خبر جلاد الأمس، ضحية البارحة والطريق للكارثة../ زهير أندراوس

الساعة 05:44 ص|31 يوليو 2011

جلاد الأمس، ضحية البارحة والطريق للكارثة زهير أندراوس

أسقط الكنيست الإسرائيليّ، الأسبوع الماضي، مشروع القانون، الذي تقدّم به الحزب الفاشيّ (يسرائيل بيتينو)، بزعامة المُستجلب والمُستوطن، المأفون أفيغدور ليبرمان، والذي طالب بتشكيل لجنة تحقيق برلمانيّة مع منظمات حقوق الإنسان "اليساريّة"، التي تنشط ضدّ الاحتلال وموبقاته، وتقوم بين الفينة والأخرى بالكشف عن جرائم الجيش في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة، علاوة على إعدادها التقارير القيّمة عن انتهاك حقوق الإنسان العربيّ الفلسطينيّ.

 

 لا ننكر أنّ لهذه المنظمات الإسرائيليّة الدور الهام في إعلام الآخرين بالعمليات غير الإنسانيّة التي يرتكبها جنود الاحتلال وقطعان المستوطنين الكولونياليين، هذا من ناحية، ولكن من الناحية الأخرى، علينا القول الفصل إنّ منطلقات السواد الأعظم من هذه التنظيمات والجمعيات هي منطلقات صهيونيّة صرفة، لا أكثر ولا أقّل، وانّ نشاطها، الذي نباركه، نابعٌ في ما هو نابع، من حرصها على الدولة العبريّة وإيمانها بأنّها يجب أنْ تكون ديمقراطيّة، قبل أنْ تُطالب الآخرين بالاعتراف بيهوديتها، كما أنّ النواب الصهاينة، الذي صوّتوا ضدّ تمرير القانون، فعلوا ذلك بسبب خشيتهم من أنْ يُساهم سنّه في شرعنة نزع الشرعيّة عن إسرائيل في العالم، وتشويه صورتها، المشوهة أصلاً في العالم، وتأليب الرأي العام العالميّ، المؤلب أصلاً، ضدّ إسرائيل بسبب ممارساتها العنصريّة والمتطرفة والمارقة.

 

وهذا الأمر ينسحب أيضًا على ما يُطلق عليه اسم اليسار الصهيونيّ الإسرائيليّ، وهنا لا بدّ من التشديد على أنّ هذا "اليسار" يؤيد حق الشعب الفلسطينيّ بتقرير مصيره، ليس لأنّ هذا الشعب صاحب قضيّة عادلة، هذا إذا وُجد العدل، بلْ لأنّ هؤلاء "اليساريين" يريدون المحافظة على طهارة ونقاوة إسرائيل اليهوديّة-الديمقراطيّة، وعدم تحويلها إلى دولةٍ ثنائية القوميّة، كما أنّه من الأهميّة بمكان التشديد على أنّ هذا "غير اليمين" يتساوق في مواقف مبدئيّة مع "غير اليسار"، وتحديدًا في رفض حقّ عودة اللاجئين، وللتدليل على ذلك، نذكر فقط وثيقة جنيف، التي وقعّها عن الطرف الإسرائيليّ، د.يوسي بيلين، الذي يُعتبر يساريًا وفق التعريفات الصهيونيّة، والتي تمّ خلالها إسقاط حق العودة.

 

***

 

ولكي نضع النقاط على الحروف نُوضح بشكلٍ غير قابلٍ للتأويل بأننّا سُررنا من عدم سنّ القانون العنصريّ، ذلك أنّ رفضه شكّل ضربةً قاسيّةً للسيّد ليبرمان ومجموعته، وساهم إلى حدٍ كبيرٍ في تأجيج الصراع على أصوات اليمين واليمين المتطرف بينه وبين رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وبطبيعة الحال بسبب إيماننا المطلق بأنّ هذا القانون يبعد على الأقّل ألف سنة ضوئية عن الديمقراطيّة، التي يتشدّقون بها زورًا وبهتانًا. وبالمناسبة، بيّن البحث الأكاديميّ، الذي استمر على مدار عقدين من الزمن في جامعة حيفا، تحت إشراف البروفيسور ماجد الحاج، ونُشر الأسبوع الماضي، أنّ المهاجرين الروس هم الأكثر تطرفًا في إسرائيل ويعانون من الإسلاموفوبيا (أيْ كره الإسلام والمسلمين) ويطالبون بترحيل فلسطينيي الـ48، ومن هذه الفئة التي يصل عددها إلى أكثر من مليون، يحصل الفاشيّ ليبرمان على أكبر عددٍ من الأصوات في الانتخابات العامّة في إسرائيل.

   

***

 

والشيء بالشيء يذكر: الجنرال في الاحتياط، شلومو بروم، وهو باحث كبير في معهد الدراسات الإستراتيجيّة في تل أبيب، وكان رئيسًا لشعبة التخطيط الإستراتيجيّ في الجيش الإسرائيليّ، أعدّ دراسةً جديدًة حول الرؤية الصهيونيّة للربيع العربيّ، جاء فيها أنّ هناك فوارق بين الرؤية الخاصة بالأنظمة المختلفة في العالم العربيّ تجاه إسرائيل وبين رؤية الشارع، وبحسبه فإنّ الأنظمة بصفةٍ عامة قبلت إسرائيل كجزءٍ من الشرق الأوسط، وهذا الأمر ليس كذلك بالنسبة للشارع العربي، على حد تعبيره، ولا نريد في هذه العجالة نقاش الجنرال الصهيونيّ منْ رفض منْ ولماذا. ولكننّا نذكر هذه الدراسة لنقول إنّ الدولة العبريّة تمّ زرعها في المنطقة من قبل الاستعمار البريطانيّ، وبعد ذلك تبنتها الولايات المتحدّة الأمريكيّة، وقدّمت، وما زالت تُقدّم لها، الدعم الاقتصاديّ والمعنويّ والإعلاميّ، والدعم في مجالات لا تُعد ولا تُحصى، حتى بات يُطلق على إسرائيل لقب الولاية الـ51 من أمريكا، ونورد قضيّة الدعم الاقتصاديّ لأنّ مشروع القانون الليبرمانيّ، الذي تمّ رفضه، كان يهدف للتحقيق في مصادر تمويل الجمعيات والمنظمات وكيفية صرفها، على الرغم من أنّ مُسجّل الجمعيات، يتلقى التقارير الكافية والوافية حول هذا الموضوع.

 

 وهنا لا بدّ من التساؤل وبصوتٍ عالٍ: هل يحق لنا المطالبة بمعرفة حجم الدعم الاقتصاديّ الذي تتلقاه إسرائيل سنويًا من دافع الضرائب الأمريكيّ؟ هل يحق لنا أنْ نعرف في ما إذا نصّت الاتفاقيّات الموقعّة بين الطرفين، أمريكا وإسرائيل، على السماح للأخيرة بالحصول على الأسلحة الفتاكّة والمُحرمّة دوليًا، واستعمالها ضدّ العرب، كما فعلت في حرب لبنان الثانية وفي الحرب العدوانيّة على غزة، عندما حوّلت المناطق اللبنانيّة والفلسطينيّة إلى حقول تجارب، واستعملت المدنيين من الطرفين كفئران تجارب للقنابل العنقوديّة، الأمريكيّة الصنع، المحظورة كليًا، وفق كل المعاهدات والمواثيق الدوليّة.

 

***

 

ومن أمريكا ننتقل إلى القارة العجوز: ففي العاشر من شهر أيلول (سبتمبر) من العام 1952 وقعّت الدولة العبريّة الفتيّة اتفاق لوكسمبورغ مع ألمانيا، والذي نصّ على قيام ألمانيا بدفع تعويضات لإسرائيل بسبب المحرقة (الهولوكوست)، التي نفذّها النازيون ضدّ اليهود وآخرين إبان الحرب العالميّة الثانيّة الغربيّة، وبموجب الاتفاق، الذي تمّ تعديله عام 1990 بعد توحيد ألمانيا الغربيّة مع الشرقيّة، حصلت إسرائيل على تعويضات ماليّة بقيمة 3 مليارات مارك ألمانيّ، وبموازاة ذلك، تعهدت ألمانيا بدفع مخصصات شهريّة للناجين من المحرقة، وهو الأمر الذي ما زال ساري المفعول حتى يومنا هذا. وفي تلك الأيام كانت إسرائيل تُصدرْ جوازات السفر كُتب عليها بالبنط العريض: يُسمح لحامله الدخول إلى أيّ دولة في العالم، سوى ألمانيا. مناحيم بيغن، الذي كان رئيسًا للمعارضة آنذاك، نظّم مظاهرة قال خلالها إنّ الحكومة التي تباشر بالمفاوضات مع القتلة، الذين أرادوا إبادة شعبنا هي حكومة حقد، وستثبت حكمها بواسطة الحربة والقنبلة، داعيًا الجماهير إلى عصيان مدنيّ لإسقاطها.

 

***

 

نحن إذ نُعلن تضامننا الكامل مع الناجين من براثن النازيّة، ونؤكد على أننّا فهمنا وذوتنا الكارثة التي حلّت باليهود وبشعوب أخرى، وندعم حقهم الطبيعيّ في الحصول على التعويضات من المجرمين، نرى من واجبنا الأخلاقيّ فقط أنْ نُعبر عن امتعاضنا واستيائنا الشديدين من التعاون الأمنيّ الخطير القائم حاليًا بين جلاد الأمس، ألمانيا، وبين الدولة التي استوعبت السواد الأعظم من الضحايا، هذا التعاون الذي سجّل الأسبوع الماضي تطورًا مثيرًا للغاية، عندما أعلنت برلين أنّها ستقوم بتزويد الدولة العبريّة بالغواصة السادسة من نوع (دولفين).

 

وكانت مجلة (دير شبيغل) الألمانيّة كشفت في عددها الصادر يوم (18.07.2011) النقاب عن أنّ الحكومة الألمانيّة خصصت 135 مليون يورو من ميزانية الدفاع الألمانيّة للعام القادم للمشاركة في تمويل بناء غواصة جديدة لصالح إسرائيل قادرة على حمل رؤوس نوويّة وتقليديّة، حيث تُقدّر تكلفة هذه الغواصة بحوالي 500 مليون يورو، وكانت الدولة العبريّة قد حصلت على الغواصتين الأولى والثانيّة مجانًا ضمن برنامج تعويض النازية في التسعينيات من القرن الماضي.

 

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: كيف تسمح ألمانيا لنفسها بتصنيع أسلحة دمار شامل؟ والسؤال الذي يليه: أين المنطق؟ أين الأخلاق؟ أنتم في ألمانيا، الذين قتلتم الملايين في الحرب العالميّة الثانيّة، تقومون بتزويد دولةٍ، إسرائيل، تعيش حالة حرب دائمة مع جيرانها، بأسلحة غير تقليديّة؟ كيف تُوافق إسرائيل على قبول الغواصات من الألمانيين، وهم الذين وصفهم بيغن، كما أسلفنا، بمبيدي الشعب اليهوديّ؟.

 

***

 

وأخيرًا: التحالف بين الضحيّة والجلاد يؤكد على أنّ المصالح المشتركة تُحوّل أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم، وأكثر من ذلك: عندما يقوم أحفاد النازيين بتصنيع أسلحة دمار شامل، وتزويده لدولٍ في الشرق الأوسط، فمنْ يضمن لنا، نحن سكّان هذه المنطقة، أنْ لا يعود التاريخ على نفسه، وتحل بنا كارثة جديدة؟ ألم تتعلموا، من تجارب الماضي غير البعيد؟ إلى أين وصلنا؟ ولكن الأهّم من ذلك إلى أين سنصل مع أوْ بدون أسلحة الدمار الشامل؟ أين "اليسار" الإسرائيليّ من هذه الصفقات؟ لماذا لا يُطالب بوقف هذه المهزلة؟ لماذا لا يُطلق حملةً عالميّة لتنقية المنطقة من أسلحة الدمار الشامل؟ لأنّه، كما قال شاعرنا العربيّ الكبير، محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيّدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تُسّمى فلسطين، صارت تُسّمى فلسطين.