خبر لأمريكا أيضاً ثوابتها../ علي جرادات

الساعة 08:08 ص|28 سبتمبر 2011

لأمريكا أيضاً ثوابتها علي جرادات

تبقى القضية الفلسطينية قضية الشعوب العربية الأولى، بلا منازع، ذلك ارتباطا بحقائق الجغرافية والتاريخ الراسخة، التي بمقدور العابرين العبث فيها، إنما ليس حدَّ إلغائها أو منع انبعاث مقتضياتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن. وإلا ما معنى الانعكاس الإيجابي السريع للحراك الشعبي العربي، حتى في مرحلته الانتقالية، على هذه القضية؟

وأكثر، فإن ترابط الواقعتين الاستعماريتين، وعد بلفور بـ"وطن قومي لليهود في فلسطين"، واتفاقية "سايكس بيكو" لتقسيم الوطن العربي، جغرافية وموارد، بين دول استعمارية، قد عزز البُعد القومي للقضية الفلسطينية، بل وأعطاها بُعْدُها التحرري العالمي أيضا. وإلا ما معنى أن يفضي صلف السياسة الأمريكية الإسرائيلية إلى تجدد التأييد العالمي الجارف لمطالب الشعب الفلسطيني باسترداد حقوقه الوطنية والتاريخية العادلة والمشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة؟

في الأسئلة أعلاه تظهير لتشابك موضوعي لا فكاك منه، بمعزل عن تفاوت تجليه في الوعي والممارسة، بين النضال الوطني الفلسطيني، السياسي التحرري في جوهره، والدفاعي المفروض في أشكاله، من جهة، وبين نضال حركات التحرر الوطني والاجتماعي للشعوب العربية بخاصة، ولشعوب العالم بعامة، من جهة أخرى. وذلك بفعل حقيقة أن المشروع الصهيوني، قبل وبعد قيام إسرائيل، ظل على ارتباط عضوي بمصالح قوى الاستعمار الغربي وأدواته المعادية لنضال هذه الشعوب وحركاتها التحررية. وإلا ما معنى بلوغ العداء الأمريكي للحقوق الفلسطينية العادلة والمشروعة، حدَّ التطابق مع أكثر أجنحة السياسة الإسرائيلية تطرفاً وعدوانية، ليصدُق كل من اعتبر أن مُنفذ السياسة الأمريكية، الرئيس أوباما، بـ"خطابه الإسرائيلي"، (وفقاً لتوصيفات إسرائيلية)، في هيئة الأمم، إنما يكون قد وقف مع ليبرمان ضد العالم، ذلك بعد أن كان أعضاء صانع السياسة الأمريكية، الكونغرس، قد صفقوا طويلاً للاءات النظام السياسي الإسرائيلي العدواني التوسعي، التي أطلقها نتنياهو في أيار الماضي، وكررها في هيئة الأمم، وكشف من خلالها عن زيف استعداد قادة إسرائيل لدفع استحقاقات تسوية سياسية للصراع

يحيل موقف السياسة الأمريكية الراهنة تجاه القضية الفلسطينية، كما تجلى في تصفيق صانعها، الكونغرس، وتبني منفذها، أوباما، للاءات نتنياهو القاطعة المانعة، إلى أربعة مستويات من القراءة:

المستوى الأول: يرى أن هذا الموقف إنما ينبع من الحاجة للصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية القادمة، ما يعني أنه موقف تكتيكي قابل للتبدُّل بعد انقضاء الموسم الانتخابي ومتطلباته للمرشحين. وفي هذا التفسير دوران ممجوج حول الدافع المباشر للموقف الأمريكي، بل، وفيه تضليل مفضوح أاستعمِل كثيراً للتغطية على ما هو أبعد من الأسباب الكامنة خلف العداء الأمريكي للقضية الفلسطينية.

المستوى الثاني: يرى أن هذا الموقف إنما يعود إلى ثقل وزن اللوبي اليهودي في السياسة الأمريكية، وكأن هذه السياسة مجرد محصلة لضغوطات "لوبيات" مختلفة، أي كأنها ليست تعبيراً مكثفاً عن مصالح أمريكية إستراتيجية عليا. وفي هذا التفسير تسطيح مُضلِّل للعلاقة بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والايدولوجيا في السياسة الأمريكية، بل، وكل سياسة.

المستوى الثالث: يرى أن هذا الموقف إنما يرجع إلى عدم قدرة أوباما، رغم رغبته، على ممارسة الضغط على إسرائيل، وكأن أوباما، رغم لون بشرته وأصوله، ليس رئيساً لإدارة أمريكية، ملزمة في نهاية المطاف بتنفيذ سياسة تعبر عن المصالح العليا للولايات المتحدة، كقوة عظمى تسيطر على العالم، وتنهب جلَّ ثرواته. وفي هذا التفسير تعمية تستهدف تبرير تراجع أوباما عما أبداه من مرونة شكلية تجاه القضية الفلسطينية في بداية ولايته.

المستوى الرابع: يرى أن هذا الموقف إنما يعكس ما هو ثابت، وأكثر إستراتيجية في سياسة النظام السياسي الأمريكي، بمعزل عن اللون الحزبي لإداراته. وهذا هو التفسير الذي زكته التجربة العملية، (التي يتوجب عدم تصديق غيرها)، لمسيرة ستين عاماً ويزيد من العداء الأمريكي للقضية الفلسطينية، بل، ولجميع القضايا العربية أيضاً.

وأظن أن هذا هو التفسير الدقيق لراهن العداء الأمريكي للقضية الفلسطينية، الذي تشكل ضرورة القبض عليه، وبناء السياسة على أساسه، إحدى مقتضيات مصلحة القضية الفلسطينية، وضرورة إخراج كامل ملفها من براثن الرعاية الأمريكية، بل، وتشكل أيضاً إحدى مقتضيات مصلحة بقية الشعوب العربية، وضرورة تجنيب انتفاضاتها خداع التأييد الأمريكي الزائف لها، الهادف إلى سقفِ مطالبها واحتواء تداعياتها وخطف ثمارها، إذ من التسطيح السياسي تجاهل أن الموقف الأمريكي المتماهي مع الموقف الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني، حدَّ التطابق مع أكثر أجنحته تطرفاً وعدوانية، إنما يعكس في مغزاه الأعمق، موقفاً أمريكياً متطابقاً مع الموقف الإسرائيلي المعادي للشعوب العربية، سياسة واجتماعاً واقتصاداً وجغرافيا وقضايا، بما في ذلك حراكها الجاري، كحدث تاريخي، يعي صناع السياسة في أمريكا وإسرائيل، مقدار انعكاساته السلبية الإستراتيجية على مصالحهم ونفوذهم في المنطقة. والسؤال: ماذا يعني ذلك؟

يشير سفور الموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، علاوة على محاولة احتواء الحراك الشعبي العربي، إلى أن خيارات السياسة الأمريكية الإسرائيلية في التعامل مع التحولات الإستراتيجية التي تشهدها المنطقة، ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، سيما في ظل ما تعيشه الولايات المتحدة، ومعها بقية دول العالم من أزمة مالية، آخذة في التحول إلى أزمة اقتصادية، ذات انعكاس سياسي، يشي بملامح تحولات سياسية دولية جديدة، عنوانها الأبرز بدايات التراجع الملحوظ لنظام القطب الواحد، لمصلحة نظام متعدد الأقطاب.

عليه، وبحسبان منطقة الشرق الأوسط، وضمنها المنطقة العربية، بما تمتلكه من موقع إستراتيجي، وثروات هائلة، المنطقة الأهم في حسابات الولايات المتحدة لإدامة سيطرتها الأحادية على العالم، فإن من غير المستغرب أن تكون هي المنطقة الأكثر استهدافاً في مرحلة تزعزع نظام القطب الأمريكي الواحد، بعد أن كانت أكثر المناطق التي عانت ويلات تسيُّده، وما أفضى إليه تغوله من حروب، استهدفت فيما استهدفت الحفاظ على تفوق ولاَّدة الحروب، إسرائيل، على ما عداها من دول المنطقة وقواها. وفي هذا ما يكفي لتفسير التطابق الكامل بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه التحولات الإستراتيجية التي تشهدها المنطقة، التي يعي صناع السياسة في واشنطن وتل أبيب، مقدار انعكاساتها السلبية على إسرائيل، وعلى علاقة التبعية الرسمية العربية للسياسة الأمريكية.

أظن أن تلك هي القراءة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة لما يجري من تحولات إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وفي قلبها الحراك الشعبي العربي الجاري، الذي يخطئ كلُّ مَن يعتقد أن مطلبي تصويب علاقة التبعية لأمريكا، ووضع حدٍ للعربدة الإسرائيلية، لن يكونا مطلبين بين مطالب هذا الحراك، حتى وإن التبس تجليهما مؤقتاً. قصارى القول، إن كان للشعب الفلسطيني، وللشعوب العربية، ثوابت، نابعة من مصالحها في التحرر والتقدم والوحدة، فإن لأمريكا أيضاً ثوابتها، النابعة من الاستماتة في الحفاظ على تبعية المنطقة لها، وصون تفوق إسرائيل فيها، على ما بين الأمرين من ترابط.