خبر كتب ماهر رجا : من شرفة "الرئيس ...حيث كل شيء بانتظار أيلول..

الساعة 07:29 ص|30 يوليو 2011

 

كتب ماهر رجا : من شرفة "الرئيس ...حيث كل شيء بانتظار أيلول..

 

على مسافة، يجلس قادة السلطة الفلسطينية حول السيد محمود عباس، وينظرون إلى مشهد الثورات العربية ، ويرددون في أنفسهم، وأحيانا بأصوات عالية: النار تشتعل في المنطقة، فليكن، لحسن حظنا نحن بعيدون عنها.

يعتقد السيد محمود عباس وقيادة السلطة الفلسطينية أن فلسطين - الأحق بالنيران - ليست جزءاً من المشهد، بكلمة أدق ليست المقصودة بالنداء القرمزي، وليس لها دور على القائمة.. يفعلون ذلك على الرغم من أنهم يطلون من الشرفة على شعب ارتبط اسمه على مر التاريخ المعاصر باسم الثورة؛ صنع الثورات في أحلك اللحظات، ورفع أبراجها الفولاذية حيث لم تكن معه إلا الحجارة، وزلزل أركان العدو بل والمنطقة بأسرها. مع ذلك، هناك من يفكر من السهل التغلب على ذلك مطمئناً إلى أن إجراءات "السلام" الأمنية ، قد "نظفت الضفة " من فتائل الثورة وصواعقها بل وحتى من أشباحها.

في هذه اللحظة العربية التاريخية يليق الأسى بفلسطين. فسيدة القبضات المرفوعة، وأم الشهداء وفتاة الأسرى ، العنقاء التي لا تمل الانبعاث من الرماد، تبدو اليوم في أسوأ أحوالها. أسيرة، رهينة لحسابات سياسية وأفكار ترى أنها لم تعد قادرة على متابعة المسير أبعد من طاولات التفاوض، منفية في بلادها، منفية عن صفاتها، مسروقة من مجدها، تنظر إلى ثورات العرب وتقول في نفسها: أنا أعرف ما يجري هناك. ذلك اللهب بعض من دمي، وتلك الصيحات شذرات من صوتي، وهذه الزهور العنيدة التي تسمى الحرية لطالما نمت في حدائقي وغاباتي.

من نكد الدنيا أن فلسطين بكل قامتها، تم حشرها في كيس ورقي اسمه السلطة الفلسطينية، والأكثر نكداً أننا رضينا بذلك، فالعنوان الفلسطيني الكبير بات السلطة، والخطاب السياسي أيا كان مرسله يفرد متسعاً لاسم السلطة في كل عبارة، والحوار ثم المصالحة مادتهما السلطة، والحديث عن المستقبل يضع السلطة في العربة الأولى من القافلة، والجميع يشترك في المهرجان الكارثي.. مثقفو السلطة والاستبداد ينحسرون في العالم العربي، بينما مثقفو ونخب السلطة الفلسطينية يتكاثرون، فيقدمون في وصفها "مديح الظل العالي" ومنهم من يتجاهل ما يدور حوله من تنسيق مع الاحتلال أو صمت على اصطياد أنفاس الصباح في روح الشاب النابلسي أمام مسجده ، يخبئون كل الحقائق المنتنة حيث فلسطين أحق بالغضب، ويفضلون التوجه إلى خيام  الثورات العربية باحثين عن أمل هناك يفترض أن يكون هنا في فلسطين.

 تعقد الندوات التلفزيونية وجلسات الفكر والقراءات السياسية وتكال التصريحات من معقل "المؤسسة الوطنية للجنون" في رام الله حيث رفعنا الراية البيضاء وطوينا صفحة المقاومة، حتى كثقافة سياسية، واتجهنا إلى الاحتفال بحرائق الآخرين فهي أبعد عن الكابوس.. الكابوس في هذا العرف يجب ألا يكون فلسطينياً كما يبدو في موقف كاتب في وزارة الثقافة العتيدة امتدح من امتدح من الدكتاتوريات التي يهاجمها الآن!

ببساطة ، في دورة اللامعنى السياسي مرة أخرى،  تنجح زراعة الوهم، إذ كل شيء بانتظار موعد أيلول.. وهكذا  يتم تعليق اللوحة الفلسطينية الهائلة على مسمار موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة والاعتراف الدولي المنتظر بالدولة الفلسطينية.. فإن حدث ذلك  كما يعتقد السياسيون يمكنه أن يقنع الشعب الفلسطيني بدورة أخرى من أفعال اللاجدوى، وفرصة أخرى للخط السياسي الذي سيجتهد بلا شك كي يقدم أي نتيجة في أيلول بوصفها إنجازاً لا مجرد صيغة إسمية للفعل السياسي الغائب.

 كل شيء بانتظار أيلول.. هكذا يختصر الكفاح الفلسطيني،  ويختزل مفهوم "المقاومة الشعبية"، التي إن قامت فيجب أن تكون من أجل رفع الحجارة الإسرائيلية من طريق المفاوضات لا كخيار يقود إلى طريق آخر. وقد بالغت التنظيرات للفعل "البطولي" الدبلوماسي الذي سيهد حيل إسرائيل في أيلول ، ففي أيلول ستهطل أمطار السيادة الفلسطينية، وفي أيلول سنحصل على المفتاح الذكي الذي ينتصر على كل أقفال العملية السياسية، مع أن الإسرائيليين أنفسهم لا يتخوفون من حدث إعلان الدولة، بقدر ما يرهبهم وفق آخر التقارير، غضب فلسطيني شعبي يرجحون أن يندلع حين يتأكد لأهل الضفة الفلسطينية أن لا شيء قد تغير في واقع الاحتلال بعد الإعلان.

لا يعني ما سبق رفضاً لفكرة اعتراف أكثر من مئة وأكثر من عشرين دولة بالدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة عام 67. ليس مفهوماً بأي حال رفض ما يدعم حضور قضيتنا في العالم . لكن مهلاً، في الوضع الطبيعي ينبغي لهذا الموقف ألا يكون مذيلاً بعبارة "هذا أقصى ما لدينا"، ثم يكون علينا أن نتذكر أننا حصدنا اعترافات مماثلة قبل أكثر من عقدين من الزمن، لكننا بقينا في عام الدولة الافتراضي بعدها.

الكارثة المستمرة هو أن يحدث ذلك، فيما على الجانب الآخر تتواصل أشغال المنطق السياسي القائل إن مجرد التفكير باتجاهات أخرى ليس أكثر من نزعة رومانسية أو مزايدة مفضوحة. فكر للحظة باحتمال آخر ، بشهر آخر سوى أيلول وستسمع الاتهام: أنت ليس واسع الأفق كحال القيادة الفلسطينية المجربة وذات الرؤيا الواسعة التي تعرف كيف تنقل القضية إلى بر الأمان في الزمن الصعب. ها هي تدعو إلى مقاومة شعبية على لسان الرئيس، على أن تكون مقاومة "مضبوطة". أما الأصوات الأخرى على فتريد تدمير البلاد والعباد، ولو فعلت القيادة ما تدعونا إليه لحل الدمار، وعليك أن تتذكر مغامرة عرفات التي أدت إلى اجتياح شارون للضفة وتدمير "انجازاتنا"... وإذ يرد اسم الرجل، تعتذر له من قلبك وتتذكر بيت الشعر  القديم عن بكاء الأعرابي على قافلة أتعبته، بعد أن وجد نفسه في قافلة أضاعته.

**

في اليومي من الأحاديث، ما يبسط المسألة: فكثيراً ما تساءل مروجو ما بعد الحداثة السياسية على الطريقة الفلسطينية:  ما المطلوب من الرئيس؟ إنه مرتبط باتفاقيات لكنه يسير في طرق ملغمة وبذكاء سياسي يمر وسط الألغام المتوفزة في الطريق إلى الدولة، إنه يلتزم بتلك الاتفاقيات لكنه لا يعلن كل ما يضمر...

تسأل عن المقاومة . هل باتت خراباً للبلاد كما قال الباب العالي؟ فتنهمر التبريرات عن الحذاقة السياسية واختيار وسائل الكفاح في اللحظة المناسبة، ثم يقال لك : لكن أخبرنا من يقاوم الآن؟

تحاول أن توضح الفكرة فتؤكد أنك لا تتحدث عن بلاغة اختيار اللحظة. نعم يمكن أن تصمت البنادق حين تكون المواجهة مستحيلة، لكنها لا تخرس إلى الأبد، أو لا تترافق بثقافة سياسية تعتبر أننا وصلنا إلى الخاتمة. كل هذا المشهد السياسي الذي يجري هو حرب على الفكرة لا على طريقة وزمن استخدامها وتوقيت استخدامها، وذلك يؤسس منذ سنوات لثقافة سياسية فلسطينية جديدة تهدد وعي الجيل وتبقي المقاومة المسلحة، أو حتى فكرتها- خارج الاحتفال...

يقول محدثي لي أن أطمئن، ويحدثني عن الفلسطيني الجديد.. عن الدولة والعمران والاستقرار الذي حققه رئيس الحكومة.. عن استقرار ومقاه وفنادق تتلألأ بالنجوم الخمس، فأتساءل في نفسي وقد مللت النقاش: إذا كان لي أن أطمئن فلماذا تبنى البلاد على هيئة مسالمة وباذخة على خط النار؟! أم أنه لم يعد خطاً للنار حقاً، وانتهت الحروب في عرف البنائين...!

 

تظهر فلسطين اليوم على هذه الصورة، بلاداً خارج ميدان الغضب، خارج ميدان الانتفاضة، بلا ميدان للتحرير، بانتظار السياسي الذي استنفد كل فرصه وبانتظار عربات المستقبل القادمة من الرباعية أو الجمعية العمومية أو الاتحاد الأوربي، وفي المحطة الوحيدة المتبقية، ينشغل الحكوميون الفلسطينيون بتأخر مساعدات الدول المانحة وكيف أن السلطة تتحول فجأة من هيبة وعلم وتصريحات إلى شركة صغيرة مفلسة في لحظات لأن أموال الجمارك تأخرت أو لأن أموال أوروبا تنتظر بوادر قرارات سياسية فلسطينية غير خطيرة وكذلك إزاحة الظلال المزعجة من غرفة المصالحة الفلسطينية.

في فلسطين تغلق أبواب الثورة أمام فلسطين. هناك من يحتال عليها ويخاف من غضبها في آن معاً ؛ لا تغضبوا الآن فنحن ذاهبون إلى أيلول. وإذ يصل إلى هناك، سيكون خائفاً من النتيجة أيضاً، بحيث لو فشل مسعى الاعتراف بالدولة، سيكون احتمال الانتفاضة قائماً وراجحاً.. لكن ذلك بطبيعة الحال لن يمنع "القادة" عن استخدام الخطاب القديم: الحديث عن متعة القيد الذي يحفظ نعمة الاستقرار في مدن آمنة وإن كانت مسورة بالاحتلال، والمطالعات البائسة عن الاستقلال والانجازات الوطنية التي تحمل في عمقها محاولة لإقناع الناس بأن مكونات الحرية هي السلطة والوزارة والحرس الرسمي وتحقيق الصلح الفلسطيني تحت هذه القباب، وأن لا فرق بين رواية الضحية وأسطورة القاتل، وان شجرة الزيتون يمكنها أن تعتاد النمو ما بين الأسلاك الشائكة وفوهة مدفع الدبابة، وأن عنب الخليل يمكن أن يستأنس جدران المستوطنات، وأن بوسع حمائم القدس أن تعشش في خوذات الجنود.

في هذه الصورة الملفقة، هكذا وببساطة ، يعتبر محمود عباس أنه ليس كسواه من النظائر العربية  لأنه رئيس سلطة مازالت تحت الاحتلال، وعلى الشعب أن يعطيه فرصة "المغامرة" لاستعادة الحرية، وبعدها يمكن ان يكون رئيساً عادياً يتوقع اندلاع انتفاضات شعبية على عرشه... ما من رئيس حقيقي إذاً وما من عرش حقيقي وما من وطن حقيقي، فالسيد "الرئيس" ومسؤولو السلطة ومن هم حولها، موجودون بقوة المجاز فقط ، وسر بقائهم أن إسرائيل لا تخشى وجود فلسطين حين تكون بلغة المجاز.

المجاز أيضاً في التوقيت السياسي "المجازي" القادم في أيلول.. هناك من يضعنا في الافتراض . في افتراض الدولة أو افتراض صورة الدولة التي تتحقق في مشهد أيد دولية ترتفع لتوافق على الإعلان في الجمعية العامة.. هنا يبدأ زمننا وهنا يحمل الرئيس فرصة بقائه، ومن هنا يستمر الخداع ويستمر إيجاد غطاء آخر باسم الدولة الشبح.

على مسافة من الثورات العربية يجلس محمود عباس في الشرفة.. ينظر إلى دخان الحدث ويتوهم أنه خارج اللائحة.