خبر الفلسطينيون والسلطة والعقدة الأمنية ..د. ناجي صادق شراب

الساعة 07:08 ص|11 يوليو 2011

الفلسطينيون والسلطة والعقدة الأمنية  ..د. ناجي صادق شراب

السلطة ليست هي القوة وإن اعتمدت عليها كإحدى أدواتها، والقوة تفقد شرعيتها إن لم ترتبط بسلطة مقبولة. والسلطة ليست مجرد نظام حكم، السلطة ظاهرة كلية شمولية، وتتعلق بكل مظاهر الحياة اليومية لمواطنيها، وتتسم السلطة بمظاهر عامة: السلطة ظاهرة كلية شاملة، ولا يمكن تجزئتها، ومطلقة، ولا تعلوها سلطة أخرى، وهذا يعني أن كل سلطة تتوفر فيها هذه الصفات تحمل صفة السلطة، أما إذا فقدت إحداها تفقد صفة السلطة الكلية والشاملة، وقد تكون سلطة ناقصة أو جزئية، وهذا الوصف الأخير ينطبق على السلطة الفلسطينية.

 

وفي البداية يجب التأكيد على أن السلطة ليست هي القوة المسلحة، وليست حالة فرض أمر واقع على الأرض، فالقوة هي ممارسة لأساليب الإكراه والقسر المادية بشكلها المطلق من دون قبول وشرعية، أما السلطة فهي ممارسة للقوة بطريقة شرعية ومقرة ومعترف بها من قبل المحكومين لأن السلطة من اختيارهم، أو بمعنى آخر إن الشعب هو مصدر السلطة، وهو من يحدد من يمارسها. أما القوة فقد تفرض عليهم، ولذلك فإن المشكلة التي تواجه من يحكم، هي في كيفية تحويل القوة إلى سلطة؟ فالسلطة توجد عندما يعترف المحكومون بحق الحكام في إصدار الأوامر والقرارات. والسلطة قوة شرعية، أما القوة القسرية فغير مستقرة، وغير ثابتة ومؤقتة ما لم تكتسب السلطة، ولذا يقال دائماً إن الذين يعيشون بالسيف سيموتون به. وحتى تكون السلطة شرعية ينبغي أن تحظى بقبول المحكومين، وأن تستند في سلطتها إلى أسس شرعية يقرها ويقبل بها الجميع، وأسس الشرعية التي تستند إليها السلطة كما حددها ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني والتي حددها بالشرعية التقليدية التي تستند إلى التقاليد أو الدين، والشرعية الكارزمية التي تقوم على السمات المتفردة التي يتمتع بها الحاكم، ولم يعد لها وجود في حد ذاتها في ظل الشرعية الثالثة وهي الشرعية العقلانية التي تستند إلى الأداء والقدرة، وآليات الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات الدورية. هذه الأسس قد يطغى أحدها على الآخر حسب درجة تطور النظم السياسية.

 

وفي بلادنا ما زالت الشرعية التقليدية والشخصانية هي الطاغية، وهو ما يفسر حالة عدم الاستقرار والفوضى والصراع على السلطة. وفي هذا الإطار يسعى الأفراد إلى الاستحواذ على القوة ليمارسوا سلطتهم اعتقاداً منهم بأن احتكار وسائل القسر المادية يوفر لهم الذريعة للحفاظ على السلطة بصرف النظر عن قبول المحكومين أو رفضهم. ويثير السعي للاستحواذ على القوة المادية قضية جدلية في فهم سياسات العديد من الدول، وقد يقدم النموذج الفلسطيني حالة خاصة غير مسبوقة في كل حركات التحرر الوطني. فالأساس في العلاقة تبعية السلطة الأمنية والعسكرية للسلطة المدنية وليس العكس. فتبعية السلطة المدنية للعسكرية مظهر من مظاهر التخلف السياسي واللاديمقراطية، والعجز عن الممارسة الديمقراطية، وهو الذي يقف وراء العديد من الانقلابات العسكرية التي قد تحسم السلطة إما لحزب أو للعسكر أنفسهم. ويترتب على انتشار هذه الظاهرة الخطيرة، أولاً ضعف السلطة المدنية وغياب أي دور للمواطن، وثانياً هيمنة العسكر والأمن على السلطة، والتحكم في مساراتها، وهذه الحالة تنطبق على النموذج الفلسطيني أيضاً قبل الانقسام وبعده. زد على ذلك أن مؤسسات السلطة السياسية والأمنية خضعت للسيطرة والهيمنة الحزبية والتنظيمية الضيقة، وتحت مبرر الاحتلال "الإسرائيلي" تمسك كل تنظيم ببناء قدراته وأذرعه الأمنية والعسكرية التي باتت موازية للمؤسسة الأمنية، بل إن العلاقة بين المؤسستين عملت لصالح القوى والتنظيمات التي استغلت سيطرتها على السلطة واحتكارها لبناء مؤسسة أمنية تنظيمية أكثر منها وطنية أو مهنية، ولذا كان التداخل غير المتكافئ بين القوتين. وعليه اعتمدت هذه القوى على قدراتها العسكرية في الاستحواذ على السلطة والاستمرار فيها، بغض النظر عن طريقة آلية الانتخابات التي أوصلت الجميع إلى السلطة، فكأن الانتخابات لها وظيفة واحدة وهي الوصول إلى السلطة ثم بعد ذلك تأتي السيطرة على المؤسسة الأمنية لتحقق وظيفتين: الأولى دعم التنظيم في السلطة والحكم، وثانياً ضمان استمرار الحكم والاستحواذ على السلطة في حالة تم فقدان السلطة عبر انتخابات أخرى. ولهذا السبب تخضع المؤسسة الأمنية والعسكرية للاعتبارات الحزبية في التكوين والتعيين، والتمسك بالمناصب القيادية العليا.

 

هذه الحالة هي ما مرت بها المؤسسة الأمنية سواء في عهد حركة فتح وتشكيلها للسلطة في بدايتها أو بعد سيطرة حماس على غزة وتشكيلها المؤسسة الأمنية الجديدة على المعايير السابقة نفسها، وهكذا صارت للفلسطينيين سلطتان ومؤسستان أمنيتان. وقد يكون من السهل توحيد السلطة السياسية عبر انتخابات جديدة، لكن ليس من السهل توحيد المؤسستين الأمنيتين حتى مع توحد السلطة السياسية، وهنا تكمن العقدة الأمنية، أولاً في تكوينها وتركيبتها، وثانياً في المرجعية السياسية والأيديولوجية التي تستند إليها، وثالثاً في وظيفتها المتمثلة في الحفاظ على السلطة السياسية خارج موضوع الانتخابات والسلطة. هذه القضايا في حاجة إلى فك وتفكيك، ثم إلى إعادة بناء وتأهيل، وهي عملية لا بد أن تستغرق وقتاً طويلاً. وحل هذه العقدة يمكن أن يتم أولاً من خلال إقرار عدد من المبادئ أولها وأهمها توحيد السلطة السياسية عبر الانتخابات ومن ثم الحاجة إلى تجديد الشرعية السياسية، والتسليم بنتيجة الانتخابات أياً كانت، ثم تأتي المرحلة اللاحقة وهي إعادة تصحيح العلاقة بين السلطتين المدنية والعسكرية بخضوع الأخيرة للأولى، ثم تتم إعادة الهيكلة والتكوين على أسس موضوعية من الكفاءة والأداء والقدرة، ثم المرحلة الرابعة بإعادة التأهيل السياسي والأيديولوجي للمؤسسة الأمنية على أساس من الانتماء الوطني، والمرحلة الخامسة التي قد تكون هي الأساس في تحديد وظائف المؤسسة الأمنية.

 

وهناك مرحلة تحديد العلاقة بين المؤسسة الأمنية والتنظيمات العسكرية لكافة القوى الفلسطينية بخضوع الثانية للأولى في كل ما يتعلق بقيام المؤسسة الأمنية بوظائفها الوطنية.

 

كل هذه المؤسسات مرجعيتها المصلحة الوطنية والمرجعية السياسية الشرعية. وقد تبقى هناك معضلة أمنية، وهي المتعلقة بما يسمى التنسيق الأمني، الذي يحتاج إلى إعادة صياغة، ومراعاة خصوصية الحالة الأمنية مثلاً في الضفة على ألا يتعارض الأمر مع المصلحة الوطنية، وكل هذا لا شك سينتهي مع قيام الدولة، التي مع قيامها سنحتاج من جديد إلى إعادة صياغة وهيكلة تتم بالتدرج منذ الآن. وإذا ما فشلنا في بناء هذه المؤسسة الأمنية وفق هذه الأسس فسيكون من الصعب بناء مؤسسات دولة، أو مؤسسات وطنية، وستظل حالة الانقسام قائمة ولو بصورة جديدة.

 

أكاديمي عربي