خبر الدلالات القومية في الأحداث الوطنية المصرية../ علي جرادات

الساعة 02:26 م|15 سبتمبر 2011

الدلالات القومية في الأحداث الوطنية المصرية علي جرادات

إن كان من الخطأ تشخيص الحدث السياسي ذي المغزى بمنهج تضخيمي يرى ظِلّ الجمل كأنه الجمل، فإن من الخطأ أكثر تشخيصه بمنهج عدم رؤية أن ظِلّ الشيء دليل على وجود صاحبه. وإن كان من الضار تحليل مستقبل الحدث السياسي ذي المغزى بمنهج استعجالي يستنبت للطفل شارباً، فإن من الضار أكثر تحليله بمنهج لا يرى أن طفل اليوم هو رجل المستقبل. وإن كان من الخطيئة التعامل مع نتائج الحدث السياسي ذي المغزى على طريقة الظن بإمكانية اعتصار كيلو غرام عسل من نحلة واحدة، فإن من الخطيئة أكثر عدم التعامل مع هذه النتائج بمنهج عدم دعم مسعى تجميع عسل أكثر من نحلة. وبلغة سياسية أوضح، إن كان من المغامرة السياسية التعامل مع الحدث السياسي الثوري، تشخيصاً ومساراً ونتائج، بمنهج تضخيمي استعجالي مبالِغ، فإن من الاستكانة السياسية التعامل مع هذا الحدث بمنهج تبخيسي انتظاري تسفيهي، سيان لمصلحة أو لجهل.

 عليه، فإن غضبة الشعب المصري ضد مقر سفارة إسرائيل في القاهرة حدث سياسي كبير، وينطوي على الكثير من الدلالات. إنه الدليل القاطع على أن الشعوب العربية لا تخون قضاياها، وقضية العرب الأولى، قضية فلسطين، على رأسها. إنه البرهان الكاشف لزيف الشعار التبريري، "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، الذي قام على خرافة أن الشعوب العربية لا تكون مقاومة على الجبهة الخارجية إلا إذا كانت مقموعة وجائعة داخلياً، وكأن أنظمة الاستبداد الرسمي العربي أكثر وطنية وقومية من شعوبها. إنه الشاهد الذي لا شك فيه على ترابط الوطني والقومي والديمقراطي في الحراك الشعبي العربي، الذي أخطأ كلُّ من رأى، أو مَن لا يزال يرى، في تأخر تجلي هذا الترابط، دليلاً على غيابه. إنه الكشف بالوقائع عن خطأ كلّ من اعتقد، أو مَن لا يزال يعتقد، أن ما بعد هذا الحراك الشعبي العربي، الحدث التاريخي، يمكن أن يكون هو ذاته ما قبله، وطنياً وقومياً وديمقراطيا، حتى في مرحلته الانتقالية الصراعية المعقدة. إنه الدليل القاطع على أن الشعوب العربية التي كسرت حاجز الخوف، واكتشفت سر قوتها، أصبحت لاعبا سياسياً يقظاً، يسير، (تقدم الأمر أم تأخر)، وإن بتدرج يفرضه الصراع المحتدم، صوب أن يصبح هو اللاعب السياسي الحاسم، وطنيا وقوميا وديمقراطيا، ما يعني أن الحراك الشعبي العربي، الذي شب عن طوق نظم الاستبداد والفساد والتبعية، قادر أيضاً على الإفلات من محاولات إعادة تعليبه في إطار نخب قيادية معارضة، عجزت في السابق عن تفجيره وقيادته، وتحاول اليوم الحدَّ من آفاقه، وطنياً وقومياً وديمقراطيا، بطريقة "سلطوية" استعمالية، تتنازع على تقاسم مغانمه قبل استكمال مهامه واستقرار نتائجه، على طريقة التنازع على جلد الدب قبل اصطياده.  

لذلك، وعليه، فإن من السذاجة للسياسي، فما بالك للمُفكِّر، أن لا يرى دلالة أن الغضبة المصرية ضد السفارة الإسرائيلية، قد كانت عملياً، وبصورة أساسية، جماهيرية محضة، أو أن يختزل تفسيرها، في السبب المباشر الذي فجَّرها، أي استشهاد عدد من الجنود المصريين على يد الجيش الإسرائيلي بعد عملية إيلات، ما يعني قراءة الاختزالية لهذا الحدث السياسي الكبير، الذي ليس بالمعنى المطلق، بل بالمعنى النسبي المفروض بضرورات التخصص، الناجمة عن تعقيدات هذا الحدث السياسي وتشابكاته وتعدُّدِ جوانبه، ثمة فرق جوهري بين اهتمام الصحافي والسياسي والمفكِّر به.  

يهتم الصحافي بمتابعته والتقاط دلالاته المباشرة، أما السياسي فيهتم بالبحث في المعنى السياسي له، ولكن المفكِّر يهتم في معنى المعنى الكامن خلفه، ما يفرض على السياسي أن يكون، (عملياً)، بمثابة جسرٍ يتوسط الصحافي والمفكِّر، وبالتالي، فإن الحذق في قراءة هذا الحدث السياسي الوطني المصري، بل، والقومي العربي، ذي الدلالات الكبيرة، إنما يكون بالربط بين المدلول السياسي والفكري له، وليس بالتملص "الفهلوي" منه، الذي يجعل قراءته، (بوعي أو من دونه)، أقرب إلى القراءة الصحافية، المعنية أكثر بمتابعة مجرياته والتقاط المباشر من دلالاته.

إن غضبة الشعب المصري ضد سفارة إسرائيل، وإن كان حدث استشهاد عدد من الجنود المصريين، هو السبب في تفجرها، فقد كان عدم الرضا الشعبي عن معالجة السلطة المصرية الانتقالية، المجلس العسكري، لهذا الحدث، هو السبب في تأججها. لكن هذا وذاك من الأسباب المباشرة لهذا الحدث السياسي الكبير، إنما تشير إلى سبب أعمق، يتمثل جوهراً في رفض الشعب المصري، والشعوب العربية عموماً، لمقاربة السادات، فمبارك، فغالبية النظام الرسمي العربي، القاضية بالتطبيع مع إسرائيل قبل حل، وفي أقله تسوية، جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، القضية الفلسطينية.

هذا فضلاً عن رفض هذه الشعوب لسياسات أنظمتها الرسمية الاستبدادية، داخلياً وخارجياً، وتوقها إلى تحرير بلدانها، سيما مصر، مفتاح الأمة ومرآتها، مِن براثن التبعية للسياسة الأمريكية الإسرائيلية، التي تستبيح الأمة العربية وشعوبها، سياسة واقتصاداً واجتماعاً وأمناً وقضايا، خاصة مع إدراك هذه الشعوب لحقيقة أن الأمن الوطني للأقطار العربية عموماً، وللأمن الوطني المصري خصوصاً، يترابط بنيويا بالأمن القومي العربي، وأن لا مشروع تنموي قُطْري دون مشروع تنموي عربي. وهذا ما زكته تجارب التاريخ العربي الحديث عموما، وتجربتي محمد علي وعبد الناصر في مصر تحديداً، كتجربتين قوميتين لم يستطع انثناء نظام السادات فمبارك عليهما، وعلى مدار ثلاثين عاماً، من إزاحة ما حملتاه من توجهات قومية، انغرست عميقاً في الوعي الشعبي المصري، بل والعربي عموماً.

 بلى، من السذاجة إنكار حقيقة أن غضبة الشعب المصري ضد سفارة إسرائيل، إنما تعكس في دلالاتها البعيدة وعي الشعب المصري، والشعوب العربية عموماً، بالترابط الموضوعي بين الأمن القومي، بمعناه الشامل، وبين القضية الفلسطينية، أي اعتبار أن إسرائيل، المحترفة للحروب، والرافضة للتسوية السياسية لجوهر الصراع العربي الإسرائيلي، القضية الفلسطينية، تبقى تهديداً قائماً وفعلياً للأمن الوطني المصري، والقومي العربي عموماً. في السياق حريٌ التذكير بأن الشعب المصري، بل، والشعوب العربية عموماً، كان قد تسامح مع قائده القومي، عبد الناصر، حين نزل إلى الشوارع مطالباً إياه بالعدول عن استقالته، رغم إقراره الشجاع بالمسؤولية عن هزيمة العام 1967، ذلك لأنه كان يثق به كقائد قومي، على عكس ما جرى للسادات، الذي لم تحرك عملية اغتياله ساكناً في الشارع المصري والعربي، بل، ولاقت الترحاب به أيضاً، فيما كان مصير مبارك أقسى.

   قصارى القول، كأن الشعب المصري في غضبته ضد السفارة الإسرائيلية، إنما يعبِّر عن توقه الجامح لاستعادة ما خربه السادات فمبارك، ولإعادة بناء سياسة مصر الخارجية على ثلاث أولويات، (دوائر بكلمات عبد الناصر)، تنسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا، عربية وأفريقية وإسلامية. بل، وكأن الشعب المصري في غضبته ضد السفارة الإسرائيلية، إنما يستعيد ما كان قد قاله عبد الناصر في أحد خطاباته: "سعد زغلول أحترمه، لكن خطأه أنه قال: العرب يساوون صفر زائد صفر زائد صفر، وهذا ما أضعف ثورة عام 1919.....فيما محمد علي بحث عن قوته في التوجه شرقاً...".