خبر لا ديمومة أبدا- معاريف

الساعة 08:18 ص|09 أغسطس 2011

لا ديمومة أبدا- معاريف

بقلم: د. ميرا تسوريف

محاضرة في دائرة تاريخ الشرق الاوسط وافريقيا وباحثة في مركز دايان – جامعة تل أبيب

المشهد الذي ظهر صباح يوم الاربعاء الماضي أمام المشاهدين كان سرياليا ودراماتيكيا بكل مقياس. فالرئيس المخلوع حسني مبارك اقتيد بملابس السجناء البيضاء وهو مستلقٍ على حمالة الى قفص الاتهام الذي اقيم في قاعة المحكمة. وعلى يساره وقف نجلاه: علاء وجمال، هما الاخران بملابس السجناء وعلى يسارهم وزير الداخلية المصري حبيب العدلي، رعب كل مواطن ومواطنة مصرية وستة مساعديه. ما الذي مر في تلك اللحظة على عقل الرجل الذي شهد اياما جميلة كقائد سلاح الجو، كقائد حرب تشرين 73 وكنائب الرئيس أنور السادات وكرئيس لجمهورية مصر في ضوء الاهانة التي لا يوجد ما هو أقبح منها؟ وهل سأل نفسه في تلك اللحظات كيف وصل الى هذا الحد؟ هل مرت على عقله أفكار بشأن حساب نفس شخصي ورئاسي، عن سلوكه مع شعبه على مدى ثلاثة عقود تبوأ فيها المنصب الرفيع؟

رغم التخمينات والتقديرات حول الحالة الصحية المتردية إن لم نقل الميؤوس منها للرئيس المخلوع، بدا أنه يقظ تماما، ويتابع بتحفز ما يجري. والدليل: رده القاطع الذي ترافق مع حركة يد تأكيدية معروفة على سؤال رئيس المحكمة أحمد رفعت اذا كان يعترف بالاتهامات المنسوبة له، وعليها أجاب بانه ينكر  كل الاتهامات المنسوبة له. وقد بدا في حينه، حتى ولو للحظة واحدة فقط، بان أمامنا حسني مبارك الرئيس المصري العزيز، إن لم نقل المغرور، لعهوده الرئاسية البهيجة واللامعة.

ولكن جناحي التاريخ حاما فوق قاعة المحكمة في تلك اللحظات. فمن كان يمكنه أن يتوقع مثل هذا الحدث في العالم العربي الذي يقاد فيه رئيس مخلوع الى محاكمة شفافة وعلنية أمام الجميع، باتهامات خطيرة بهذا القدر في اصدار امر فتح النار الحية على المتظاهرين وسرقة الاموال العامة؟ من كان يصدق أنه ستنصب في الميادين الكبرى شاشات ضخمة تسمح لكل من يرغب في مشاهدة مجريات المحكمة؟

مهما يكن قرار المحكمة في محاكمة حسني مبارك، متساهلا ام متشددا، فان مجرد تقديم الرئيس المخلوع الى المحاكمة هو ثورة بحد ذاتها. واذا ما كنا ننشغل بالثورة، فان هذا الانجاز يجب أن نعزوه لشباب ميدان التحرير الذين طالبوا بقوة على مدى "ايام الغضب" باسقاط الرئيس وتقديمه الى المحاكمة على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب المصري. والان ما ان تحقق الهدف فان هؤلاء الشباب الثوريين يبدون في العالم العربي وبالاساس في اسرائيل، كمتعطشين للدماء، كمنتقمين وحشيين وعديمي الرحمة.

منقطعون عن الرأس

أحد الاسباب المركزية لذلك هو صورة الرئيس مبارك كحاكم منفرد رقيق، أحد القلائل في الشرق الاوسط الذي طبق، حتى وإن كان بوتيرة بطيئة للغاية، اصلاحات بروح الليبرالية والتحول الديمقراطي سواء في المجال السياسي (اقامة حركات معارضة مثل "كفاية" و "الغد")، أم في المجال الاقتصادي (سياسة الخصخصة) ام في مجال حقوق الانسان والمواطن (ولا سيما في موضوع حقوق الانسان) أم في المجال الثقافي (الامكانية التي منحت للمنتجين والمخرجين، للكُتّاب والشعراء اصدار انتاجات ثقافية مثل: المسرحيات، الافلام، الادب والشعر، التي وان كانت تنتقد بشكل مباشر النظام ولكن ليس رئيسه).

الصورة آنفة الذكر عززتها ادارة اوباما بنجاح لا بأس به، ووجدت تعبيرها سواء في خطاب القاهرة الشهير (حزيران 2009) حيث ادعى اوباما بان "كل دولة تبث روح الحياة في مبدأ الديمقراطية بطريقتها"، وبذلك صادق على الصيغة الديمقراطية المصرية التي عرضها مبارك على الملأ، أم في اثناء زيارة العائلة الرئاسية (الاب حسني، الام سوزان والابن جمال) في آب 2009 حين سعى الرئيس المصري الى اعتراف أمريكي بجمال كخليفة له.

وقد ناله رغم ان الرئيس الامريكي، مثل كل قادة الادارة الذي التقاهم نجل الرئيس، كانوا على وعي بالمعارضة القاطعة من الشعب المصري، بمعظم جماعاته، لخطوة الرئيس هذه، ومحاولاتهم السياسية احباط المؤامرة. قطيعة الرئيس مبارك عن الشعب المصري وبالاساس عن الجيل الشاب بلغت ذروتها في السنوات الاخيرة من حكمه. فمثلا صادق على رفع أسعار المنتجات الاساسية في نيسان 2007، في ظل تجاهل شبه مطلق للاحتياجات الاكثر أساسية للمواطنين المصريين. وهكذا فقد أبدى الرئيس انغلاقا حسيا لاحتياجات واحباطات الشباب المصري ولا سيما المثقفين، خريجي الجامعات، الذين بقيت سوق العمل المصرية مغلقة في وجههم، وبسبب كونهم عاطلين عن العمل لم يتمكنوا من الزواج وذلك لعدم قدرتهم على دفع المهور العالية التي طالبت عائلات البنات بها، مما ابقاهم عُزابا.

انغلاق القلب هذا وجد تعبيره في مسرحية "سعدون المجنون"، بقلم المسرحي المصري لينين الرملي. في مركز المسرحية تقف شخصية طالب مصري شاب، يوجه اصبع اتهام للنظام: "نحن خريجو جامعات، لا ننجح في ايجاد عمل، ولا شقة فارغة، ولا عروس مرتبة، ولا حزب نتمكن من الانضمام اليه، ولا مباراة كرة قدم جيدة يمكن مشاهدتها. فهم لا يريدون أن نحب ولا أن نشاهد الرقص، ومنعوا احتساء البيرة في النوادي. يريدوننا أن ننتحر أو ان نحمل رشاشا؟ على الاقل فليكونوا انسانيين فيخفضوا لنا أسعار الحشيش".

هذا الميل الانتقادي وجد تعبيره أيضا في السينما المصرية. فمثلا، في الفيلم المصري "فيلم ثقافي" ابطال الفيلم، ثلاثة شبان مصريين، يتوصلون الى الاستنتاج التالي: "المشكلة ليست فينا بل في النظام". بالفعل، رفع اسعار المنتجات الاساس أخرج المارد الاقتصادي – الاجتماعي من القمقم واحتجاجات الشباب التي وقعت في الاحياء الفقيرة من القاهرة وعرفت بـ "احتجاجات الخبز" نظمت في البداية من خلال شبكة الفيس بوك الاجتماعية، والمدونات والرسائل القصيرة، وأجبرت النظام على العودة الى دعم المنتجات الاساس فقط كي ترضي المتظاهرين وتهديء الخواطر. غير أن هذه كانت تهدئة مؤقتة فقط.

من العذاب ينطلقون

على خلفية الازمة الاجتماعية والاقتصادية يمكن أن نشرح أيضا تعاظم حركة الاخوان المسلمين التي هرعت لحل أزمات الشباب المصري المحبط والحلول العملية التي اقترحتها عليهم دفعت الرئيس مبارك الى التضييق على أعمالهم وحبس زعمائهم، ومصادرة مصادر تمويلهم، والاساءة اليهم في وسائل الاعلام المصرية والدولية. اما الحركة من جهتها، فكلما عذبها النظام تكاثرت وانطلقت.

وفضلا عن ذلك، فقد كان يوم الانتخابات هو ايضا احدى ذرى عملية نزع الشرعية عن الساحة السياسية المصرية، في الوقت الذي طمس الرئيس عمليا معظم جماعات المعارضة وكذا احزاب المعارضة الاقدم، لدرجة انه مع صدور نتائج الانتخابات تبين للشعب المصري بان للمصريين برلمانا بلا معارضة. وبدا ان هذه الخطوات على نحو مثير للمفارقة هي جزء لا يتجزأ من ازمة الشرعية التي عانى منها الرئيس مبارك ومن السباق الذي لا يكل ولا يمل الذي خاضه كي يضمن توريث الرئاسة لابنه جمال، رغم المعارضة الجماهيرية الكثيفة لهذه الخطوة.

ولكن كي تنشأ حالة ثورية كما حصل في 25 كانون الثاني 2011، كان ينبغي أن تتوفر عدة شروط: العوامل الاساس الاقتصادية – الاجتماعية الشديدة كان ينبغي أن تتعاظم، الامل في التغيير السياسي في ظل الانتخابات لمجلسي النواب كان ينبغي أن يثور، وسابقة ثورية من خارج مصر كان ينبغي أن تندلع. وبالفعل، عود الثقاب الذي اشعل نار الثورة  وأخرج المارد الثوري من القمقم كان "ثورة الياسمين" في تونس.

من خلال الثورة التونسية أخرج الشباب المصري نفسه من التريث الذي كانوا يعيشونه، وتوصلوا الى الاستنتاج بان هذه هي اللحظة المناسبة، هذه هي نافذة الفرص التاريخية لوضع حد للحكم الفردي ورئيسه. التأكيد الثوري والقاطع لديهم وجد تعبيره ليس فقط في المظاهرات نفسها بل وايضا في الشعارات والهتافات ضد الرئيس مبارك في الميدان، مثل خطاب الشابة التي هتفت: "فليسقط يسقط حسني مبارك، فليسقط يسقط كل المباركين، لا لمبارك الاب والابن، الله، فليأخذك انت وعصبتك بعيدا وكذا جيمي وباقي العصابة... يوم تسقط سيكون عيدنا...".

هذه الهتافات تعبر ليس فقط عن الشجاعة بل وبالاساس عن الكراهية والنفور اللذين شعر بهما الشباب تجاه زعيمهم فيما أنه هو لم يعرف بانه هكذا على الاطلاق. خطاباته في اثناء ايام الثورة هي دليل ملموس على ذلك، واذا كانت النكتة تعكس المزاج فان المصريين درجوا على ان يتحدثوا عن ظهور الله في ذروة لقاء ثلاثي بين الرؤساء اوباما، بوتين ومبارك، حين أمرهم بان يبشروا أممهم بان نهاية العالم ستقع في غضون يومين.

الرئيس اوباما يتوجه الى الامة الامريكية ويبشرها بان لديه بشرى واحدى طيبة واخرى سيئة، الطيبة هي ان الله بالفعل موجود والسيئة هي أن نهاية العالم ستقع في غضون يومين. الرئيس بوتين توجه الى الشعب الروسي وعلى لسانه بشرتان سيئتان: الاولى هي ان الله موجود، والاخرى هي أن نهاية العالم ستقع في غضون 48 ساعة. اما الرئيس مبارك فيتوجه الى الامة المصرية ويبشرها بان لديه بشرتان رائعتان: الاولى هي أنه عاد لتوه من لقاء قمة مع الله والاخرى هي ان الله بشره بانه سيكون رئيس مصر الى أن ينتهي العالم.

لقد أثبتت الثورة أنه لا توجد ديمومة أبدا. أما المحاكمة التظاهرية للرئيس مبارك في نظر الامة المصرية فهي دليل خالد على أن الجميع متساوون امام القانون ولا يوجد من يقف فوقه: الرؤساء وبسطاء الشعب على حد سواء.