خبر الانقسام الفلسطيني بين التوافق والاتفاق .. علي جرادات

الساعة 10:53 ص|03 يوليو 2011

مثلت الانتفاضة الفلسطينية الشعبية (1987-1993)، قفزة نوعية في مسيرة النضال الوطني المعاصر، وأحدثت بمفاجآتها غير المألوفة تأثيرات انعطافية، حيث ثلمت بطابعها الشعبي الواسع والمتواصل نصل القوة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية”، وتفوقت عليها سياسياً وأخلاقياً، وكان يمكن لحصادها السياسي أن يكون أعلى بكثير مما أحرزته، لكن تسرع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في استثمارها، (فضلاً عن عوامل أخرى لا مجال للخوض فيها)، حال دون تحقيقها شعارها السياسي الناظم، (الحرية والاستقلال)، الذي جرى اختزاله في سلطة محدودة للإدارة الذاتية لشؤون فلسطينيي الضفة وغزة، مقابل التزامات سياسية وأمنية واقتصادية ثقيلة، حالت دون تطويرها عبر التفاوض الثنائي تحت الرعاية الأمريكية، إلى دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، ولو على حدود الرابع من يونيو/حزيران ،1967 كما برهنت، (خلافاً لرهان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية)، التجربة العملية على مدار 18 عاماً من التفاوض العبثي بعد تأسيس السلطة الفلسطينية ك”مرحلة انتقالية”، انتهى عمرها الزمني في أيار ،1999 وفقاً لاتفاق أوسلو .

وأكثر من ذلك، فقد أدى الاستثمار المتسرع للانتفاضة الشعبية، إلى تحويل أحد أهم إنجازاتها إلى معضلة فلسطينية داخلية، ففي معمعان تلك الانتفاضة شهد التنظيم الشعبي الفلسطيني المقاوم، السياسي منه والجماهيري، توسعاً كمياً ونوعياً غير مسبوق، وكان تأسيس حركتي “حماس” و”الجهاد” التطور النوعي الأبرز في هذا التوسع، وهو ما كان يستدعي معالجة وطنية موضوعية مسؤولة، تفضي إلى انضمام هذين التنظيمين الجديدين إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الإطار الوطني الجامع والمُوحد لمكونات الشعب العربي الفلسطيني الذي يعيش مرحلة تحرر وطني، تتطلب توحيد جهوده ومقدراته في مواجهة الاحتلال، من خلال بناء مؤسسة فلسطينية وطنية موحدة جامعة، تأتلف فيها التعبيرات الفكرية والسياسية والمجتمعية كافة على برنامج الحد السياسي الوطني الأدنى المشترك . لكن المعالجات الذاتية التي خلطت بصورة متعمدة ومتبادلة بين السياسي و”السلطوي” من الخلاف بين قيادة منظمة التحرير وقيادتي التنظيمين الجديدين، قادت إلى نشوء الانقسام الفلسطيني الداخلي الأخطر الذي تحول إلى آلية جهنمية فتاكة، ولم تقوَ على درء مخاطره المعالجات الترقيعية التي، على تعدد مسميات محطاتها، ظلت محكومة إلى استبدال صيغة الاتفاق الائتلافي بين برامج مختلفة تتنافس ديمقراطياً داخل مؤسسة وطنية جامعة، بصيغة التوافق بين برامج متوازية، ما يضمر عدم توافر إرادة جادة لصياغة القواسم السياسية المشتركة في برنامج سياسي وطني موحد، يتمخض عن حوار وطني معمق ومراجعة سياسية شاملة لمسيرة عقدين من إدارة الصراع مع الاحتلال بالتفاوض الثنائي تحت الرعاية الأمريكية .

بهذا، وعليه، فقد ظلت معالجة أعقد وأخطر انقسام فلسطيني داخلي معاصر، معالجة قاصرة وعاجزة، وتدرجت منذ نشوء هذا الانقسام على النحو الآتي:

1: المعالجة بالتنسيق مع احتكاكات متقطعة بين برنامجين متوازيين يقودان عربة الانتفاضة الشعبية، (1987-1993)، وذلك عبر تنسيق جدولة فعالياتها في بيانين منفصلين، أحدهما تصدره “القيادة الوطنية الموحدة”، ذراع منظمة التحرير الفلسطينية في الوطن المحتل، وآخر تصدره حركة “حماس”، فيما دأبت حركة “الجهاد” على إصدار بياناتها الخاصة بها أيضاً .

2: المعالجة بالضبط “السلطوي” للاحتكاكات التي كانت تتفجر تارة وتخبو تارة أخرى، وذلك منذ نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية وحتى اندلاع “انتفاضة الأقصى” في سبتمبر/أيلول 2000 .

3: المعالجة بالتوحد الميداني في فعاليات “انتفاضة الأقصى”، إنما من دون الاتفاق على الشعارات وبرنامج الحد الأدنى السياسي لها، أي مواصلة تغذيتها ببرامج سياسية متوازية .

4: المعالجة بالتوافق في إعلان القاهرة 2005 على “التهدئة” مع الاحتلال، وعلى إجراء انتخابات للمجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، وللمجالس المحلية والبلدية في الضفة وغزة، وعلى تشكيل إطار قيادي مؤقت من أعضاء اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني لمنظمة التحرير والأمناء العامين للفصائل، إنما من دون الاتفاق على البرنامج السياسي، ما قاد إلى انفجار هذا التوافق بعد انتخابات “التشريعي” وفوز “حماس” فيها، حيث تطورت الاحتكاكات المضبوطة إلى احتراب دموي مسلح، فاقمه حسم “حماس” السياسي ل”السلطة” في غزة بوسائل عسكرية في يونيو/حزيران ،2007 ما قاد إلى إدارة الشأن الفلسطيني، خارجياً وداخلياً، ب”سلطتين” منفصلتين وبرنامجين متوازيين، وتلقائياً، إلى إطلاق يدِ كل من الطرفين لتحقيق برنامجه الخاص، بعد تحرره من قيود الشراكة الوطنية المطلوبة موضوعياً . وبهذا، توافرت، (بصرف النظر عن النوايا)، تربة خصبة للاستثمار الخارجي، وخاصة استثمار العدو “الإسرائيلي” الذي لا ينتهج تسعير التصدعات الفلسطينية القائمة فقط، بل، ويبادر إلى خلقها بصورة واعية ومُخططة أيضاً .

5: المعالجة بالتوافق على إرجاء البرنامج السياسي في اتفاق المصالحة المبدئي بين حركتي “فتح” و”حماس” في أيار ،2011 ما جعل ضمان تنفيذه أمراً مشكوكاً فيه، ولو حتى لمرحلة انتقالية، تمهد لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة لمؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ولعل الخلاف الدائر على تشكيل حكومة انتقالية للسلطة، وعلى اختيار رئيسها تحديداً، برهان دامغ على عجز صيغة التوافق عن تلبية متطلبات توحيد الجهود والمقدرات الفلسطينية، وصبها في بوتقة المجابهة المفروضة مع الاحتلال، ومع أكثر حكوماته تطرفاً وصلفاً .

وهنا يثور السؤال: ترى لماذا، وإلى متى، يستمر اللجوء إلى التوافق بديلاً للاتفاق؟ أي تجريب المُجرب العاجز عن وضع حدٍ لأعقد وأخطر انقسام داخلي شهده الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني المعاصر، بكل ما ينطوي عليه من نتائج خطرة، بل قاتلة، على المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، الذي يقر الجميع بأن الحفاظ على منجزاته ومكتسباته، (فضلاً عن إحراز المزيد منها)، غير ممكن من دون توافر شرط وحدته الداخلية، وناظمها السياسي بخاصة، الذي لن يتحقق من دون إجراء مراجعة سياسية وطنية شاملة لمسيرة عقدين من التفاوض الثنائي العبثي مع العدو برعاية أمريكية.