خبر بطيخ جنين والخيانة الوطنية.. عبد الستار قاسم

الساعة 10:39 ص|01 يوليو 2011

أتابع جيدا على مدى سنوات طويلة السلوك الاستهلاكي في الأرض المحتلة/67، وشاركت مع العديد من الناس في حملات تشجيع المنتج المحلي، ومقاطعة المنتج الصهيوني بخاصة في انتفاضة عام 1987. وقد كان رأيي وما زال بأن الشعوب التي لا تعتمد على نفسها لن تشبع إلا ذلا وقهرا، وأن الشعب الذي يدعم اقتصاد عدوه لا يبحث عن الحرية والتحرر. وإذا كان الحرص على المنتج الوطني هام جدا في ظل الاستقلال والاستقرار، فإنه بأهمية مضاعفة عندما يقع الناس تحت الاحتلال لما فيه من إصرار على الاكتفاء الذاتي ما أمكن، ومن الإفلات من العقوبات التي يفرضها الاحتلال على الناس بسبب مقاومتهم له أو بسبب عدم تجاوبهم مع إجراءاته.

 

بطيخ جنين هو أحد الأمثلة على الخيبة التي أصابت شعب فلسطين، ليس بالضرورة بسبب مواقف شعبية واعية ومعلنة، وإنما بسبب قيادات سياسية واقتصادية فشلت في ترسيخ ثقافة وطنية، وبسبب مصالح مالية واقتصادية ووجهية لهذه القيادات. فمن المعروف أن سهول جنين تشكل سلة غذاء هامة جدا لفلسطين بخاصة من الخضروات، وهي ركيزة أساسية في سياسة الاكتفاء الذاتي فيما إذا تم تبنيها من قبل فصائل أو منظمة التحرير أو سلطة. وكانت هذه السهول مصدرا أساسيا لإنتاج البطيخ الذي كان يملأ أسواق الأرض المحتلة/67 وأسواق الأردن.

 

أتابع الوضع الزراعي في هذه السهول على مدى سنوات، ورأيت زراعة البطيخ تختفي تدريجيا رويدا رويدا، إلى أن عجزت عام 2010 عن رؤية دونم واحد مزروعا بطيخا. في هذا العام 2011، أرشدني أحدهم إلى مزرعة بطيخ في مرج ابن عامر، فقمت بزيارتها. وقد تعرفت على المزارع عبد الناصر أسعد سمار، وهو معتقل سابق، وعامل سابق في المنشآت الصهيونية. ذكر لي السيد عبد الناصر أن وزارة الزراعة الفلسطينية قررت تشجيع زراعة البطيخ، وقدمت لمن يرغب بالزراعة أشتالا جديدة مركبة على جذور اليقطين، وذلك بنصف التكاليف. وطبعا هذا شيء جيد، وضروري ومن المفروض أن يستمر. وقد رأيت الإنتاج، وهو إنتاج جيد اشتريت منه، وأعجب كل الذين تذوقوه. وقد وزنت إحدى الثمار واحدا وعشرين كغم، وهي تفوق في جودتها بطيخ الصهاينة، ويكفي أنك تشتمّ في جنباتها عبق جبين فلاح فلسطيني مكافح.

 

 

 

تذمر عبد الناصر من موت نسبة عالية من الأشتال، لكنه أبدى ارتياحه من حيث أنه من الممكن تحسين الأشتال مستقبلا. لكن المشكلة الكبيرة التي يواجهها هي منافسة البطيخ الصهيوني. السوق الفلسطينية مليئة بالبطيخ الصهيوني ومن نوعية غير ممتازة لأن التجار لا يأتون بالبطيخ من النخب الأول. وهذا معروف، إذ قضى البطيخ الصهيوني عبر السنوات على البطيخ الفلسطيني، وبالتالي قضى على المزارع الذي يحافظ على الأرض التي هي الوطن. السبب ليس الصهاينة وليس الاحتلال البغيض، وإنما المستهلك الفلسطيني الذي يشتري البضاعة الصهيونية، وضاربا القيم الوطنية بعرض الحائط لصالح القيم الاستهلاكية.

 

قال لي عبد الناصر إنه باع صندوق البطيخ الذي يزن حوالي 350 كغم ب 120 شيقلا، وهذا بالكاد يغطي التكاليف. وأضاف بأن مزارعا مجاورا له قد خسر لأن سعر البطيخ هابط جدا، وتوقع أن يتكبد خسائر هو الآخر.  وشرح لي بأن المزارعين توجهوا إلى السلطة لمساعدتهم في الحد من الاستيراد من الصهاينة، واجتمعوا بتجار البطيخ. وعدهم رجال السلطة بأن يعملوا على منع دخول البطيخ، لكنني أوضحت لعبد الناصر بأن هذا الوعد لن يُنفذ لأن صاحب القرار لا يستطيع أن يتخذ قرارا من هذا القبيل بسبب الاتفاقيات مع الصهاينة. قد يكون هناك وطنيون من بين الذين وعدوهم، لكن مشاعر الوطنية وحدها لا تكفي لاتخاذ قرار، وإنما يجب أن تتوفر الإرادة السياسية الحرة.

 

أما التجار فغضبوا عندما سمعوا مطالب المزارعين بوقف غزو البطيخ الصهيوني، وقالوا للمزارعين حرفيا: "إنتو بدكم اتخربوا بيتنا." وهنا المأساة الحقيقية: أين خراب البيت؟ هل هو بوقف الاستيراد من الصهاينة، أم دعم المزارع الفلسطيني؟ هل هي مصلحة التاجر، أم مصلحة الوطن التي تتطلب تقليص الاستيراد من الصهاينة بقدر الإمكان؟ وهل بإمكان التاجر أن يتاجر بالبطيخ الفلسطيني بدل الاتجار بالبطيخ الصهيوني؟

 

هذه أسئلة عمرها أكثرها من خمسة وثلاثين عاما. على مدى عشرات السنين وهناك محاولات لوقف شراء البضائع الصهيونية وتشجيع المنتوج الوطني، ولم تحصل إلا استجابة جزئية خلال انتفاضة عام 1987، وانتهت بالفشل. لقد شرح العديد من الناس بوسائل مختلفة للجمهور الفلسطيني مخاطر شراء البضائع الصهيونية وما في ذلك من دعم لاقتصاد العدو وتدمير لفكرة الاعتماد على الذات. لقد استمع الناس إلى محاضرات تثقيفية كثيرة، وندوات ودعوات، واستلموا بيانات وكتيبات، وبحت حناجر كثيرة وهي تدعو المواطنين إلى تغليب القيم الوطنية على القيم الاستهلاكية. وللأسف خابت الآمال. ببساطة يرد عديد من الناس بأن البضاعة الصهيونية أفضل من المنتج الفلسطيني، وإن كانت للأكل يقولون إنها "أزكى."

 

يبدو ان أغلب الناس غير معنيين بالقيم الوطنية، وما زالوا يظنون أن خلاصهم سيأتي على يد غيرهم، وما عليهم إلا أن يتمتعوا تحت الاحتلال لأن الفرج قريب، ويختمون هلوساتهم بالاستنجاد بالذات الإليهة ويقولون إن شاء الله. ولا يبدو أن الناس مقتنعون بأن ما يقومون به عبارة عن خيانة وطنية واضحة. إنهم يدعمون اقتصاد الصهاينة، وبالتالي جيش الصهاينة الذي يصادر الأرض ويقتل الناس ويستبيح الحرمات. الخيانة ليس فقط أن تعترف بإسرائيل أو تنسق أمنيا معها، وإنما من الخيانة أيضا أن تدمر صاحب المصنع الفلسطيني، وصاحب المعمل، وصاحب المزرعة، وتنعش الصناعة الصهيونية، وتدعم زراعتهم.

 

قد يثور أحدهم ويقول إن هذه مبالغة. لا. هذه ليست مبالغة لأن كل هذه السنين الطويلة من الاحتلال والقمع والتدمير كان يجب أن تكون كفيلة بتنشيط التحدي لدينا، وترفع من درجة إصرارنا لنكون جميعا في خندق المواجهة، وكل حسب موقعه في المجتمع وعجلة العطاء. هل من المعقول أننا ما زلنا نشتري الحليب والعصير والبوظة والشوكولاتة والمنظفات من الصهاينة؟ (لو) كنا وطنيين لما قضينا على معامل الأحذية في الخليل، ولا على معامل الخياطة في طولكرم، ولا على الصناعات النباتية في نابلس، الخ. وتقديري أن علينا أن نواجه الحقيقة العارية كما هي إذا أردنا أن ندحر الاحتلال ونستعيد ولو جزءا من حقوقنا الوطنية الثابتة.

 

كان الصهيوني قبل عام 1948 يرفض شراء بضاعة من الحانوت الفلسطيني الذي يقع بالقرب منه، وكان يفضل السير مسافة طويلة لشراء علبة كبريت من حانوت يهودي. هكذا يفعل من يريد إقامة دولة.