خبر الربيع العربي والدولة العبرية الصهيونية..علي بدوان

الساعة 10:33 ص|11 أغسطس 2011

الربيع العربي والدولة العبرية الصهيونية..علي بدوان

من الطبيعي القول بأن لهيب التحولات الجارية في المنطقة العربية سيمتد بلظاه ليصيب الجميع في المنطقة وفي الجوار الإقليمي المباشر، وذلك بغض النظر عن التقييمات أو التقديرات بشأن تلك التحولات الجارية واختلاف مضمونها ومحتواها وقواها المحركة من بلد عربي إلى بلد آخر من تلك البلدان التي شهدت أو التي لا تزال تشهد تحولات ملموسة على هذا الصعيد.

 

وقبل أيام شهدت إسرائيل احتجاجات متصاعدة تطورت إلى توسيع دائرة التظاهر والاعتصام ونصب الخيام في معظم المدن الإسرائيلية، بعدما نظم آلاف الإسرائيليين مظاهرات احتجاجية ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، اعتراضا منهم على ارتفاع الأسعار بشكل عام، وارتفاع أسعار العقارات والسكن بشكل خاص.

 

وقد شهدت تلك المظاهرات بعض أعمال العنف كإلقاء القنابل الدخانية والمسيلة للدموع وقطع الطرق في بعض المدن، مما دفع الشرطة الإسرائيلية إلى التدخل واعتقال الكثير من المتظاهرين.

 

فهل انتقلت تأثيرات شرارات التحولات العربية في جانبها المطلبي إلى الدولة العبرية الصهيونية؟ وهل إسرائيل بعيدة عن تلك التحولات الجارية في المنطقة العربية، أم أن نيران تلك التحولات ستصيب الجميع -سلبا أو إيجابا- بشراراتها بشكل أو بآخر، أم أن إسرائيل ستتأثر فقط في الجانب المتعلق بمطالب الناس الحياتية دون العناوين السياسية المتعلقة بالصراع مع الطرف المقابل العربي والفلسطيني؟

 

التربة المهيأة

في البداية، نقول بأن التربة العربية كانت مهيأة تماماً في عدد من البلدان العربية لانطلاق تلك الهبات الشعبية التي استطاعت إسقاط نظام حسني مبارك في مصر ومن قبله نظام بن علي في تونس.. وما زالت مفاعيلها مستمرة في اليمن وغيره.

 

فقد كانت أسبابها القطعية واضحة وضوح الشمس ولا تحتاج إلى تأويل أو تقدير عسير المنال، وقد سبقتها "بروفات" متتالية من الهبات الشعبية في شوارع عواصم ومدن تلك البلدان خلال السنوات الأخيرة المنصرمة، هبات شعبية ذات محتوى سياسي تارة وذات محتوى اجتماعي مطلبي تارة ثانية، وذات محتوى ديمقراطي تارة ثالثة.

فعوامل الاحتقان التي تراكمت رويدا رويدا خلال العقود الأربعة الماضية في الشارع العربي، كانت مختلفة الجوانب والأسباب، منها ما هو سياسي يتعلق بالسياسات الخارجية المشتقة للبلدان المعنية، ومنها ما هو داخلي بحت ومرتبط بالحقوق الديمقراطية للناس الذين أوجعتهم وسلخت جلودهم سياط و"كرابيج" القمع الهائل التي لم تغادر أحدا في معظم بلداننا العربية، مع غياب الديمقراطية وحق الرأي الآخر ومع تغييب حق الناس والمجتمع في صناعة القرار.

 

ومنها ما يتعلق بحالة الانحدار العام في الأوضاع المعيشية للناس مع اتساع نطاق البطالة واستشراء الفساد وبيرقراطية الطغم الحاكمة التي باتت تشكل طبقة من "القطط السمان" تأكل قوت الشعب وتبتلع المداخيل القومية دون حسيب أو رقيب.

 

وهذا ما بان واضحاً في مصر وتونس.. وفي أكثر من جانب، منها على سبيل المثال الغاز المصري المعد للتصدير حيث كان على رأس قائمة النهب القومي، فضلاً عن الأبعاد السياسية لتصديره إلى إسرائيل في صفقات مشبوهة وغير نظيفة بكل ما للكلمة من معنى.

 

وفي هذا الجانب، فإن الدولة العبرية المسماة دولة إسرائيل، التي قامت كدولة "طافرة" بالقوة المسنودة بغطاء استعماري وبلحظات تاريخية ساعدت على قيامها، وبقرار أممي هو قرار التقسيم رقم 1981 لعام 1947، ليست عصية على أجواء ما يجري في المنطقة العربية، انطلاقاً من أسباب "إسرائيلية" داخلية صرفة وبحته، قد تكون مغايرة في شكلها العام للأسباب التي استوجبت ولادة الحراك الشعبي المستديم في المنطقة العربية.

 

وبالطبع فإن الكلام أعلاه لا يعني البتة بأننا "ننظّر ونبشّر" بولادة تحولات عميقة على المستوى السياسي، ينطلق فيها "ضمير إسرائيلي صهيوني" يسعى لتقديم العدالة للشعب الفلسطيني والاعتراف بما ارتكبه في حقه من آثام أدت إلى نشوء نكبة 1948 وما جرته من ويلات وكوارث على فلسطين والمنطقة بشكل عام، فهذا الأمر بعيد جداً وقد تحتاج ولادته مخاضا طويلا وقد لا نصل إليه.

 

إن ما نقصده من وصول شرارات التحولات العربية إلى إسرائيل ينطلق من إمكانية حدوث "خضات وهزات" داخلية عميقة، وقد تكون عنيفة داخل إسرائيل خلال مدى زمني قد يكون غير بعيد.

 

وتعود تلك الخضات والهزات بجذورها إلى وجود تناقضات هائلة في المجتمع الإسرائيلي الصهيوني، تناقضات طبقية واجتماعية وقومية وإثنية، باعتباره مجتمعا لقيطا تم تركيبه وفق معادلات صناعية مباشرة على طريقة التجميع (صهر السبائك).

 

يضاف إلى ذلك العامل السياسي الذي بدأت شراراته بالتطاير من مصر وتونس نحو عموم المنطقة وقد تتسبب في سيادة الهلع داخل إسرائيل، خصوصاً مع انهيار نظام حسني مبارك في المرحلة الأولى من انتفاضة الشعب المصري.

 

هزات طبقية واجتماعية

وبالتالي فإن العوامل الممكنة التي تدفع باتجاه انتقال تأثيرات الربيع العربي، وانطلاق شرارات الحراك الإسرائيلي الداخلي المتوقع في نهاية الأمر، تتأسس على التالي:

 

1- أن إسرائيل دولة مصطنعة ودولة وظيفية، يحلو للبعض تسميتها دولة "الثكنة العسكرية المتقدمة"، وهي تجميع لإثنيات وقوميات تم توحيدها تحت سقف واحد عنوانه "وطن قومي يزدهر بالسمن والعسل".

 

وقد تم تسويق رؤية نظرية بنيت على أعمدتها "الأيدولوجية الصهيونية" التي مزجت بين الرواية الميثولوجية الخرافية التوراتية وبين الأهداف البرغماتية التي سعى إليها غلاة اليهود في أوروبا الغربية بدعم كبير ومؤثر من الغرب الاستعماري.

 

وهذه الدولة التجميعية تضم في صفوفها الآن تناقضات قوية بين مجاميع اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين، وخصوصاً منهم الدفعات الأخيرة التي جاءت من دول الاتحاد السوفياتي السابق وعددهم يفوق مليون نسمة.

 

2- إن حدة التناقضات داخل إسرائيل لا تقف عند حدود التناقضات بين مجاميع اليهود وفق أصولهم القومية فقط، بل تتعدى ذلك نحو الولادة المتتالية للفوارق في نمط الحياة، مع اتساع الفوارق الطبقية الاقتصادية والاجتماعية بين مجاميع اليهود ذاتهم.

 

فالبون شاسع في تلك الجوانب على سبيل المثال بين اليهود الشرقيين (السفارديم) وبين اليهود الغربيين (الأشكناز)، وبين يهود إسرائيل من ذوي الأصول الأوروبية الغربية (اليهود الأمراء) وبين يهود إثيوبيا (الفلاشا) على سبيل المثال الذين باتوا يمثلون "حثالة البروليتاريا" وفق الأدبيات الماركسية والاشتراكية العمالية التي ينتمي إليها العديد من أحزاب إسرائيل، خصوصاً حزب العمل الإسرائيلي الحزب المؤسس لدولة إسرائيل.

 

3- إن المعطيات تقول بأن التأثيرات والفوارق الاجتماعية تتسع في إسرائيل، وفي زمن الربيع العربي، كانت مظاهرات تل أبيب قبل أيام من المظاهرات الكبرى في تاريخ إسرائيل.

 

ولم تكن هذه المظاهرات من أجل السلام أو التسوية بالمعنى المباشر، أو بسبب إخفاقات في الحرب، بل كانت من أجل الإصلاحات الاجتماعية، حين رفع المشاركون نداءهم "الشعب يطلب عدالة اجتماعية". وقد بينت تلك المظاهرات أن عدداً كبيراً من الجمهور الإسرائيلي خرج عن عدم اكتراثه وأصبح مشاركا اجتماعيا وسياسيا.

 

4- إن ربع سكان الدولة العبرية تقريبا من المواطنين العرب الفلسطينيين من أصحاب الوطن الأصليين الذين يتعرضون لشتى أنواع العسف والتمييز والاضطهاد القومي والطبقي منذ سنوات النكبة الأولى، وبالتالي فهم معنيون في نهاية المطاف بتوليد حالة من الحراك المؤثر داخل إسرائيل ولو إلى حين وعلى كل مستوياته بما فيها المستوى السياسي الذي يتجاوز المستوى المطلبي المتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية، وبات دورهم يتعاظم يوماً بعد يوم في العقدين الأخيرين.

 

ويتوقع لهذا الدور أن يتطور أكثر فأكثر مع استمرار وجود حالة هائلة من الفوارق الطبقية بينهم وبين عموم اليهود في المجتمع الإسرائيلي.

 

فعلى سبيل المثال يشير تقرير دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية قبل عامين إلى أن هوة وفجوة الفوارق التمييزية بين العرب واليهود آخذة في الاتساع.

 

ومن دلالاتها المؤشرات التالية:

 

- كثافة السكن أكبر لدى السكان العرب منها لدى السكان اليهود (معدل 1,43 شخص للغرفة لدى العرب مقابل 0,84 لدى اليهود).

 

- هناك تردّ دائم في الخدمات الصحية المقدمة للعرب، وهو ما يؤثر في ميلان معدل متوسط العمر، فهو أقل لدى العرب، ونسبة وفيات الرضع لدى العرب تساوي ضعف ما هي عليه لدى اليهود منذ قيام الدولة العبرية، كما أن نسبة الوفيات العامة أعلى لدى العرب منها لدى اليهود.

 

- يشكو العرب أكثر من اليهود من مشاكل جسمانية تسبب لهم صعوبات كبيرة، أو كبيرة جدا في ممارسة النشاط اليومي.

 

ومن هنا، انضم نشطاء من فلسطينيي الداخل عام 1948 في مدينة الناصرة وفي بلدات باقة الغربية وشفا عمرو وغيرها إلى المظاهرات، خاصة أنهم يعانون من حرمان كبير في الخدمات مقابل ما تتمتع به الأحياء التي يقطنها اليهود من مميزات.

تحولات في مواقف النخب

5- إن الحراك الجاري في المنطقة العربية من المتوقع أن يؤثر على الداخل الإسرائيلي باتجاه إحداث تغيير وتحولات في مواقف النخب الإسرائيلية الصهيونية التي التقطت ما يجري في العالم العربي، وقد هالها المشهد المعبر عن إمكان قيام الناس في البلدان العربية بصناعة ما كان مستحيلاً حتى يصبح أمراً واقعا.

 

فالنخب الإسرائيلية لا بد لها أن تؤثر في شارعها وأن تسعى لتوليد حراك سياسي هذه المرة، إما في الاتجاه الأول المتمثل في الاقتراب من القبول بتسوية تاريخية عنوانها الشرعية الدولية وإيجاد الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم الأصلي، وقد يكون موقف أقلية من النخب السياسية الإسرائيلية في مجتمع ينحو أكثر فأكثر باتجاه سياسات اليمين، وإما في الاتجاه الثاني المتمثل في الابتعاد عن المرجعية الدولية والاقتراب من التطرف وتعقيد مسار الصراع في المنطقة.

 

6- إن الحراك العربي حتى لو غابت فلسطين عن عنوانه المباشر، يصب في قلب معادلة الصراع مع إسرائيل، إذ يسير الآن ذلك الحراك باتجاه خلق بيئة عربية ديمقراطية حقيقية تحت إرادة الشعوب وبعيداً عن إرادة الأنظمة غير الديمقراطية التي استلبت وكبلت إرادة الشعوب العربية.

 

هذه الإرادة الشعبية ستؤثر حال انبثاقها مع انتصار حراك المنطقة العربية في تغيير طبيعة الصراع مع إسرائيل وإعادته إلى قواعده الأساسية، أو على الأقل تحقيق شيء من التوازن الذي يضمن بناء عملية تسوية سياسية حقيقية على أساس المرجعية الدولية قولا وعملاً، لا مرجعية الولايات المتحدة وإملاءات الاحتلال.

 

وأي تطور ديمقراطي حقيقي يحدث في المنطقة العربية لن يكون في مصلحة إسرائيل، لا على المدى البعيد ولا على المدى القريب، لأن الشعوب العربية ترفضها إستراتيجيا.