتها عربيًا ودوليًا، وهل يمكن أن يحل الفلسطينيون قضيتهم بمفردهم، كما شاع الاعتقاد بعد معاهدة كامب ديفيد واتفاق أوسلو ومعاهدة وادي عربة، أم المطلوب العودة إلى العرب وشعارات الوحدة والقومية وطمس الخصوصية والدور الفلسطيني، أم أن هناك معادلة متوازنة تحفظ الدور العربي الذي بدونه لا حل جذريًا ولا مرحليًا للقضية الفلسطينية يحقق الحد الأدنى من الحقوق، ويضمن استمرار الدور الفلسطيني الذي بدونه لا تكون هناك قضية فلسطينية أصلًا؟

 

وهنا، من المهم التأكيد على أن تدويل القضية أمر مهم جدًا، ولكن بغض النظر عن قضية التدويل، وهل ستحصل الدولة على عضوية كاملة أو مراقبة؟ فهي لا تحل القضيّة الفلسطينيّة، فالدولة لا تقام في أروقة الأمم المتحدة، على أهمية النّضال في الساحة الدوليّة، بل تقام في أزقة القدس وجبال وسهول فلسطين، ولا يمكن أن تكون هناك دولة بمعنى الكلمة دون إنهاء الاحتلال وتوفير عنصر السيادة للدولة. فالسيادة هي العنصر الرئيسي الذي يعطي المعنى لبقية عناصر ومقومات الدولة. وبدون تغيير موازين القوى على أرض الصراع وفي المنطقة بشكل جدي، لا يمكن التوصل إلى تسوية حتى لو وافقت إسرائيل على أن تكون هناك مرجعية للمفاوضات تتضمن وقف الاستيطان وإقامة الدولة على حدود 1967. فستبدأ المفاوضات على هذا الأساس وستماطل الحكومة الإسرائيلية وستراوغ لتكسب الوقت، وتردد عبارة إسحاق رابين الشهيرة "لا مواعيد مقدسة"، وسيكون لها ما تريد إذا استطاعت ذلك.

 

فأي حكومة إسرائيلية لن تعطي الفلسطينيين شيئا ما لم تعتقد أنهم قادرون على الحصول عليه أو كانوا قد حصلوا عليه فعلًا رغمًا عنها. لذا سيحصل الفلسطينيون على طاولة المفاوضات على ما هم قادرون على الحصول عليه، وفي هذه الحالة بمقدورهم أن يحصلوا عليه بموافقتها أو بدونها.

 

وحتى تكون خطوات الفلسطينيين محسوبة بدقة، عليهم التوافق أولًا على ما يأتي:

 

§ وقف مسلسل التدهور والتنازلات وتآكل البرنامج الوطني، والحفاظ على الحقوق والأهداف والمكتسبات، وتقليل الخسائر وتجنب المخاطر والمغامرات مع اليقظة، وعدم إضاعة أي فرصة صغيرة أو كبيرة.

 

وهذا يقتضي عدم العودة إلى المفاوضات الثنائية العقيمة مهما كانت التهديدات والعقوبات والأثمان، فلا شيء أسوأ من إعادة إنتاج المفاوضات وفقًا للقواعد السابقة، ولا اتخاذ خطوات مغامرة، وشطب كل شيء والبدء من نقطة الصفر.

 

§ إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لأن الوحدة ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، على أن تكون الوحدة على أساس وطني وديمقراطي، وضمن شراكة حقيقية بحيث يكون الخلاف والتعددية والتنافس والتنوع في إطار الوحدة، وعلى أساس الالتزام الجماعي بقواسم وطنية مشتركة تشكل "ركائز المصلحة الوطنية العليا"، التي لا تخضع للأغلبية والأقلية.

 

§ عدم الخلط ما بين التمسك بالحقوق الأساسية، الشرط الأساسي الضروري للكينونة الفلسطينية، وبين ضرورة مراعاة السياسة التي تعتمد على ميزان القوى، والتي يجب أن تتفاعل مع المتغيرات والمستجدات حتى تؤثر عليها، شرط ألا تكون السياسة هي الأساس والحقوق تابعة لها، بل وظيفتها الحفاظ على الحقوق، بحيث لا يطغى التكتيك الضروري للفعل على الإستراتيجية المطلوب تحقيقها.

 

يجب الجمع ما بين الحفاظ على الحقوق والقدرة على لعب دور سياسي فاعل، فالسياسة فن أفضل الممكنات، وفن التعامل مع الواقع، إما لترسيخه أو لتغييره. وعندما يكون الواقعُ هو احتلال واستيطان، يكون هدف السياسة تغييره وإنهاءه بأسرع وقت ممكن وبأفضل شكل وبأقل التضحيات.

 

سيناريوهات وخيارات ما بعد التوجه إلى الأمم المتحدة

 

السيناريو الأول: أن يفشل طلب العضوية للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، سواء لعدم حصوله على الأصوات الكافية لعرضه للتصويت، أو بسبب الفيتو الأميركي، وهنا قد تتوجه السلطة إلى الجمعية العامة للحصول على عضوية مراقبة، وهذا يحتاج إلى فترة من الزمن، يمكن أن تكون عدة أسابيع أو أشهر عدة، وربما أكثر من ذلك.

 

فأطراف اللجنة الرباعية ستعمل، وإن لرغبات وأهداف مختلفة ومتفاوتة، على تأجيل البت في الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن منعًا لحدوث مجابهة، وحتى يتوفر الوقت اللازم لاستئناف المفاوضات، لأن حصول الدولة على العضوية المراقبة في الجمعية العامة دون الاتفاق على استئناف المفاوضات، سيقلل من فرص استئناف المفاوضات، ويفتح الطريق أمام السيناريوهات الأخرى.

 

هذا السيناريو يجعل الخيار المطروح أمام الفلسطينيين هو الإصرار على حسم مسألة طلب العضوية في مجلس الأمن بأسرع وقت ممكن، والاستعداد لسحب الطلب إذا لزم الأمر، وتقديم طلب إلى الجمعية العامة إلى الأمم المتحدة للحصول على عضوية مراقب، لأن الولايات المتحدة الأميركية عندما هددت علنًا ومسبقًا باستخدام الفيتو (وهذا أمر غير مسبوق) كأنها استخدمته فعلًا، وذلك حتى لا يضعف الفلسطينيون معركتهم في الجمعية العامة إذا ذهبوا إليها بعد عدم تمكنهم من الحصول على الأصوات الكافية لعرض طلبهم على مجلس الأمن.

 

إن الانتصار في هذه المعركة يستوجب وضع تصور يعتبر التوجه لطلب العضوية بداية لمعركة طويلة تستهدف نقل ملف القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها إلى الأمم المتحدة، بحيث تقوم المنظمة بشكل دائم بالسعي لتفعيل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة لصالح القضية، وخصوصًا الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي وتقرير غولدستون، وغيرهما، وتعزيز مكانة فلسطين سياسيًا وقانونيًا، ودخول الدولة الفلسطينية إلى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، خصوصًا محكمة الجنايات الدولية، وإعادة تقديم طلب العضوية الكاملة إلى مجلس الأمن باستمرار، والسعي الدائم لإصدار قرارات جديدة لإدانة الاحتلال والاستيطان والجدار وهدم المنازل وإطلاق سراح الأسرى..إلخ، وكذلك السعي إلى فرض عقوبات على إسرائيل وعزلها ونزع الشرعية عن الاحتلال وعنها، حتى يكون لديها ما تخسره إذا استمرت في احتلالها.

 

السيناريو الثاني: أن تقبل القيادة الفلسطينية بعرض اللجنة الرباعية بعد "توضيحه" وإجراء تعديلات طفيفة عليه، مثل: إشراك أطراف عربية ودولية في اللجنة الرباعية، أو عقد مؤتمر دولي كمدخل لاستئناف، وربما، لمواكبة المفاوضات، وتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان معلن أو سرّي، والموافقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 مع تبادل للأراضي.

 

ويراهن هذا السيناريو على احتمال قيام الولايات المتحدة الأميركية تحت ضغط التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة بالضغط على إسرائيل لتعديل موقفها بوقف الاستيطان.

 

إن تحقق هذا السيناريو يعتبر أسوأ ما يمكن أن يحدث، لأنه يعني استئناف المفاوضات وفق القواعد والالتزامات السابقة مع تعديلات طفيفة، وهذا أمر صعب أن تقبله الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولكن ليس مستحيلًا أن تقبله هي أو أي حكومة أخرى بائتلاف آخر، إن لم يكن فورًا فبعد حين، لأنه يمكن أن يساعدها على تجاوز أزمتها ويجنبها العزلة الدولية التي تسير إليها سريعا إذا استمر التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة دون استئناف المفاوضات.

 

وفي هذا السيناريو، يمكن أن تعرض على الفلسطينيين صفقة تقضي بقبول عضوية مراقبة مقابل التعهد باستئناف المفاوضات دون شروط أو بشروط مخففة، وبعدم العودة إلى تقديم الطلب مرة أخرى في مجلس الأمن، وعدم انضمام دولة فلسطين "العضو المراقب" إلى محكمة الجنايات الدولية، أي بتفريغ العضوية من مضمونها.

 

ويكون الخيار الفلسطيني إزاء هذا السيناريو في الموافقة على استئناف المفاوضات، على أن تكون مرجعيتها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات بعيدًا عن اللجنة الرباعية، التي يجب أن تنتهي لأنها تجاوزت المرجعيات الدولية وقزّمت الأمم المتحدة بجعلها طرفًا من أطراف أربعة، حتى يكون للعامل الدولي دور فاعل باستمرار، وضمن جدول زمني قصير وآلية تطبيق ملزمة.

 

السيناريو الثالث: أن تجمع السلطة ما بين التوجه إلى الأمم المتحدة واستمرار المساعي لاستئناف المفاوضات التي تلاقي دعمًا دوليًا كبيرًا، وبين السعي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وإعادة تشكيل منظمة التحرير بحيث تضم الجميع، وتوفير مقومات الصمود وتنظيم المقاومة الشعبية الشاملة، واستعادة البعدين العربي والدولي للقضية الفلسطينية.

 

في هذا السيناريو، يفترض نجاحه عدم حدوث اختراقات، سواء في ملف المصالحة (على الرغم من بعض التقدم الذي يمكن أن يحصل) أو في ملف المفاوضات.

 

الخيار الفلسطيني إزاء هذا السيناريو يمكن أن يكون التمسك بالمفاوضات دون مفاوضات وبالتنسيق الأمني، والتقدم في المصالحة دون اختراقات، وأقصى ما يمكن التفكير به في إطار هذا السيناريو تعديل الالتزامات الأمنية والاقتصادية والسياسية المترتبة على اتفاق أوسلو، ليس دفعة واحدة، وإنما بالتدرج ضمن تصور واضح يعرف منذ البداية، ما هي النتيجة النهائية التي يريد أن يصل إليها.

 

السيناريو الرابع: أن تتعرض السلطة لعقوبات إسرائيلية وأميركية، سبق أن هددت الحكومة الإسرائيلية، والإدارة الأميركية بضغط من الكونجرس، بتنفيذها، ما يدفعها إلى القيام بحل نفسها (حتى لا تبقى حارسة للاحتلال على الرغم من استبعاد قيامها بذلك)، أو إلى وقف العمل بالتزامات اتفاق أوسلو، فهذا وذاك قد يؤديان إلى تمسك الرئيس بتبكير موعد الانتخابات وعدم الترشح لولاية جديدة أو إلى استقالته في حال عدم القدرة على إجراء الانتخابات، أو إلى انهيار السلطة (وليس حلها) في الضفة الغربية، ونقل مركز ثقل القيادة الفلسطينية إلى الخارج وقطاع غزة، وعودة الصراع إلى المربع الأول.

 

إن هذا السيناريو يجب أن يترتب عليه خيار فلسطيني ينطلق من التعامل معه بشكل جدي، وليس الاستخفاف به مهما كانت احتماليته قوية أو ضعيفة، لأن على القيادة الأخذ بجميع الاحتمالات وأسوأها بالحسبان، والاستعداد لها حتى لا تدهمها الأحداث.

 

فيجب ألا ننسى أن حكومة شارون أعادت احتلال الضفة الغربية، ودمّرت بُنى السلطة وأجهزتها الأمنية، وحاصرت رئيسها ياسر عرفات وصولًا إلى اغتياله، وألا نرى أننا نمر في مرحلة ونعيش في منطقة تشهدان متغيرات عاصفة ومرشحة للمزيد من التغيرات. وإزاء حكومة إسرائيلية هددت العلاقات التركية – الإسرائيلية والعلاقات المصرية – الإسرائيلية الإستراتيجية، لأنها رفضت الاعتذار عن مجزرة سفينة مرمرة، وعن جريمة قتل الجنود المصريين بعد عملية "إيلات"، فلا يمكن استبعاد تنفيذ التهديدات التي أطلقتها ضد السلطة إذا مضت في توجهها إلى الأمم المتحدة.

 

قد تتصور القيادة الفلسطينية أن بمقدورها الجمع لوقت طويل ما بين التوجه إلى الأمم المتحدة والمقاومة الشعبية ورفض استئناف المفاوضات وفقًا لقواعدها السابقة، والاستمرار في نهج المفاوضات والوفاء بالالتزامات الفلسطينية مع إسرائيل، ولكن هذا لا يمكن أن يستمر بشكل دائم، لأنه يجمع ما بين المتناقضات المستحيل الجمع بينها.

 

في النهاية، على الفلسطينيين الاختيار ما بين استئناف المفاوضات كما كانت أو بتعديلات طفيفة، وهذا انتحار سياسي، أو اختيار إستراتيجية جديدة شاملة قادرة على توحيد الشعب وإعادة الاعتبار للقضية، وهذا وحده طريق الخلاص الوطني.