خبر الدولة.. وهواجس الخانة صفر/ ماهر رجا

الساعة 10:51 ص|23 سبتمبر 2011

الدولة.. وهواجس الخانة صفر/ ماهر رجا

اليوم، وكلما اقترب رنين ساعة التصويت في المنظمة الدولية على طلب الاعتراف بدولة فلسطينية، تبرز في الأفق  سحب سوداء . 

 

والحديث هنا لا يتعلق فقط بعقبات الخارج التي تتمثل الآن في مواقف غربية أبرزها موقف واشنطن التي صرحت مبكراً بأنها ستستخدم حق الفيتو في حال اقترب شبح الدولة من مجلس الأمن، فيما تنشط على رأس جهد دبلوماسي واتصالات حثيثة في ربع الساعة الأخير لإجهاض المسعى أو تحويل المسار مرة أخرى باتجاه المفاوضات بالشروط الإسرائيلية .. الهاجس الأهم يتعلق أساساً بطبائع التوظيف السياسي الفلسطيني لجدوى التوجه إلى الأمم المتحدة، وكيف تفهم السلطة ، أو كيف تحاول تقديم فهمها لهذه الخطوة والرسائل التي تبعث بها إلى المجتمع الدولي وإلى واشنطن، وماذا عن اليوم التالي ما بعد خطوة التوجه إلى الأمم المتحدة.

 

في البديهيات، وفلسطينياً، ليس هناك ممن أحاطوا الخطوة بالمحاذير والشكوك، من يقف – من حيث المبدأ - ضد انتزاع اعتراف من الأمم المتحدة بدولة فلسطينية. ومع أن الخطوة، أقلقت تل أبيب، وحركت المياه الراكدة في سياسات تقليدية في رام الله ظلت تخشى من اللجوء إلى خيارات أخرى ولو على الصعيد الدبلوماسي، فإن المخاطر تبقى قائمة في البعدين الاستراتيجي والمرحلي: مخاطر في موقع هذه الخطوة حيال أركان وثوابت أساسية لقضية شعب فلسطين، وفي مغزاها، وما إن كانت ستبقى  نظيفة من مرامي التوظيف المؤقت، وبعيدة عن دواهي المقايضات السياسية من قبل وبعد.

 

ما هو مقلق لمعظم الفلسطينيين على الصعيد السياسي هو كيفية تصدير السلطة الفلسطينية لهذا الخيار. فما يبدو واضحاً ومنذ الإعلان عن عزم السلطة التوجه إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف بالدولة، أن هناك إصراراً على ربط الحديث عن هذا الخيار بمسألة التمسك بالمفاوضات، وهو ما يحمل مخاطر ستظهر لاحقاً. 

الرسالة الأساسية التي يبعث بها هذا الخطاب تنطوي في ما وراء سطورها على تغييب للمسعى عن محتواه الفعلي وقيمته التاريخية والوطنية. والمشكلة الكبرى هنا هي في التعريف السياسي لهذه الخطوة ومبعثها وكذلك أهدافها. ولعل ما يخفف إلى حد بعيد من وطأة كابوس أيلول على الصهاينة، أن السياسي الرسمي الفلسطيني لم يعرف – بالأفعال-  خيار الاعتراف الأممي بالدولة بوصفه حقاً تاريخيا وطنيا خارج الرهان والبازار السياسي لا علاقة له  بمواقيت التفاوض والعملية السياسية..

 

ما يحدث بالفعل هو أن  الرسائل الطائرة المرسلة إلى تل أبيب وواشنطن والاتحاد الأوروبي مازالت تحمل كل جوازم التأكيد الفلسطيني أن الأمر لا يعدو عن كونه فعلاً من أفعال المهارات السياسية وورقة رابحة في صراع الإرادات على شروط عملية التفاوض التي ستحدد شكل استعادة هذه العملية في المرحلة اللاحقة، حيث مازال المفاوض الفلسطيني يعتقد في دواخله أنها وحدها الضامنة لقيام دولة فلسطينية تقبل بها إسرائيل.

 

بكلمات أخرى، وفي مسافة أقرب، يبدو هذا الموقف محاطاً بإشارات كافية من السلطة إلى رعاة أوسلو ومموليه  تؤكد أن السلطة لم تغادر تقاليد العملية السياسية، وهي تريد أن يصل هؤلاء إلى استنتاج أساسي مفاده أن التوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية ليس فعلاً أحاديا في نهاية المطاف،  وإنما خطوة تكتيكية ضمن عملية اشتباك سياسي محدود وصراع خيارات وشروط تفاوضية  يمكن أن تكون عاملاً  مساعداً للعملية السياسة والمفاوضات. 

 

هذا الوضع تعبر عنه تصريحات متعددة في السلطة والمنظمة، وهي لن تكون فألاً طيباً بالنظر إلى تسريبات إسرائيلية أخيرة نقلت عن دبلوماسيين أوروبيين أن "أبو مازن" أكد لمبعوثين أميركيين أوروبيين أن الطلب الفلسطيني سيتضمن الاستعداد الفوري للذهاب إلى المفاوضات حالما ينتهي التصويت. ما يعني أننا مرة أخرى أمام سياسات تسجن النتائج في الزنزانة السياسية ذاتها، بما يحول الاعترافبالدولة– إن حدث-  إلى اقتراح اعتراف أو مجرد "مكانة دولة"، امتحانها الأساسي الموافقة الصهيونية والختم الأميركي، وعلى طاولة المفاوضات أساساً.

 

على أن الموقف يبقى محاطاً بالهواجس الأخرى، إذ ان السلطة الفلسطينية مازالت تتصرف بقضايا كبرى بشكل متفرد، مع تغييب لاستراتيجية وطنية شاملة كانت تحتاجها خطوة فريدة كهذه.. استراتيجية تقدم صياغة جامعة للأهداف الوطنية وثوابتها وتحشد لهذا التحرك عوامل قوة ليس أقلها وحدة الموقف الفلسطيني. 

حتى بالبعد البرغماتي للكلمة، كان يمكن للسلطة أن تقوم أولاً بتفعيل المصالحة بمعناها الشامل، أي الاتجاه نحو وصل ما انقطع في الداخل الفلسطيني سياسياً وميدانياً، والبدء برفع الحجارة الثقيلة من طريق العلاقات الفلسطينية الفلسطينية بحد أدنى من  تلاق سياسي، وليس الاكتفاء بالصورة النمطية للمصالحة التي لا تستطيع حتى الآن أن تبت في قضايا إجرائية كملف الحكومة ، ولأسباب سياسية أيضاً تتعلق بالتزامات السلطة حيال اتفاقاتها مع إسرائيل .

 

هاجس آخر سيخيم حتماً على أرض المرحلة التالية.. ذلك أن المسألة ليست ببساطة الحصول على تصويت الأكثرية الدولية في الجمعية العامة، ليبدأ زمن فلسطيني جديد ، كما أنه من السذاجة الاعتقاد أن أي نجاح تحققه الدبلوماسية الفلسطينية في هذا السياق، سيكون كافياً للقول إن الدولة الفلسطينية قد ولدت حقاً، ولا ينبغي للخطاب السياسي بعد أيلول أن يحمل المواطن العربي والفلسطيني على رياح الوهم. فذلك من شأنه أن يعود بالضرر الكبير خاصة حين يتضح أن مجرد انتزاع الاعتراف لن يضيف شيئاً على أرض الواقع، بل قد يتحول إلى تنازل على ثوابت كبرى في حق الشعب الفلسطيني بكامل أرضه، ما لم يكن المسعى حلقة في سلسلة مجابهة ميدانية وسياسية وخيارات صعبة وشجاعة يجب اتخاذها من جانب السلطة الفلسطينية أولاً.

 

ما يعنيه ذلك أن الأهم هو ما بعد "الروبيكون" وليس عملية العبور إلى الاعتراف بالدولة وحسب. والتحدي الحقيقي هو ما الذي على أجندة السلطة الفلسطينية في اليوم التالي؟. ماذا ستفعل؟ هل ستعود إلى الدائرة السياسية والدبلوماسية العبثية ذاتها ؟ أم انها ستبدأ عهداً سياسياً جديداً في التفكير الاستراتيجي والممارسة وبعقلية جديدة لا ترتهن إلى حدود اللعبة السياسية السابقة بالمطلق. 

 

الإجابة على أسئلة كهذه لا تحمل بشائر التفاؤل بالنظر إلى مؤشرات الراهن الصادرة عن السلطة الفلسطينية نفسها، فضلاً عن تجارب الأمس. ومع ذلك هناك فرصة. وعلى من يعتبرون أنهم قيادة فلسطينية أن يثبتوا ذلك لأنفسهم على الأقل في المرحلة الصعبة القادمة. والأمر ليس شاقا بقدر ما يحتاج إلى إقدام سياسي وميداني.

 

بصياغة أخرى،  وحتى يصبح التوجه إلى الأمم المتحدة ذا مغزى  حقيقي في المشهد،  ثمة لافتات في الطريق كي لا تتجه القافلة إلى القفار السياسية مجدداً:

 

أولاً : أن تتوقف السلطة الفلسطينية عن تقديس العملية السياسية مهما كان شكلها وثمنها ما يعني المزيد من تقديم التنازلات. والأمر في الحقيقة يحتاج إلى مراجعة شاملة لمختلف ضروب أداء ومواقف هذه السلطة في المفاوضات، كما يستدعي.

التوقف عن وضع مصلحة العملية السياسية واستمرارها على الشكل الذي ظهرت فيه في الأعوام السابقة، أمام مصلحة ثوابت فلسطينية وطنية.

 

ثانياً : ألا يكون استحقاق أيلول مجرد ورقة سياسية على طاولة التفاوض، وأن تشهد المرحلة القادمة إعادة الكلمات الناقصة في نص الثقافة السياسية الفلسطينية الذي جرى تشويهه عن مفهوم الحق الفلسطيني والقضية أرضاً وشعبا، حيث دست فيه مفاهيم أحدثت شرخاً عميقاً في تعريف الوطن وأدوات المواجهة والموقف النظري من المقاومة والاستراتيجيات والمرحليات، فضلاً عن أنها دفعته إلى حالة انتظارية فيما استمرت على المسرح مشاهد الإيقاع البائس للعملية السياسية وفظاعاتها.

 

ثالثاً: أن تنتهي وإلى الأبد  أسطورة الخيار الوحيد، التي فقدت معناها وجدواها حتى لدى رام الله نفسها. وعلى هذا فإن ما ينبغي أن يكون مفهوماً هو أن الاستمرار في استبعاد خيار الثورة الشعبية (المستمرة  لا الموسمية أو الموظفة كفقرة في موشح المفاوضات) ، لن يخدم بأي حال أي توجهات صدام دبلوماسي كالتوجه إلى الأمم المتحدة. وما لم تكسر الأقفال الصدئة الجاثمة على أبواب الانتفاضة الشعبية او الخيارات الأخرى بوجهه عام، فإن مكسب الاعتراف بالدولة سيصل إلى الخانة الموسومة بالقيمة صفر.

 

فضلاً عن ذلك، لن يكون مفهوماًُ أن تعود السلطة الفلسطينية من الأمم المتحدة لتستمر في أي دور أمني ضد المقاومة وخلاياها في الضفة. وإزاء التصعيد الصهيوني المتوقع بعد أيلول، لعله يفترض بالسلطة الفلسطينية أن تسارع نحو ترسيخ قواعد المصالحة بعيداً عن أسس أوسلو السياسية،  والاستعداد للمجابهة القادمة التي عليها ألا تكون سياسية فقط. ويجدر أساساً عدم استثناء حل السلطة. وهو خيار تقول تسريبات إن هيئة التقدير الاستراتيجي التابعة للسلطة لم تستبعده بالفعل من تصور شامل وضعته مؤخراً في ملف على طاولة الرئاسة.. 

 

إن صح ذلك، فلنأمل أن يكون الرجل قد أبقى الملف مفتوحاً على الصفحة المناسبة.