خبر دراسة لـ د. عوديد عيران.. الغرب والربيع العربي

الساعة 12:16 م|04 أغسطس 2011

دراسة لـ د. عوديد عيران..  الغرب والربيع العربي*

 

رئيس معهد ابحاث الامن القومي

مقدمة:

تسمى الاحداث في العالم العربي في سنة 2011 "الربيع العربي" ولها قدرة على إحداث تغيير سيكون مشابها بكبره لما حدث في شرق اوروبا إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ونظم الحكم التابعة له. يمكن أن نقول بنظرة متفائلة إن الاحداث في منطقتنا قد تكون بدء مسيرة تجعل "تصادم الحضارات" كما يرى هنتنغتون ممتنعا.

        إن الجموع التي خرجت هذا العام للتظاهر في عواصم الدول العربية، وفي طهران في سنة 2009، بيّنت جيدا عن مشكلاتها في مجال حقوق الانسان، والحريات السياسية وشفافية نظام الحكم والمشكلات الاجتماعية الاقتصادية. تتراكم مطالبهم لتصبح برنامج عمل مشحونا، لسنوات عديدة ومتعلقا بنفقة عظيمة. فبغير أن تجند المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية والدول الصناعية والدول المنتجة للنفط والغاز (ولا سيما تلك التي في الشرق الاوسط)، بغير أن تجند نفسها يُشك في أن يُستطاع استغلال "الربيع العربي" في مسيرة طويلة الى نتيجة تشبه ما يبدو اليوم في شرق اوروبا بعد أكثر من عشرين سنة من سقوط سور برلين.

        من سوء الحظ أن تقاطع "الربيع العربي" مع ازمات متصلة، اقتصادية وسياسية، في الكتلتين الرئيستين للدول الصناعية – الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي (أكثر من نصف دول الــ جي 8 الذي هو التنظيم نصف الرسمي للدول الصناعية). وكذلك دُفعت اليابان الى ازمة بسبب كارثة طبيعية ذات تأثيرات اقتصادية صعبة. وفي الولايات المتحدة تغلب الانتقاد الداخلي على الزيادة السريعة المقلقة للدين القومي. وإن تهديد أن تُدفع اليونان وربما دول اخرى في كتلة اليورو الى عجز عن قضاء الديون جعل الاتحاد الاوروبي يواجه واحدة من أقسى الازمات منذ انشائه. فالحاجة الى أن يوجه الاتحاد الاوروبي الى الدول الواقعة في ازمة مبالغ تبلغ مئات مليارات اليورو (110 مليارات يورو لليونان فقط في 2010) تضائل بقدر كبير قدرته على تخصيص نفقات كبيرة لحاجات تواجه تلك المخصصة لدول الاتحاد نفسه. إن ازمة اليورو فوق أنها لم تُحل يتوقع أن تزداد حدة. إن الظروف عن جانبي المحيط الاطلسي في المجال السياسي، الداخلي والدولي لا تبشر بالخير من وجهة قدرة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي على أن يجندا أنفسهما للجهد الضخم المطلوب لاحراز نجاح في باستغلال الوضع الحالي في بعض الدول العربية لاحداث مسيرة تاريخية ثورية. تدخل الولايات المتحدة الربع الأخير من ولاية الرئيس اوباما الحالية في وقت يسيطر فيه الجمهوريون على مجلس النواب ويهددون بمنع مبادرات للبيت الابيض، ولا سيما في شؤون السياسة الخارجية التي تحتاج الى ميزانية كبيرة. والاتحاد الاوروبي برغم ميثاق لشبونة الذي أُنشيء في اطاره جهازه الخارجي، لم ينجح في انشاء اطار فعال ولا يبدو أنه سيحدث في المستقبل القريب تحسن كبير يُمكّن مؤسسة اوروبية مركزية في مجال سياسة الخارجية والامن من صياغة سياسة اوروبية ذات رؤيا وقدرة على التحليق.

 

        الواقع الذي يجب على "الغرب" أن يواجهه

1-        استعمال القوة لقمع المظاهرات

مال الغرب عشرات السنين الى التعامل بتسامح مع القمع، العنيف احيانا، لحقوق الانسان والحقوق السياسية في أكثر الدول العربية. وقد فُسر هذا التسامح في الأكثر بكون نظم الحكم حليفة للغرب برغم أن هذا التفسير ليس صحيحا في حال مظاهرات الجماهير والقتل والشدة على المتظاهرين الايرانيين زمن الانتخابات هناك في سنة 2009، وهي أعمال حظيت بانتقاد كلامي واهن من دول اوروبا والولايات المتحدة. أثارت الانتفاضات في الدول العربية في دول الغرب ردودا تختلف من حال الى حال، وهذه الردود توحي برسالة معاملة مزدوجة وثلاثية، للمصالح التي تتغلب على التقديرات الاخلاقية والأخذ بعمل مفرط في مواجهة نظم الحكم المستبدة اذا لم يكن لهذا العمل ثمن اقتصادي أو سياسي فقط.

اتُخذ قرار مجلس الامن 1973 بشأن انشاء "منطقة بلا طيران" في سماء ليبيا بعد أن أُجيزت موافقة الجامعة العربية على هذا القرار فقط، وهذا الامر مفهوم من الجانب السياسي لكن ليس فيه ما ينقل رسالة اخلاقية. ففي الوقت الذي اتخذ فيه قرار مجلس الامن 1973 (17 آذار 2011) لم يكن عدد القتلى في ليبيا، بحسب تقدير أكثر المصادر، يزيد كثيرا عن عدد القتلى في مدن سوريا حتى نهاية حزيران 2011. وبرغم ذلك لم تبدُ خطة في الجامعة العربية. وفي مجلس الامن بدأت من قريب فقط عضوتان دائمتان هما بريطانيا وفرنسا تعملان على اتخاذ قرار مشابه بشأن الوضع في سوريا، لكن روسيا والصين بينتا أنهما لن تؤيدا هذا القرار لأن الوضع في سوريا في رأيهما ليس خطرا على سلام العالم. ويذكر الاعلان الختامي لدول الـ جي 8 أنه "اذا لم تستجب السلطات في سوريا لهذه الدعوة (وقف استعمال العنف) فسنزن خطوات اخرى". في مقابل هذا كادت الولايات المتحدة ودول اوروبا تتجاهل تماما دخول قوات السعودية الى البحرين لمساعدة النظام على قمع المظاهرات التي بادر اليها الشيعة خاصة الذين هم أكثرية سكان الدولة. وفي اليمن ايضا التي جبى فيها نضال المنتفضين لسلطة الرئيس عبد الله صالح مئات الضحايا، لا يوزن في هذه المرحلة تدخل عسكري، وتقف الجماعة الدولية جانبا. قال الرئيس اوباما في خطبته المركزية حتى الآن في هذا الشأن ان الخشية من مذبحة جماعية في ليبيا ووجود سلطة للعمل جعلا الولايات المتحدة تتعاون مع حليفاتها في حلف شمال الاطلسي في العملية في ليبيا. ولم يُبين لماذا اكتفت الولايات المتحدة في سوريا بعقوبات وبدعوة الى تنحي الرئيس الاسد، مع وعده إياه بتحديات في الداخل وعزلة في الخارج لسوريا فقط.

إن تأييد الولايات المتحدة غير المتحفظ لتنحية الرئيس مبارك السريعة ستدوي أصداؤه زمنا طويلا في المنطقة، لا سيما في نظم الحكم التي اعتمدت حتى الآن على فرض أن الولايات المتحدة لن تُمكن من سقوطها. إن تخلي الولايات المتحدة السريع عن مبارك أفضى من جملة ما أفضى اليه الى قرار السعودية على ارسال قوات الى البحرين واستعداد مجلس التعاون الخليجي لأن يزن ان يضم الى المنظمة دولتين عربيتين نظام الحكم فيهما ملكي ايضا هما الاردن والمغرب. كانت هذه الخطوات ترمي الى تثخين القدرة العسكرية لدول الخليج بسبب الخشية التي تزداد من الفراغ الذي قد ينشأ عندما يُستكمل خروج قوات الولايات المتحدة من العراق، وإزاء علامات تزداد على احجام الولايات المتحدة عن استعمال القوة لمجابهة استمرار ايران على النشاط النووي العسكري.

من الصحيح حتى نهاية حزيران ان العملية العسكرية "الدرع الموحدة" التي يقوم بها حلف شمال الاطلسي مستمرة منذ ثلاثة اشهر وأن نظام القذافي ثابت على حاله. وفي السلطة التي خولتها المنظمة نفسها لم يرد في الحقيقة أن الهدف هو اسقاط النظام، لكن لما كانت المنظمة تتهم النظام بالاستمرار على قمع السكان ففي هذا اعتراف جزئي بأن العملية لم تحرز هدفها بعد. قرر وزراء دفاع الدول الاعضاء في لقائهم في الثامن من حزيران 2011 إطالة العملية حتى نهاية ايلول 2011. وبعد أكثر من 4500 طلعة هجومية (حتى الواحد والعشرين من حزيران) نشأ ما يشبه تعادلا بين القوات الموالية للنظام وبين قوات الثوار في الوقت الذي يحافظ فيه كل جانب على مواقعه وتنجح قوات حلف شمال الاطلسي في ايصال مدد ومساعدة الى منطقة مدينة بنغازي بالأساس.

لم يصدر عن الغرب ولو تحذير واحد باستعمال القوة على النظام في دمشق، ويمكن أن ننسب هذه الحقيقة الى عدم وجود دعوة أو تخويل من الجامعة العربية وقرار من مجلس الامن في عقب ذلك. لكن ينبغي أن نفترض انه حتى لو وجدت هذه الشروط لصعب على حلف شمال الاطلسي أن يتخذ قرارا على استعمال القوة. في نهاية حزيران 2011 اكتفى وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي بالتهديد بتوسيع العقوبات على اشخاص سوريين وشركات سورية يتصلون بخطوات القمع، لا غير. ومن هذه الجهة ليست ليبيا مثالا على القاعدة بل هي الشذوذ عن القاعدة لانه لم يكن يتوقع "ثمن" للنشاط العسكري على صورة مس ليبيا بمصالح حيوية للولايات المتحدة واعضاء أخر من حلف شمال الاطلسي، ومن الحقائق انه لم يكن لقوات حلف شمال الاطلسي حتى الآن خسائر في الارواح أو المعدات.

2-        الظروف الاقتصادية الاجتماعية

قبل نشوب الانتفاضات في العالم العربي كانت المعطيات الأساسية الاقتصادية في المنطقة من اسوأ ما يوجد في العالم. وقد بلغ النمو الاقتصادي الحقيقي في المنطقة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي 3 في المائة قياسا بـ 4.5 في المائة في الاقتصادات النامية. وفي السنين من 1980 – 2010 كانت زيادة الناتج الوطني الخام للفرد في الشرق الاوسط 0.5 في المائة فقط قياسا بـ 3 في المائة في الاقتصادات النامية. وقد تغير توقع النمو في سنة 2011 بعقب الاحداث اذا استثنينا الدول المنتجة للنفط والغاز في الخليج الفارسي. والتوقع الآن هو نمو بنسبة 3.6 في المائة فقط في المتوسط للمنطقة كلها في سنة 2011، أي بانخفاض عن التقدير السابق بنسبة الثلث. ويفسر الانخفاض بتضاؤل الايرادات من السياحة (كان قطاع السياحة في مصر وتونس يشكل في سنة 2010، 13 و 16 في المائة من الناتج الوطني الخام، على الترتيب)، وتشويش على النشاط الاقتصادي الجاري وانخفاض للاستثمارات بعقب زيادة عدم اليقين السياسي وإثر الزيادة المتوقعة للعجز الميزاني. في مقابل نمو بلغ 5.2 في المائة في مصر في سنة 2010 يتوقع في 2011 نمو بنسبة 1 في المائة فقط. وتزداد ضغوط التضخم وزيادة حادة لاسعار المنتوجات الغذائية المستوردة تزيد الوضع سوءا.

التأثيرات الاقتصادية للربيع العربي في الأمدين القصير والمتوسط خطيرة. واستمرار الانتفاضة سيعقد الوضع فقط والقدرة على مواجهة التأثيرات السياسية. وقد تتضرر فروع كثيرة كالبناء والسياحة والقطاع المالي في الأمد البعيد. وفي الأمد القصير تأخذ حكومات مؤقتة وحكومات جديدة بوسائل شعبوية كدعم المنتوجات الغذائية ورفع أجور العمل في القطاع العام، وعدم رفع الضرائب من اجل مضاءلة عجز الميزانية، وعلى ذلك فان الصورة العامة التي نحصل عليها هي صورة ازمة اقتصادية مستمرة.

        يُقدر صندوق النقد الدولي الاحتياجات المالية لمواجهة جملة مشكلات دول المنطقة التي تستورد النفط بـ 160 مليار دولار للسنين 2011 – 2013، والهدف الرئيس هو احداث استقرار اقتصادي في الحد الأقصى حتى النضج ولو الجزئي للاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذه الحاجات بالنسبة للجماعة الدولية ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليابان عبء غير ممكن تقريبا حيال ازماتها الاقتصادية.

        محت الولايات المتحدة حتى الآن مليار دولار من دين مصر واشترطت ذلك بأن تنفق حكومة مصر هذا المبلغ على خلق اماكن عمل، وستضمن مليار دولار آخر لمُدينات تستطيع مصر أن تجنده في السوق العالمية. وهكذا أعطت الولايات المتحدة الذراع الحكومية "اتحاد الاستثمار الخاص وراء البحار" امكان أن تمنح القطاع الخاص في المنطقة ملياري دولار من المساعدة الأساسية. وافق الرئيس اوباما في لقائه مع عبد الله ملك الاردن في 17 أيار 2011 على منح الاردن مليار دولار وخمسين ألف طن من القمح (نحوا من 5 في المائة من الاستهلاك السنوي أو ما يقرب من 17.5 مليون دولار بحسب اسعار أيار هذا العام).

        في لقاء القمة في ديفيل في فرنسا قرر قادة الـ جي 8 أن يخصصوا بواسطة مصارف التطوير (ولا سيما البنك الاوروبي للاستثمارات والبنك الاوروبي للتعمير والتطوير الذي يعمل في دول شرق اوروبا) "أكثر من عشرين مليار دولار" لتونس ومصر حتى 2013. ينبغي افتراض أن الحديث عن قروض لأن البنوك لا تشتغل على نحو عام بالهبات. وقد أعلنت حكومة فرنسا باعتبارها مستضيفة لقاء قمة الـ جي 8 بهبة تبلغ 185 مليون يورو بمساعدة ميزانية لحكومة تونس ومساعدة تبلغ 425 مليون يورو اخرى لاعادة البناء الاقتصادي لهذه الدولة. كذلك منحت فرنسا مصر 650 مليون يورو من اجل اعادة بنائها الاقتصادي. وقُبيل القمة في ديفيل قرر الاتحاد الاوروبي منح دول المنطقة 1.24 مليار يورو، تُزاد على مساعدة تبلغ 5 مليارات يورو أُعلنت في الماضي.

        المبالغ التي عرضت حتى الآن بعيدة عن المبلغ السنوي الذي أشار اليه صندوق النقد الدولي من اجل اعادة البناء الاقتصادي لاقتصادات المنطقة، ومن هنا تأتي أهمية الدول العربية المنتجة للنفط والغاز بأن تنشيء عجل انقاذ ورافعة لتغييرات في المنطقة. والمفارقة هي أن هذه الدول يُطلب اليها المساعدة على مسيرة هي غير معنية بها ألبتة وتُدفع الى معضلة هي أن تساعد أو أن تظهر بمظهر المتخلية عن السكان العرب في ازمة.

        تُبين النشرات في هذا الشأن أن السعودية حولت الى مصر هبات تبلغ 4 مليارات دولار وقروضا "ليّنة" وودائع في مصارف مصرية. وجعل صندوق النقد الدولي في تصرف مصر 3 مليارات دولار في 12 شهرا للمساعدة على البناء الاقتصادي وانشاء اماكن عمل. ومع اعلان الصندوق بتخصيص المبلغ أعلن بنية حكومة مصر أن ترفع الضريبة على أصحاب الدخول العالية، ومساعدة المصانع الصغيرة والمتوسطة على عدم فرض ضريبة قيمة مضافة، والغاء الدعوم والأخذ بخطوات اخرى برغم أن الصندوق يشارك حكومة مصر رأيها انه لا يوجد في هذه المرحلة امكان لتحقيق جميع الاصلاحات.

        أعلن رئيس البنك الدولي في 24 أيار 2011 باستعداد البنك أن يخصص 6 مليارات دولار لمساعدة مصر وتونس. ويتبين من اعلانه ان مساعدة صندوق النقد هي جزء من المبلغ. وقد منحت السعودية الاردن 400 مليون دولار نقدا لمضاءلة عجز ميزانيته الذي زاد زيادة كبيرة ولا سيما نتاج ارتفاع اسعار الطاقة. وقد انشأت ايضا صندوقا بعشرين مليار دولار لاقرار الوضع في عُمان والبحرين ولا تخفي نيتها أن تقوي نظم الحكم الملكية العربية.

        لا تقترب المبالغ التي ذكرت من تقدير الاحتياجات؛ فبحسب تقدير صندوق النقد تزيد المبالغ المطلوبة على 50 مليار دولار كل سنة لمدة ثلاث سنين، لكنها برهان على استعداد الجماعة الدولية لأن تجند نفسها للمهمة. لكن القنوات المختلفة التي ستحول المساعدة عن طريقها وعدم وجود وسائل رقابة وتوجيه لجزء من المساعدة كالمساعدة السعودية مثلا، تثير اسئلة بشأن جدواها. ويثار بخاصة سؤال هل سيساعد هذا على انشاء اماكن عمل وهل سيكون استغلاله شفافا للجمهور أكثر مما كان في الماضي. عبّر رئيس حكومة كندا، ستيفان هاربر، عن هذه الشكوك باعلانه في هامش قمة الـ جي 8 أن بلاده لن تسهم بموارد واموال تزيد على نصيبها في المؤسسات المالية الدولية لانهم يستطيعون بهذا مراقبة الاستعمال المناسب للاموال. ومن المحقق ان الاموال من السعودية التي تبلغ نحوا من 25 مليار دولار والتي يعطى أكثرها باعتباره منحة وحقنة مباشرة للميزانيات، غير مشروطة بالاصلاحات. ولذلك ينبغي ألا تنشأ توقعات كثيرة لتغيير جوهري في الأمد القصير ينبع من المساعدة الغربية – العربية لنظم الحكم العربية التي وقعت في دولها الانتفاضات الشعبية. ينبغي ان نفترض أن يؤثر الخوف من المظاهرات في الأمد المباشر على الأقل في تحسين شفافية عمل نظم الحكم، وخفض مستوى الرشوة وخفض التبذير. وبغير رقابة أوثق وأكثر الزاما مما كان في الماضي من المؤسسات الدولية، يُشك كثيرا في أن تُطيل المساعدة الطارئة أيام الفضل.

 

التصور الغربي للأمد البعيد

1-        المساعدة الاقتصادية

في حين نجحت الجماعة الدولية في الأمد القصير بتجنيد مبالغ مالية كبيرة برغم أنها ما زالت لا تبلغ المقدار المطلوب برغم عدم وجود يقين بأنها ستساعد على تقديم الأهداف التي يطمح اليها مئات آلاف المتظاهرين في العالم العربي والحكومات الغربية فانه ليس للغرب في الأمد البعيد جواب كاف. سواء كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضات الشعبية في سنة 2011 شرارة ايرانية – المظاهرات الجماعية على النظام بعد الانتخابات في ايران في 2009 – أم المواطن التونسي الذي قتل نفسه احتجاجا على تنكيل النظام، فان القاسم المشترك هو الاحتجاج على استبداد السلطة المركزية وقمع حقوق الفرد والفساد الاقتصادي – الاجتماعي. في عدد من الحالات نجح الثوار في إبعاد الحكام لكن الواضح ان نجاحهم الأكبر هو في إرساء قاعدة جديدة لتعددية الخطاب السياسي في الشرق الاوسط يشارك فيه المواطن نفسه والسلطة المركزية المؤقتة وتلك التي ستحل محلها بعد الانتخابات في الدول المختلفة، والمجتمع المدني على اختلاف قطاعاته، ومنه وسائل الاعلام التي استمدت تشجيعا وتعزيزا من استعداد المواطن لمجابهة السلطة.

كل ذلك يثير علامات سؤال كثيرة: فكيف الحفاظ على انجازات الربيع العربي بحيث يأتي بالتغييرات والاصلاحات ويُقرها في الأمد البعيد؟ وما هي صلة اجراءات مشابهة (من جهة خارجية على الأقل) حدثت في شرق اوروبا أو في امريكا اللاتينية مثلا؟ وما هي أهمية الدول الغربية في هذه المسارات زيادة على دعمها المالي؟ وهل تستطيع الدول العربية ولا سيما التي تستورد مصادر الطاقة أن تثبت لعبء الديون؟ وما هي الصلة بين الاجراءات السياسية وبين التغييرات والاصلاحات السياسية الخارجية؟ وهل توجد صلة مباشرة بين الحاجة الى انشاء ما يقرب من 100 مليون مكان عمل في العقد القريب وبين نجاح الاصلاحات السياسية؟. وبسبب من تعلق اقتصادات الشرق الاقصى النامي بمصادر طاقة الشرق الاوسط، هل يمكن انشاء شراكة اقتصادية ثلاثية بين الاقتصادات التي تستورد الطاقة في الشرق الاوسط والشرق الاقصى وبين الاقتصادات التي تنتج الطاقة في الشرق الاوسط؟ حتى الآن، ما يزال التصور الذي يقف من وراء رد الغرب بعيدا عن اعطاء جواب واضح عن هذه الاسئلة وغيرها. وقد احتارت في جزء كبير من هذه الاسئلة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والمؤسسات المالية الدولية التي ذكرنا عددا منها هنا، حتى قبل بدء الانتفاضات الشعبية. وقد زادت هذه الانتفاضات من سرعة النقاش وزادت الضغط من اجل وجود رد استراتيجي.

لم يسهم الرئيس اوباما اسهاما كبيرا في النقاش بخطبته في أيار 2011. وقد ذكر حقا أن ليست القضايا السياسية وحدها هي التي دفعت الجماهير الى الشارع وأن نقطة البدء آخر الامر هي الاهتمام بالطعام وبالعائلة. يتعلق الانتقال الى الديمقراطية بتوسيع النمو والرفاه كي يتمتع الجميع بهما. والى الخطوات المباشرة التي ذكرت أعلاه لم يقترح الرئيس حلولا ما في الأمد البعيد. وكان وزير المالية ووزيرة الخارجية الامريكية أكثر تحديدا بتوجههما الى نظرائهما قبل أن عُقدت قمة الـ جي 8 في ديفيل. تبنى الوزيران الامريكيان ترتيب أفضليات جماهير السائرين كما فهماه: الاستقرار المالي؛ وتعزيز القطاع الخاص؛ ومضاءلة الفساد؛ وانشاء اماكن عمل؛ واستمرار اندماج الاسواق المحلية في الاقتصاد الاقليمي والعالمي.

اقترحت الولايات المتحدة بهذه الرسالة على شريكاتها تبديل ديون مصر باستثمارات في اقتصاد مصر، وعملت بحسب هذا الاسلوب كما قلنا آنفا. واقترح الامريكيون ايضا أن يوجه البنك الاوروبي للتعمير والتطوير الى نشاط في الشرق الاوسط ايضا وتبنت دول الـ جي 8 هذه التوصية. وقد عاد الامريكيون ايضا الى فكرة زيادة التجارة الاقليمية الداخلية ذاكرين ان نسبتها أقل من عُشر تجارة المنطقة العامة، وفي هذه النقطة تقترح الولايات المتحدة ما يلي، "كما أن العضوية في الاتحاد الاوروبي كانت حافزا ذا قوة الى التغييرات الاقتصادية في مركز اوروبا وشرقها بعد الحرب الباردة فان احتمال المشاركة في اقتصاد اندماجي ديناميكي سيحدث قوة كبيرة جدا على اصلاحات في الشرق الاوسط وشمال افريقيا". ينبغي ألا تفسر هذه المقولة سوى باعتبارها "دعوة" للاتحاد الاوروبي الى اشراك الدول العربية في المنطقة الاقتصادية الاوروبية.

        إن الاتحاد الاوروبي حائر حقا في مسألة علاقاته بالشرق الاوسط وشمال افريقيا منذ بدء تسعينيات القرن الماضي على الأقل. وتنبع الحيرة من تعلق دول الاتحاد بمصادر الطاقة في الشرق الاوسط، ومن تأثيرات عدم الاستقرار في المنطقة في اوروبا بسبب القرب الجغرافي، ومن ارادة لعب دور في المسيرة السياسية باعتبار ذلك جزءا من مسيرة بناء القدرة السياسية – الامنية للاتحاد ومن عمليات الهجرة غير القانونية من شمال افريقيا الى اوروبا. في العقود الثلاثة الاخيرة انشأ الاتحاد الاوروبي ثلاثة أطر في محاولته أن يحل مسألة علاقاته بالمنطقة وهي: مسيرة برشلونة في سنة 1995، وسياسة الجوار الاوروبي في 2004 واتحاد البحر المتوسط في 2008. وقد كانت جميع هذه الأطر ترمي الى الوفاء بالتفضيلات الاوروبية مع حسم امكان اندماج اقتصادي كامل وعضوية كاملة (برغم أن المغرب عبر عن اهتمام بذلك). وقد عرض الاتحاد الاوروبي انشاء منطقة تجارة كاملة أوسطية واتفاقات تآلف تُمكن من تجارة حرة ومشاركة في خطط اوروبية معينة. ومع ذلك طلب الاتحاد الاوروبي من شريكاته على البحر المتوسط اصلاحات داخلية اقتصادية وسياسية وقانونية تشتمل على تقريب سن القوانين فيها الى القوانين الاوروبية.

        بدأ مسار النظر من جديد في سياسة الاتحاد الاوروبي نحو الجيران في الجنوب والشرق قبل نشوب الانتفاضات الشعبية لكن هذه منحته أهمية أكبر. ففي الخامس والعشرين من أيار 2011 صدرت وثيقة مشتركة عن قسم التوسيع في مفوضية الاتحاد الاوروبي والمسؤولة عن العلاقات الخارجية في الاتحاد السيدة كاترين أشتون. يعترف كتاب الوثيقة بأن الاتحاد فشل حتى الآن في انجاز اصلاحات سياسية في الدول المجاورة، وبعقب الاحداث هناك حاجة الى توجه جديد لتعزيز الشراكة بين الاتحاد والجارات. والمبدأ الذي سيوجه الاتحاد بحسب هذه الوثيقة، هو اشتراط المساعدة الاوروبية بتقدم بناء الديمقراطية وسلطة القانون: "فكلما تقدمت الدولة أسرع في الاصلاحات الداخلية ستحصل على مساعدة أكبر من الاتحاد الاوروبي". بعد ذلك يدعو كتاب الوثيقة الى هذا التوجه "أكثر من اجل أكثر". ويهدد الاتحاد الاوروبي ايضا بالغاء الافضالات في حال نكوص وسوء لوضع حقوق الانسان والحقوق السياسية. تُكثر الوثيقة في الحقيقة من الصيغ الايجابية مثل: "رد طموح على التغييرات المدهشة التي تحدث في جنوب حوض البحر المتوسط"، أو "ستكون الشراكة شاملة واسعة"، لكن الاستنتاج هو أن الأطر والوسائل التي استعملها الاتحاد الاوروبي في علاقته بالجارات قد حُسنت لكنها لم تتغير جوهريا، لا يوجد شيء مرفوض في توجه "أكثر من اجل أكثر"، لكن هذا لن يضمن بقاء الاصلاحات المختلفة حتى لو جرى تبنيها، ونشوء قيادة ديمقراطية ذات مسؤولية. إن النموذج الاوروبي ليس كاملا ولم يمنع بالاطلاق ظواهر فساد أو اخفاقات اقتصادية، لكنه حسن تحسينا كبيرا الوضع الذي ساد عددا من الدول الاعضاء قبل انضمامها. من اجل تبني الاصلاحات في الدول العربية والحفاظ عليها زمنا طويلا يحتاج الى أن تتبنى الدول العربية التي تطمح الى هذه الاصلاحات القوانين الاوروبية في عدة مجالات. وستأتي الحوافز الى ذلك والرغبة في الثبات للمعايير الاوروبية من سلسلة خطوات اقتصادية التي يقترحها الاتحاد الاوروبي في الوثيقة المذكورة. لكن الحوافز الأهم التي لا تظهر في الوثيقة هي الاستعداد الاوروبي للمخاطرة وإبداء انفتاح لم يكن ظاهرا حتى الآن. ما تزال الزراعة مثلا أساسا مهما في اقتصاد الدول المجاورة برغم أنه يجب على دول الشرق الاوسط في الأمد البعيد أن تجد بدائل، فان على الاتحاد الاوروبي في الأمدين القصير والمتوسط أن يبدي انفتاحا أكبر بالاستعداد لاستيعاب الانتاج الزراعي من هذه الدول، والتغيير الذي لا يقل عن ذلك جوهرية هو الاستعداد لتشجيع تبني تشريع اوروبي وسلوك بحسب معايير اوروبية باشراك الدول المختلفة في المسيرة الاوروبية لاعداد التشريع، وإن لم يكن ذلك في القرار على التشريع في مجالات قرر الاتحاد الاوروبي والدول المجاورة جعله مجال التعاون. إن إشراك موظفية رفيعة المستوى بل وزراء من الدول المجاورة في اجراءات اوروبية داخلية سيزيد استعدادهم للعمل بحسب معايير أعلى وأحسن. ويقال الشيء نفسه ايضا في إشراك نواب برلمانيين من الدول المجاورة في اجراءات تشريع في البرلمان الاوروبي، وبهذه الطريقة سينشأ شعور بالملكية المشتركة ويُلغى الشعور الذي يريد كتاب الوثيقة الاوروبية الامتناع عنه وهو القسر والاملاء الاوروبيان.

        لن تستطيع المساعدة المالية للدول التي يجري فيها صراع من اجل التغيير والاصلاحات أن تأتي من اوروبا في هذه المرحلة. يجب أن تُدبر في الأساس على أيدي المؤسسات المالية الدولية كي تستغل بالطريقة الأكثر شفافية ونجوعا. ومع ذلك للاتحاد الاوروبي دور مركزي في صوغ صورة نظم الحكم الجديدة كي تدوم على تحقيق توقعات من بذلوا مهجاتهم في شوارع طرابلس والقاهرة ودمشق. يجب على الاتحاد الاوروبي للوفاء بهذه المهمة ان يحل معضلات مثل التعارض بين الرغبة في المساعدة وبين مصالح دول أو جماعات ضغط في الاتحاد، أو القدرة على خرق أطر صارمة يعمل الاتحاد الاوروبي بواسطتها.

        إن وثيقة دول الـ جي 8 عن الربيع العربي هي من جهة عودة الى العناصر المركزية التي ظهرت في وثيقة الاتحاد وفي رسالة وزيرة الخارجية ووزير المالية في الولايات المتحدة الى نظرائهما؛ وهي من الجهة الاخرى وعدٌ من الدول المتقدمة في الاقتصاد العالمي وبدعم المؤسسات المالية الرائدة. لم يعدُ هذا المسار أن بدأ، كما قال الرئيس اوباما في خطبته في 19 أيار وسيستمر مدة طويلة وسيكون للدول العربية المنتجة للنفط والغاز سوى السعودية وللاتحاد الاوروبي ايضا وقت كاف للتوصل الى ما تسميه وثيقة الختام الصادرة عن الـ جي 8 "تغييرا استراتيجيا في توجه الجماعة الدولية وعملها".

 

        الحوار مع القوى السياسية الثائرة

        أجرت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي في الماضي اتصالات بجهات معارضة في الدول العربية، وقد أعطت الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية في النصف الاول من سنة 2011 شرعية دولية لاتصالات مكشوفة بقوى متمردة كما هي الحال في ليبيا. فممثلو الدول التي لها صلة بالمجلس الليبي المؤقت الذي أُنشيء في نهاية شباط 2011 يلتقونه في احيان متقاربة ويرون هذا المجلس أنه "الجسم الشرعي للشعب الليبي". تمنح هذه الدول هذا المجلس مساعدة مالية بل تشتري النفط المستخرج من المنطقة التي تسيطر عليها قوات المتمردين في ليبيا. وثم ظاهرة مهمة هي استقرار رأي الدول العربية المنتجة للنفط على أن تجند أنفسها لمساعدة المجلس المؤقت. وقد تقدم المسار نحو ليبيا الذي بدأ بقرار الجامعة العربية واستمر باستدعاء لقرار مجلس الامن 1973، تقدم مرحلة اخرى عندما حولت الكويت وقطر – الاولى 180 مليون دولار والثانية 100 مليون دولار – الى المجلس الليبي المؤقت.

        أحدث الربيع العربي سابقة ما يزال من الصعب تقدير معانيها، لتعاون بين الدول العربية والدول الغربية على نظم حكم عربية (وقد تناولت مجموعة الدول ذات الصلة ما يحدث في ليبيا والتي اجتمعت في أبو ظبي الوضع في اليمن ايضا). ويمكن ان نقول من جهة اخرى ان الحديث عن دول هامشية في الجامعة العربية كليبيا واليمن وأنه ينبغي ألا نرى ما يحدث فيهما سابقة لاوضاع مشابهة في دول اخرى مثل سوريا؛ ومن جهة ثانية تساعد الدول العربية على تنحية الحكام بسبب مشكلات داخلية (لا كما كانت الحال في 1990 – 1991 حينما تعاونت مع الولايات المتحدة في حرب الخليج الاولى على أثر غزو العراق واحتلال الكويت). من المحقق أن هذا التعاون لا يقوم على تشابه القيم لان نظام الحكم في الكويت مثلا لا يُعد نظاما ديمقراطيا، بل على مصالح عارضة وقد يكون هذا سبب ضعفه ومحدودية وقته. سيكون الامتحان المهم في هذا السياق هو ارادة وقدرة الشريكات العربية والغربية على انشاء صلة مشابهة بما حدث في ليبيا، بالمتمردين في سوريا ايضا.