خبر إعصار الاحتجاجات الشعبية يضرب « إسرائيل » ..بلال الحسن

الساعة 09:34 ص|08 أغسطس 2011

إعصار الاحتجاجات الشعبية يضرب "إسرائيل" ..بلال الحسن

تواجه "إسرائيل" حالياً، ولأول مرة في تاريخها، حركة احتجاج اجتماعي، من النوع الذي لا يمكن تجاهله. وتستدعي المصالحة اتخاذ قرارات استراتيجية تؤثر على وضع "إسرائيل" الدائم منذ تأسيسها، كقوة عسكرية قادرة على فرض هيمنتها.

 

بدأت حركة الاحتجاج بمظاهرات شبابية لم تألفها "إسرائيل" من قبل. وتجمع المتظاهرون في ميدان مسرح «هيما» في مدينة تل أبيب، وبادرت الصحافة فوراً إلى تشبيه هذا الميدان بميدان التحرير في القاهرة الذي شهد انطلاق الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك. وبرز فوراً السؤال المنطقي عما إذا كان هذا الاحتجاج في "إسرائيل" سيطيح برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته.

 

لم تقتصر حركة الاحتجاج على الشباب، بل شملت الأطباء، وليس الأطباء المتدربين أو العاطلين عن العمل، بل الأطباء المتخصصين الذين يفترض أن يكون لهم دخل أعلى من الفئات الاجتماعية الأخرى. سارعت الحكومة كما هي العادة، إلى اتهام أحزاب اليسار بالوقوف وراء حركة الاحتجاجات، وهو ما يعني أنها حالة صراع تقليدية بين الأحزاب. ولكن الحكومة نفسها ما لبثت أن تراجعت عن هذا الاتهام، وأقر الجميع، وبخاصة في الإعلام، أن هذا التحرك ليس سياسياً، ولم تبادر إليه أحزاب محددة، بل بادر إليه الشباب من مختلف الاتجاهات، ولأسباب اجتماعية بالدرجة الأولى، ولا علاقة له ببرامج الأحزاب السياسية وصراعاتها، بل يتجاوزها ليطرح قضايا جديدة.

 

ماذا يطرح الشباب والأطباء وغيرهم من الفئات الاجتماعية المتوسطة في "إسرائيل"؟ يطرح المسائل الاجتماعية المباشرة، وأبرزها: غلاء الأسعار، وغلاء المنازل بحيث لا يمكن شراؤها من قبل الطبقة المتوسطة (المتعلمة). ومن شأن هذه المسائل أن تجمع مؤيدين لها من كل الأحزاب، ومن كل المدن. وإذا كانت الأحزاب لا تقف وراء هذا التحرك الاجتماعي الاحتجاجي، فإن السياسة ما لبثت أن طرحت نفسها بقوة، فالمعترضون على أزمة السكن، وغلاء أسعار البيوت بحيث لا يستطيعون شراءها، يلاحظون الكرم المبالغ فيه الذي تتصرف به الحكومة في الصرف على إنشاء المستوطنات، بحيث أصبح هذا الصرف على المستوطنات، وعدم العناية بالصرف على المساكن في المدن، سبباً أساسياً من أسباب الأزمة. ومن هنا دخلت السياسة إلى الوضع المتأزم من الباب العريض.

 

ثم طرحت السياسة نفسها على الوضع بطريقة أشد وضوحاً وأشد حساسية، إذ إن المطالبة بتأمين الأموال اللازمة لتخفيض الأسعار، ومعالجة أزمة السكن، طرحت موضوع الميزانية، وطريقة الإنفاق الحكومي، حيث يذهب القسم الأكبر من الأموال إلى الجيش والقضايا الأمنية. وأي خطة لمعالجة أزمة السكن، تقتضي تأمين النفقات اللازمة لذلك، أي تخفيض نفقات الجيش. وهكذا تكون السياسة قد دخلت إلى الساحة من الباب العريض، مهما كان شكل المطالب اجتماعياً، ومهما كانت الأحزاب بعيدة عن مظاهرات المحتجين. وبسبب هذه الأبعاد العميقة لحركة الاحتجاجات، بادر أشخاص من نوع بنيامين بن أليعازر، وزير الدفاع السابق وعضو الكنيست، إلى تحذير الحكومة من النتائج التي قد تترتب على الوضع إذا لم يعالج بشكل سريع وجذري، وكانت حججه كالتالي:

 

أولاً: «إن الاحتجاجات الاجتماعية ما زالت في بدايتها فقط، وهذه حالة الطوارئ الأكثر تعقيداً منذ حرب 1948 وحتى اليوم».

 

ثانياً: «إن المحتجين الذين نصبوا الخيام في ساحات المدن احتجاجاً على أزمة السكن، هم نخب دولة "إسرائيل"، وعليهم تقع أعباء الخدمة العسكرية، وخدمة الاحتياط، وتسيير العمل، ودفع الضرائب. إنهم الجمهور الذي يدفع الثمن الأعلى، وإذا اضطروا للقتال غداً، فإن ثمة علاقة بين طول نفس هذا الشعب ومناعته الوطنية، ولذلك فإن الأمر يواجه انهياراً كبيراً جداً».

 

ثالثاً: قال إن «المليارات تذهب إلى المستوطنات، ولا تزال تذهب إلى هناك، وإذا لم يتوقف ذلك، ويتم نقل الميزانية إلى داخل البلاد، فستحدث كارثة هنا». وبادر سياسيون ومختصون إسرائيليون، إلى تحليل الأزمة بالاتجاه نفسه. وهنا طرح السؤال الأساسي، فيما إذا كانت الحكومة ستدرك ذلك، وتقدم على إحداث تحول في اتجاهات العمل أم لا؟ ورغم «ألاعيب» نتنياهو فإن الجواب جاء سريعاً، ومن قبل الجيش. أعلن الجيش تجميد خطة عسكرية كانت موضوعة قيد التنفيذ، وعلى مدى ست سنوات. وأفادت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن جهاز الأمن قرر تجميد الاستعدادات للخطة السداسية (حلميش) التي أعدها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بيني غانتس للسنوات 2012 - 2018، وهي خطة تحتاج إلى تمويل بقيمة (1.76 مليار دولار). ولشرح معنى هذه الأرقام، تقول «يديعوت أحرونوت»: «إن قرار تجميد الخطة المتعددة السنوات، من شأنه أن يمس بشكل مباشر باستعدادات الجيش الإسرائيلي للتغيرات السياسية الدراماتيكية الحاصلة في الشرق الأوسط، وبشكل أدق فإن تجميد الخطة يسمح بالحفاظ على القدرات العسكرية الموجودة، لكنها ليست كافية للقيام باستعدادات لمواجهة تهديدات مستقبلية في مجال تطوير وشراء الأسلحة.

 

وتقف في خلفية هذا القرار مسألتان هامتان: الأولى وجود أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية. والثاني أن الولايات المتحدة عمدت إلى تقليص مساعداتها الخارجية ل"إسرائيل"، ولذلك لا يمكن الاعتماد على زيادة حجم المساعدات الأميركية، حسب تحليل الخبراء الإسرائيليين.

 

ولكن هذا لا يعني أن يبدأ حديث عربي عن خلل أو انهيار في خطط بناء القوة الإسرائيلية الموجهة أساساً ضد العرب، ذلك أن ميزانية الأمن الإسرائيلي تبلغ 23.88 مليار دولار، والخطة السداسية التي تم إيقافها لا تشكل أكثر من 2 في المائة من ميزانية الأمن الإسرائيلي.

 

إن المس بميزانية الأمن الإسرائيلي، من أجل مواجهة مطالب حركة الاحتجاج الاجتماعية، سيتلوه بالضرورة، مس ثان بميزانية بناء المستوطنات التي تسارعت في عهد نتنياهو بشكل وحشي. وسينتج عن الأمرين بالضرورة، إعادة نظر باستراتيجية إسرائيل العامة. وسيتواجه على الأرض فريقان: المحتجون الاجتماعيون من الشباب والأطباء ولجان الجامعات، والأصوليون الصهاينة الذين يدعمون سياسة الاستيطان، ويشكلون الجمهور الأساسي الداعم لنتنياهو، والذين بادروا إلى التظاهر قبل أيام. وسينشأ عن ذلك وضع متأزم، عبر عنه الجنرال المتقاعد بن أليعازر بالقول: «إن ملايين الدولارات تصرف لتعزيز وتسمين الاستيطان، ولكن لقد بلغ السيل الزبى، واتخذ الإسرائيليون قرارا بعدم الانصياع الأعمى للقيادة السياسية».

 

أخيرا.. لقد بادرت الصحافة الإسرائيلية إلى القول بأن الاحتجاج الاجتماعي الإسرائيلي، ليس إلا امتدادا لتأثيرات حركات الاحتجاج العربية. ولكن الاعتماد على هذه الفكرة بشكل مبسط (من ناحيتنا كعرب) لا يفيد في فهم الأمور بعمق؛ إذ لا بد لأي تحرك شعبي في بلد ما، من الانطلاق من عوامل محلية تخص ذلك البلد، وفي حالة "إسرائيل" يبرز عاملاً الاستيطان والإنفاق على الأمن، وهما أساسيان في رؤية "إسرائيل" لنفسها، وحين يصبحان عرضة للتساؤل والاحتجاج والتغير، فإن تحولاً جذرياً وعميقاً يكون قد دخل إلى المجتمع الإسرائيلي، فشباب الكيبوتس والموشاف الذين يكرسون أنفسهم لخدمة الهدف الصهيوني، يخليان المسرح الآن لشباب الاحتجاج الاجتماعي الباحثين عن حياة عادلة، وهو أمر قد ينقل الهدف الصهيوني من حال إلى حال. ومن هنا تبدأ أزمة "إسرائيل" المصيرية، وهي أزمة تقلق قادتها بالفعل.

 

صحيفة الشرق الأوسط