خبر خيار سبتمبر بين الوهم والحقيقة ..أحمد بحر

الساعة 04:22 م|21 يوليو 2011

خيار سبتمبر بين الوهم والحقيقة ..أحمد بحر

لا يختلف اثنان على أحقية الفلسطينيين في بناء وتدشين دولة تليق بتضحياتهم وعطاءاتهم، وتؤسس لعهد جديد يتنسم فيه الشعب الفلسطيني عبير الحرية إثر عقود من الألم والمعاناة التي تركت آثارها القاسية داخل كل بيت وأسرة فلسطينية.

 

تحقيق الدولة حلم فلسطيني لا يماري في ضرورة نيله وإنجازه إلا عدو مستبد، أو متواطئ خبيث، ولا تكاد تجد فلسطينيا تشرّب حب الوطن، ورضع لبان الثورة، يعارض أي توجه أو مسعى نحو إنجاز الدولة الفلسطينية وتجسيدها عمليا على أرض الواقع.

 

لكن موضوعة الدولة يجب ألا تطرح جزافا بعيدا عن المضامين والتفاصيل، إذ إن هناك الكثير من الاستفسارات حول طبيعة الدولة التي يمكن تحصيلها عبر المؤسسات الدولية وماهيتها، ومدى السيادة التي تملكها على أرضها، وطبيعة القيود والالتزامات المفروضة عليها، وطبيعة علاقاتها بالاحتلال الإسرائيلي، وغير ذلك من تساؤلات قد تفضي إلى تحديد وجهة الدولة المنوي تحصيلها، لجهة كونها دولة حقيقية ذات مقومات حقيقية أو دولة شكلية لا أكثر.

 

 

ولعل في تجاربنا السابقة مع الاحتلال والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي بدرجة ثانية، الذين يهيمنون على مفردات وآليات صناعة القرار الدولي الخاص بالقضية الفلسطينية، ما يشير إلى حجم الصعوبات والتعقيدات التي واجهت -ولا تزال- السلطة الفلسطينية، وجعلت منها كيانا هشا ضعيفا لا قرار له، وتخضع اتجاهات سياسته لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية.

 

وبين يدي نية السيد محمود عباس والسلطة الفلسطينية التوجه المعلن حتى اللحظة إلى الأمم المتحدة لتحصيل الدولة، نضع بين يدي أبناء شعبنا وأمتنا مجموعة من المخاوف والمحاذير، حرصا على مشروعنا الوطني، وحاضر ومستقبل قضيتنا الفلسطينية.

 

أولا: إن اللجوء إلى الأمم المتحدة لطلب تحصيل عضوية كاملة لدولة فلسطين على حدود العام 67 يمنح إسرائيل صك شرعية مجانيا لاحتلالها لبقية الأراضي الفلسطينية.

 

وإذا ما أدركنا أن جهود التسوية الراهنة من لدن الطرف الفلسطيني تنافح من أجل تثبيت حدود عام 67 التي تمثل 22% من مساحة فلسطين التاريخية كإطار مرجعي للمفاوضات بهدف إقامة الدولة عليها، فإننا وقتذاك ندرك أن الحصول على مسمى دولة في الأمم المتحدة، تحت أي صورة كانت، سوف يلغي -تلقائيا- 78% من مساحة فلسطين لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ويحرم الشعب الفلسطيني من أي مطالبة بها في المحافل الدولية، ووفقا للقانون الدولي إلى الأبد.

 

ثانيا: إن نجاح المسعى الفلسطيني الرسمي في أروقة مؤسسات الأمم المتحدة من شأنه أن يضر بحاضر ومستقبل القضية الفلسطينية قانونيا وواقعيا، ويضر بمستقبل التحرر الوطني للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وأن يقدم للاحتلال هدية مجانية لم يكن يتوقعها بأي حال، وأن يقدم اعترافا بيهودية الدولة الصهيونية، ويتنازل عن أراضينا المحتلة عام 48.

 

ومجرد حصول الفلسطينيين على لقب "دولة" سوف يعفي ذلك إسرائيل من كثير من القيود والالتزامات التي حكمتها حتى اللحظة، ويدفعها للتعاطي مع الواقع الفلسطيني الجديد -على شكليته- على أساس كونه دولة مقابلة، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة قد تلحق بالفلسطينيين، في سياق كثير من القضايا والممارسات ذات الاحتكاك الدائم، جراء السياسات والإجراءات الإسرائيلية التي ستتسلح هذه المرة بشرعية القرارات الدولية لمواجهة دولة أخرى.

 

وهذا ما سيضع الشعب الفلسطيني وسلطته الحاكمة في وضع بالغ الحرج يسيء تمام الإساءة إلى مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني التي قد تتعرض إلى هزة بالغة تفقدها شرعيتها ونبل مقاصدها من منظور القانون الدولي.

 

المشاكل والصعوبات والتعقيدات المترتبة على اكتساب السلطة الفلسطينية صفة "دولة" بالمعنى القانوني الدولي في الأمم المتحدة أكثر من أن تحصى، وبالنظر إلى ظروفنا الفلسطينية الصعبة على مختلف المستويات، فنحن في غنى كامل عن كل ما يجلب لنا المزيد من الارتكاس والانكفاء إلى الخلف، وأكثر ما نكون حاجة لإعادة صياغة مسيرة التحرر الوطني على أسس ومبادئ جديدة.

 

ثالثا: لم يصدر خيار التوجه إلى الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول عن إجماع وطني فلسطيني، ولم تتم استشارة أو طلب رأي فصائل العمل الوطني والإسلامي بشأنه، مما يجعله خيارا أحاديا قاصرا على حركة فتح فحسب، بل إن حركة فتح ليست على قلب رجل واحد إزاء تبني هذا الخيار والدفاع عنه، وتعتري صفوفها القيادية الكثير من الخلافات والرؤى المتضاربة.

 

لماذا لم يحاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس بلورة موقف وطني جمعي خلف هذا الخيار، وما الذي حال بينه وبين إنضاج الخيار على نار المشاورات الوطنية الهادئة؟

 

 

ما يدعو للأسف أن استنكاف عباس عن وضع الخيار في جعبة الكل الوطني الفلسطيني يخفي وراءه أجندة شخصية مكشوفة، فالرجل يسير وفق هواه الشخصي ومزاجه السياسي، ويبني جميع تحركاته على قاعدة الخروج من الأزمة الخانقة التي يعاني منها مشروعه السياسي القائم على إدامة المفاوضات أبد الدهر، والذي فشل بامتياز على مدار الأعوام الماضية، فضلا عن رغبته الجامحة في تبييض صفحته وسيرته الوطنية التي تأثرت كثيرا بفعل الانقسام الفلسطيني، وما رافقه من أحداث مؤلمة ووقائع مؤسفة تركت بالغ الأثر في عمق الوجدان الشعبي الفلسطيني.

 

لذا، فإن خيار سبتمبر/أيلول يشكل رافعة هامة لإنقاذ عباس من الورطات والأزمات التي تراكمت عليه طيلة المرحلة السابقة كما يتصور، وهذا ما يفسر إصراره على مواصلة التقدم نحو الأمم المتحدة رغم التهديدات الإسرائيلية والضغوط الأميركية التي قد تضعه أمام خيارات مريرة في نهاية المطاف، وربما تجبره على التراجع وابتلاع خياره على أرضية استئناف شكلي جديد لجولات المفاوضات.

 

رابعا: هذا الخيار يفتقر إلى الرؤية الثاقبة والدراسة المنهجية، إذ لا يجوز بأي شكل كان أن تخضع القضايا الوطنية الفلسطينية الكبرى لأحادية تفكير واجتهاد الزعيم أو القائد أو المسؤول وبطانته المقربة، بعيدا عن شرائح المجتمع ونخبه السياسية والفكرية والثقافية.

 

لم يحظ خيار التوجه إلى الأمم المتحدة لتحصيل عضوية الدولة الفلسطينية بأي دراسات وطنية فلسطينية معمقة، ولم يتم طرحه أو عرضه أو بحثه بشكل منهجي في أروقة صنع القرار الفلسطيني، وفي المحافل الوطنية الفلسطينية، بهدف صقله وترشيده وتحديد مضامينه بدقة، ودراسة البدائل والاحتمالات والتداعيات المترتبة عليه، ورسم رؤية واضحة لمسار التعاطي مع الخيار في ضوء المعطيات الفلسطينية الراهنة، وفي ضوء العلاقة المعروفة مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية والمحيط الخارجي بشكل عام.

 

ولعل حديث عضو المجلس الوطني الفلسطيني صائب عريقات عن معركة فلسطينية واستعدادات فلسطينية على مختلف المستويات تمهيدا لإنفاذ خيار سبتمبر يحوي كثيرا من اللغط والمغالطات التي تبتعد عن الحقائق القطعية التي لا يدركها أهل السياسة والعمل الوطني في فلسطين، بل أضحت مساحة مفهومة لدى كل أبناء شعبنا الفلسطيني الذين عركهم طول التجارب الماضية، وخبروا السياسة على أصولها، وبات خداعهم أو التدليس عليهم أمرا خارج السياق وحدود الواقع.

 

حتى اللحظة، لم تستقر قيادة السلطة، وعلى رأسها عباس، على صيغة النص الذي سيقدم إلى المنظمة الدولية في سبتمبر/أيلول لطلب عضوية الدولة، بل إنهم لم يحسموا خياراتهم باتجاه اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي أولا قبل التوجه إلى الأمم المتحدة، أو اختصار الطريق والتقدم بالطلب إلى الأمم المتحدة مباشرة بحكم انعدام أي فرصة فلسطينية في مجلس الأمن في ضوء الفيتو الأميركي الجاهز.

 

لا تدري السلطة وقيادتها من أمرها شيئا، وقرار اللجوء إلى الأمم المتحدة لا يجري التداول بشأنه إلا مع عدد محدود للغاية من المسؤولين الفلسطينيين المقربين من عباس، وهؤلاء لا يملكون من الأمر شيئا، فالقرار يبقى بيد عباس أولا وأخيرا.

 

من تجليات غياب الرؤية السلطوية أن السلطة لا تملك أي إجابة لما بعد سبتمبر/أيلول، ولا يتوافر لها أي تصور حول تداعيات اللجوء إلى الأمم المتحدة، وطبيعة رد الفعل الإسرائيلي على ذلك، سياسيا وميدانيا، مما يعني أن السلطة وعباس يقامرون بالمستقبل الفلسطيني، ويغامرون بزج الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية في أتون حالة ضبابية غير واضحة المعالم، وغير مدروسة المضامين والعواقب، وإجباره على القفز في بحر المجهول.

 

 

خامسا: هذا الخيار يتعاطى مع الشكليات والألقاب المجردة فحسب، ويتجاهل الأحداث والوقائع على الأرض، فما الفائدة التي سيجنيها الفلسطينيون من الحصول على لقب "دولة" دون أن يكون لها أي مقومات أو ركائز أو قواعد على أرض الواقع، ودون أن يكون لها أي صفة من صفات السيادة أو التأثير على المناطق التي تخضع نظريا لسيطرتها فيما تخضع عمليا لسيطرة وإرادة الاحتلال الإسرائيلي.

 

كيف يمكن الوثوق بمسعى إنجاز الدولة في حين لا يملك عباس نفسه حق التنقل بين مدينة وأخرى إلا بتصريح إسرائيلي، وفي الوقت الذي تستطيع فيه آليات الاحتلال استباحة أي مكان أو بقعة فلسطينية في دقائق معدودة، وتحيل النظام السياسي الفلسطيني القائم إلى أثر بعد عين.

 

سادسا: هذا الخيار يتجاهل الأولويات الفلسطينية الملحة، ويقصد إرباك الوضع الفلسطيني الداخلي، خصوصا في ظل توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية الداخلية في مايو/أيار الماضي.

 

فالكل الوطني الفلسطيني يعتقد بوجوب تأمين مسار المصالحة الوطنية كأولوية فلسطينية معتبرة، والعمل على تطبيق بنودها ونصوصها ومحاورها المختلفة، والدفع باتجاه نقلها بكل صدق وأمانة إلى بر الأمان، بهدف الخروج من الأزمة الفلسطينية الداخلية التي أورثت الشعب الفلسطيني الكثير من المصائب والويلات، والوقوف صفا واحدا أمام الغطرسة الإسرائيلية.

 

وغني عن القول أن الانخراط في مسار سبتمبر المتشعب، وما يترتب عليه من تداعيات، من شأنه أن يضرب أي فرصة لإنجاح مسار المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، رغم ما يمكن أن يقال في العثرات التي تعترض سبل المصالحة والعوائق التي تواجهها.

 

لذلك كله، يبدو خيار عباس بالتوجه إلى الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل خطوة غير واضحة الرؤى والمعالم، غير محسوبة العواقب والتكاليف.

 

ونرى فيها خلطا للأوراق، وقفزة في المجهول، وإرباكا للواقع الفلسطيني، وإساءة لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني، وتقديرا سيئا لطبيعة الظروف والأوضاع الداخلية والخارجية المؤثرة في القضية الفلسطينية، وارتهانا للأبعاد الشخصية الضارة في إدارة الصراع مع الاحتلال.

 

وتأسيسا على ذلك، لا مفر من بلورة إستراتيجية وطنية شاملة متفق عليها لرسم رؤية تفصيلية تشتمل على آليات دقيقة للخروج من الأزمة الفلسطينية الراهنة التي تعصف بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وتتضمن ملامح ومحددات وبدائل وطنية للتعامل مع المرحلة القادمة بعيدا عن الارتهان للأجندة الخارجية أو التأثر بالضغوط الدولية.