خبر قد يهون العمر إلا ساعة.. علي عقلة عرسان

الساعة 01:42 م|15 يوليو 2011

قد يهون العمر إلا ساعة.. علي عقلة عرسان

 

قد يهون العمر إلا ساعة     وتهون الأرض إلا موضعا

هذا قول يلخص بعض شأن نفس تنضح بالوجد ويسكنها الحنين وتتلق بالأمل، نفس تتمثل لها الحياة خلاصة تجربة ما، فيها مشاعر وعواطف وأحاسيس مكثفة في الوجدان، معززة الحضور في الذاكرة، وشديدة الوقع على كل ما يشكل كيان المرء.. ويرتبط ذلك أو يتوقف على ارتباط وثيق بأرض وبآخر في تلك الأرض شكَّل حضوره في لحظة ومكان منها خلاصة وجود.. فكيف يكون وضع الشخص والنفس إذا كان المكان وطناً والزمن عمراً كاملاً، والوجود هو الحياة بتمامها.!؟ لا شك في أن التأثر والتذكر والحنين والارتباط في مثل هذا الوضع سيكون أشد وأكبر وأوثق وأعمق من كل ما في العمر من لحظات ممتلئة جداً بما يسر أو يضر.

تصور أن يختطف منك شخص أو جماعة أو نظام أو قوة ما وطنك وعمرك وكل ما في الوطن والعمر من ساعات وأمكنة هي الحياة مكثفة في خلاصات "عاطفية ووطنية واجتماعية وإنسانية"، مشحونة ومتبلورة وشفافة ومضيئة.. فكيف يكون شأنك وموقفك ورد فعلك وأنت المستلب أو السَّلَب!؟ ومن يكون له الحق في فعل ذلك يا ترى أياً كانت مكانته وقوته وذرائعه وأسبابه؟! من تراه يملك أن ينتزع من شخص ما جوهر حياته ويبقيه هيكلاً منتصباً في الشمس والريح، يذوي ويسودّ ويتآكل حتى الموت، ثم يتجدد ليعانق الموت في كل لحظة يشعر فيه بالظلم والقهر والاستلاب.. من دون أن تكون له فرصة موت حاسم جازم نهائي ينهي آلامه وأحلامه دفعة واحدة، بلا نهوض من رماد وتجدد يجدد المعاناة وآلامها المرة، ويحفرها بسكين حادة في العصب والعظم على مدار الوقت.. حتى يأتي موت نهائي..؟!

صعب أن يُسرق منك الوطن، وصعب أن تقاتل لمجرد أن يكون لك وطن أو شيء وموقع في الوطن.. أو هدوء وأمن وراحة وأمل في أرض هي الوطن.. والأصعب من ذلك أن ترى من لا يقدر ولا يملك ولا يستحق يسلبك حقك وما تستحق، ويبيعك القيم والمعاني التي تعيش أدق تفاصيل انتهاكها من قبل أشخاص وقوى لا تدرك تلك القيم والمعاني ولا تقيم للإنسان الذي يتوق إليها ويعيش بها.. قدراً.

لقد اخترنا نحن البشر يوماً أن نترك الغابة والمشاعية والدموية والفردية المتورمة والشراسة المتوحشة والحرية الطبيعية.. لنعيش في المجتمع ثم في الدولة، متنازلين عن أشياء لنكسب أشياء، عبر عقد اجتماعي إنساني مرعي التنفيذ يوفر الأمن والحاجات الضرورية ويحمي الفرد ويرتقي بالمجموع ويحد من نفوذ القوة والتوحش، ورضينا بحرية وضعية، هي حرية مسؤولة ومحددة بحرية الآخر ومصلحة الوطن، ليسود نظام يوفر الأمن والاستقرار والمساواة والكرامة والاحترام.. وكوّنا جماعات رعوية وحضرية، قروية ومدينية، لترسخ المدنية والقيم والمعايير السليمة، وتسعى إلى حضارية متجددة الأطر والآفاق.. ولم نختر عبودية من أي نوع، ولا فوضى من أي طراز، ولا دموية تبيح الحياة حتى لمن يزعم أنه يميت ليحيي.. فبأي حق يأتي اليوم من يفرض علينا وباسمنا، استناداً إلى ادعائه حرصاً وعبقرية وتفوقاً وجدارة وثورية و"تقدمية أو رجعية"، وصفات يسبغها هو على نفسه، يرى أنها ترفع من شأنه وتؤمِّره وتضعه فوق الجميع بغير إرادة أكثرهم .." بأي حق يأتي ليسلبنا كل ما يشكل الوطن والمواطنة والأمن والاستقرار، أو ليهدد ذلك كله ويزعزع البلاد والأنفس والثقة والعلاقات الاجتماعية والوطنية الراسخة.. ويدخلنا في دوامات العنف والدم والجوع والخوف والقمع، ويجر علينا الخطر الخارجي والفتن الداخلية التي لا تبقي منا ومن وطننا ولا تذر، أو يجرنا إلى الطغيان والبهتان باسم المحافظة على الوطن والأمن والإنسان؟!

يعلن من يدعو إلى ذلك أو يتسبب به أو يحرض عليه أو يفعله بوصفه واجباً وتكليفاً.. يعلن أنه مدفوع إليه بالحرص على المصلحة العامة والمجتمع وحقوق المواطن والوطن والأمة، ورفع الظلم والقهر وتوفير الأمن والحرية والكرامة، والنهوض بالشعب والوطن.. إلخ، ويأخذ قراره ويسلك السلوك الذي يجعل ذلك القرار نافذاً أو في طريقه إلى النفاذ بمبادرة منه.. وهذا تجاوز على كل ما يخص سواه ممن هم شركاء في الوطن والمواطنة والاختيار والقرار.. فإذا كان من يقوم بذلك، أياً كان، يزعم أنه يهدم ليبني، أو يحافظ على البناء من الهدم.. ويريد أن يصلح أو يغير جزئياً أو كلياً من أجل الجميع ضمن أصول العقد الاجتماعي في معطياته الأولية.. فإنه يجانب الصواب، لأن الواجب يفرض عليه أن يطرح ما يرى ويريد على المعنيين بالوطن والمواطنة والاختيار والقرار، وأن يحتكم للحكمة والمنطق والقانون والأكثرية التي يعنيها كل شيء وينعكس عليها كل فعل مهما كانت نتائجه.. وهذا ينطبق على السلطة والمعارضة، على الحاكم ومنتقد الحكم أو متهمه، وعلى المصلح والراغب في الإصلاح ومن يريد التغيير أياً كان مدى الإصلاح والتغيير.

الدموية والفوضوية مرفوضتان مدانتان لأنهما عمياوان وتكلفان المواطنين فوق ما يطيقون، وتضعفان الوطن كله وتفتحان على الجميع أبواباً يصعب غلقها، وتسلبان الأبرياء في أكثر الأحيان حياتهم أو راحتهم وأمنهم واستقرارهم ومقومات عيشهم.. بينما يفلت كثيرون ممن يثيرون العنف والفوضى أو يردون عليهما ويدخلون ساحتهما للقضاء عليهما، يفلت كثيرون منهم من المعاناة والعقاب على ما فعلوه، ويتذرع كل منهم بالحق والحرية والعدالة والوطنية والحرص على القيم والمصالح العليا.. بينما يتضارب الداخلون في معمعانهما بسيف الشعب والوطن، وصولاً إلى ما يرونه " الإصلاح والتغيير"، مهما كانت الرؤية ونقيضها ومهما كلفتا.. والنتيجة تكون في الأغلب الأعم تفجيراً وتدميراً وتقتيلاً وقمعاً وعنفاً وفوضى.. وما يؤدي إلى التفجير والموت والتدمير لا يؤدي بالضرورة إلى التغيير المحيي البناء.. وقد لا يصلح ويبني بمقدار ما يخرب ويدمر.. ويؤدي حتماً إلى النيل من الوطن والمواطنين، لا سيما من أولئك الذين يصمتون ويراقبون ويتألمون ويكتوون بالنار ويشتكون ولا تسمع شكواهم ولا تُحترم إرادتهم.. إنهم يريدون الوصول إلى العدالة والحرية والكرامة والعيش الآمن والاستقرار وقوة الوطن ورفعته، ويرفعون أمام من يرى ويتبصر راية الاحتكام إلى المنطق والحكمة والقانون والمصلحة العامة وإرادة الشعب، ويهمهم ألا يهون الدم وألا تهون حياة الإنسان، ويحجمون عن الدخول في صراع "ديَكَة" على السلطة، صراع يلبس لبوس المصالح الوطنية والاجتماعية ولا يضعهما على رأس الأولويات، ويهتم بذرائع تعري وتفضح أكثر مما تغطي وتستر.. إن أولئك المحجمين المكتوين بالنار لا يريدون أن يزيدوا طين الفتنة بِلَّة بالدخول على خطها الواضح ومعتركها الفاضح.. ولسان حالهم يقول ببساطة وفصاحة: ".. إن المصالح الوطنية والاجتماعية العليا واضحة لمن يريد أن يختارها ويقصدها ويخدمها بإخلاص وحرص وحسن نية، وينبغي أن يحكم المتسابقين إلى أدائها حكمُ العقل ورأي الشعب، يتبصرون في مقومات الاقتدار والأهلية العلمية والمعرفية والأخلاقية للقيام بالمهام، ويعلون حكم القانون ومصالح الخلق، وقبول الناس أولاً وأخيراً بمن يسوسهم بالعدل والاحترام والحنكة والحكمة حاكماً محكوماً بالشرع والقانون والضمير وإرادة الشعب الذي كلفه وائتمنه.. الشعب صاحب المصلحة ومصدر السلطات ومن يمنح ويمنع ويكلف بالمهام ويعفي منها ويراقب ويحاسب وفق أصول متفق عليها..

 لا يشعل النار ويلقي الناس فيها من يحرص عليهم، بل يشعلها ويذكيها ويخوض فيها من يعنيه أن يحرق الآخرين تحقيقاً لقهر أو وصولاً لثأر أو لشهوة تسلط ومصالح ضيقة.. ومن يفعل ذلك يوظف القوة ويختار أن يميت ليصل إلى موقع أو ليحافظ على موقع.. فيه مكسب ومغنم وإشباع شهوة وتحقيق نفوذ وهيمنة وإرواء كِبْر.. إن من يقدم على الخدمة العامة إرضاء لله وإعمالاً للعقل ومراعاة لحيوية الضمير والمهنية المطلوبة.. يخشى الله وحساب الضمير ومنطق العقل وحكم الشعب، ويراعي مصلحة الناس والوطن فيما يقوم به أو يقدم على القيام به من أفعال وما يدلي به من أقوال وما يرسمه من خطط.. وقد يبتعد كثيرون عن سلطة وحكم وموقع ومنصب خشية ألا يقوموا بأعبائه على وجه مرضٍٍ، حيث ينظرون إلى حقيقة أن تلك أمانة يؤديها المرء بحنكة وحكمة ومهارة ويحاسَب على أدائه أياً كان، وأن ضرر ما يقوم به أو نفعه لا يرتد عليه وحده بل على الناس كافة في الوطن كله.. وهناك من الأشخاص من يدقق ويمحص ليتبين الواحد منهم هل هو على درجة من الأهلية والمعرفة والاقتدار تكفي للنهوض بالمهام التي يتطلع إليها أو تلك التي تسند إليه، مما يحاسب عليه الله والشعب والقانون؟! وهناك من يبتعد أكثر مما يقترب من ذلك حين يتبين حدود وأبعاد ما يتطلع إلى القيام به أو الإقدام على ذلك، لأنه إنما يندفع إلى القيام بمهمة وطنية واجتماعية وإنسانية وأخلاقية وليس إلى نيل مكسب ومنصب وإشباع غرور..

الناس معادن، والأحكام حكم، والخيارات منابر تشرق أو مقابر تُظلِم.. ولله في خلقه شؤون.

ليس مستغرباً في أوقات الاضطراب والعنف والفوضى أن تغيب الحكمة أو أن تغيب، ولا أن يهتز المستقر القائم على ركائز وطنية وقومية وعقلانية ثابتة، ولا أن تتداخل مفاهيم، وأن ينال قوي أو مستقو بالآخر الغريب أو متصيد للظروف والمناسبات والأزمات من الأمة ذاتها ويدس سمومه في عروق أبنائها.. وليس مستغرباً أن تنشط جهات وأجهزة معادية ومن يرتبط بها، ولا أن نشهد ما لا يصدق من تحركات وتصرفات وممارسات، ونثر ورود على القتلة وأعداء الشعوب ومن لا يضمرون لأمتنا وديننا سوى الشر وهم أعداؤنا التاريخيين.. ولا ما نرى ويدمي قلوبنا من تقاتل وتنافر وتدابر واستباحة لكثير مما لا تليق بالحريصين والمخلصين استباحته من أفعال وأقوال وحرمات ومحرمات ودماء وقيم، حيث يتم  كل ذلك على حساب الوطن والمواطن وأمن الشعب وراحة البسطاء والأبرياء.. ليس مستغرباً أن يطفو على سطح الأحداث في فترات الهياج الجماعي تلك أشدها وقعاً وإيلاماً للأنفس وأكثرها بعداً عن الحقيقة وإضراراً بالعلاقات.. فتصنيع الأحداث أو تضخيمها بعض أدوات تلك الاشتباكات والتحركات وبعض أسلحتها، والشائعات والادعاءات والأكاذيب المصنعة جيداً تحتل مكانة متقدمة في التوجه والتوجيه والفتك والقتل في تلك الظروف، وتحتل عناوين رئيسة في الصفحات الأولى لإعلام ينتفخ وينفخ كثيراً على حساب الموضوعية والحقيقة والسلامة العامة في مثل هذه الأحداث والأوقات.. وليس من المستغرب أن يركب موجة الحركات الشعبية الثورية أدعياء ومن هم أكثر من غيرهم انفعالاً وهياجاً وغوغائية أحياناً، ولا أن يتفاقم القمع والظلم والقهر والطغيان.. فذلك كما يبدو من طبائع الأمور في مثل تلك الأحداث والحالات والمواقف.. وكل ذلك فتاك قتال يحرق أعماقنا.. ولكن المستغرب المستهجن الممجوج أن ندعى إلى التعقل والحكمة في خضم نزيف الجراح ولا نستجيب لداعيها، وأن نستمر في المكر، وأن نقدم لأعدائنا التاريخيين كل ما يقويهم ويضعفنا، في الوقت الذي يحمل فيه بعضنا بعضاً مسؤولية ذلك الذي نقوم به عن قصد ووعي أو من دون قصد ووعي، وألا نرعوي أو نتقي الله في أرواح الناس وأرزاقهم وفي مصالح البلاد والعباد.

المؤسف أننا في أوقات الفوضى والعنف والاندفاعات الجماعية الانفعالية والتدابير القمعية ندفن خير ما في الإنسان وما يحفل به المكان، وننسى طيبات الذكر، وتذوي فينا خمائل الذاكرة.. فيا للإنسان من مخلوق جبار ومكابر مهتار.. ويا له من كائن رقيق يلخص الجمال والمتعة و ربما العمر بالقول:

قد يهون العمر إلا ساعة     وتهون الأرض إلا موضعا