خبر ليس لنا ألا أن يقْبل بعضنا بعضاً ..علي عقلة عرسان

الساعة 09:12 م|24 يونيو 2011

ليس لنا ألا أن يقْبل بعضنا بعضاً ..علي عقلة عرسان

 

عندما يكون لمرء جسد يعمل فيه القلب بصورة جيدة، وتقوم شرايينه وأوردته بدورها على أكمل وجه، ويكون الدم ملوثاً أو مصاباً بفقر شديد.. فما الذي يمكن للقلب أن يفعله ضمن شبكة اتصال جيدة سوى إيصال التلوث بسرعة وجدارة وامتياز إلى كل خلية من خلايا الجسم أو تعميم فقر الدم على الجسم كله؟! فسلامة القلب، على أهميتها، لا تعني بالضرورة سلامة الجسم كله وقدرته التامة على الأداء الجيد.

ومن الأهمية بمكان أن تتوافر إضافة إلى سلامة القلب وشبكة الأوعية الدموية الموصلة ضمان سلامة الدم من التلوث وغناه بكل ما يغذي الجسم ويقويه ويجعله قادراً على القيام بمهامه كلها باقتدار.. ولكن في حال توفر السلامة والقدرة يبقى أن نواجه مستحقات السؤال الأعلى: عندما يكون لدى المرء جسم سليم قوي معافى قلباً وقالباً، ويفتقر إلى المشروع الذي تُصرف الطاقة فيه، أو يفتقر إلى الرؤية التي تمكنه من صوغ مشروع، أو إلى الإرادة التي توجه الطاقة في خدمة مشروع والمشروع ذاته، وإلى المعرفة والحكمة والوعي وكل ما يجعله يدرك قيمة أن يكون لـه مشروع حيوي يعمل من أجله ويوظف طاقته فيه.. ذلك لأن الطاقة الكبرى الكامنة في ذلك الجسم المعافى تصبح، من غير مشروع وغاية، عشوائية مجنونة.. أو طاقة هدم عابثة تشكل عبئاً على الحياة والأحياء، وأداة هدر لمادة العقل وما ينتج عنه ولطاقة الحياة ذاتها.

من أنا؟! ما هو مشروعي؟! كيف أصل إلى تحقيقه؟! وما هو برنامجي الأمثل لتحقيق ذلك.. هو السؤال الأهم بتقديري لكائن حي، ومجتمع حي، ودولة بالمفهوم الموضوعي والعصري للدولة، ولأمة من الأمم، ثم يأتي سؤال الأدوات والإمكانيات والخطوات.

وليس أمام الأفراد في الجماعات، والجماعات في الشعوب، والشعوب في الأمم ذوات المشاريع الكبرى والطموحات العليا.. أفضل من أن يحكمها العقل وتستثمر في العلم والمعرفة، وتتعاون ليحقق كل منها مشروعه في إطار الوجود المشترك للبشر، حتى لا يكون الجهد البشري على أي مستوى من المستويات تصادمياً مدمراً، فكيف إذا كان التصادم المدمر على مستويات مجتمعات ودول؟!.. وما من مدخل إلى تبين المصالح والتعايش والتعاون أفضل من بناء جسور الثقة وتبادل المعارف والآراء والمنافع وفتح أبواب الحوار في بوتقة تحتكم إلى العقل ومعايير خلقية وإنسانية ويحكمها الاعتماد المتبادل في الحياة لمواجهة الأزمات ولجم طيش الطائشين وطمع الطامعين الذين يغرقون البشر في دوامات الصراع الدامي.. أما التوجه إلى خيارات الإلغاء أو القهر أو الاحتيال أو السلب والاستلاب، بتوظيف القدرات والمهارات البشرية في أطر "شطارة الأشرار" فيقدم حلولاً إلغائية تقوم على الظلم الذي لا يقيم أساس حكم سليم معافى من أي نوع لا لشخص ولا لفئة ولا لجماعة ولا لدولة ولا لأمة من الأمم.. فالظلم لا يبني علاقات سليمة ولا تعايشاً دائماً.. والتعايش العادل، والتكامل باحترام، والتعاون بثقة وأمن متبادل وهدى هو ما يحتاج إليه البشر على أي مستوى كان تجمعهم وأياً كان نظام الحكم الذي يختارونه، وعليهم أن يواجهوا مستحقاته بمسؤولية متكاملة عن الحياة والأحياء وعن مناخ عيش مشترك سليم يكون فيه الناس متساويين، والبيئة البشرية نظيفة من التلوث، والطبيعة الجغرافية تساند الطبيعة البشرية الفطرية لأن ذلك يعني الجميع، وتخريب البيئة الاجتماعية والوطنية والبشرية أو تدميرها يؤثر تأثيراً سلبياً مدمراً على الجميع.

وحين نقارب الأمور والواقع في مساحات أضيق فأضيق نصل إلى دائرة الدولة ومجتمعها، وفي هذه الدائرة " الدولة، المجتمع" نكون في مركب واحد هو الوطن ولسنا في مركب أحد من داخله أو خارجه، ومن يخرِّب تحت موطئ قدمه في المركب " الوطن" بحجة أنه " مالك، أو حاكم، أو مقهور، أو مظلوم أو طالب حرية..إلخ، أو بادعاء أنه حر التصرف بما يملك، أو بذريعة أنه الأقوى والأقدر على القيام بتصرف يمكن من أن يبقى حيث يريد وأن يفعل ما يريد وأن يحجز قوارب المستقبل كلها لمصلحته، وبما يبقي شأنه ونفسه في الأعالي.. يضر الآخرين جميعاً وقد يهلكهم ويهلك معهم ويغرق المركب ومن فيه، وقد لا يتاح له أن يرى وهو في تلك الدوامة من الغلو والاستعلاء وفقدان المشروع الأعلى والهدف الأسمى والأشمل، ما تكون عليه شؤون الحياة والناس وحتى شؤونه الخاصة، حيث يغدو في انقطاعه عن الحكمة والمشروع الحياتي الإنساني الوطني البناء كالمنْبَت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.. وقد ذكر القرآن الكريم مثال المرْكب المشتَرَك في عرض البحر الذي حاول أن يخرقه أحد راكبيه بحجة أنه حر التصرف فيما تحت قدمه بقوله: فإذا أخذوا على يديه ومنعوه نجا ونجوا وإذا تركوه يفعل هلك  وهلكوا؟! وهنا تأتي مشروعية المسؤولية الجماعية والعمل الجماعي الذي يفضي بالنتيجة عمل ام، ومصدر شرعية ألى وأعم من الأفراد والجماعات والأحزاب والتكتلات.. وهذا بحد ذاته يفضي إلى مسؤولية فردية تتضمن الدفاع عن النفس وعن الوجود بصورة ما، فالفرد الذي يتدخل في الشأن الأعلى لصالح الجماعة والوطن يخوض في الوقت ذاته معركة دفاع عن الشأن الفردي الخاص بوصفه أحد أفراد الجماعة التي لها مصلحة في عيش مشترك يستفيد منه كل أفرادها ويحميه كل فرد منهم أيضاً من خلال الجماعة.

إننا في الوقت الراهن، وبسبب ما تمر به بلداننا وأمتنا العربية من أحداث مؤثرة على الفرد والمجتمع والدولة والأمة.. يترتب علينا أن نواجه تحديات نوعية تتصل بالوجود والاستقرار والأمن والحقوق والحريات وظروف العيش والمكانة الاجتماعية والدولية، كما يرتب مسؤوليات من حيث الوعي والتصدي لكل ما يضعف البنى الكلية والجزئية.. إننا نعيش في مناخ من التوتر والاستفزاز والتهديد والتشويه يستدعي حكمة عليا، ورؤية نافذة، وقيماً رفيعة نعتصم بها ومبادئ خُلُقية وإنسانية ووطنية وقومية ننطلق منها، ومواقف مبدئية نتخذها وندافع عنها، ويتطلب وجود صفوف متوافقة، إن لم تكن متراصة، تجعل من توافقها وعملها المشترك قوة منقذِة. ويبدو أننا أُدخلنا فيما لا نحب من الامتحانات المفضية إلى محن وكوارث ودماء، يفاقمها غياب الرؤية أحياناً أو ضبابيتها في كثير من الأحيان، وعنجهية التحدي المغامر، والعصبية العصابية، والتطرُّف القتال.. وهاهو التهديد والتشويه والعدوان والنزوع العنصري وقلب الحقائق والمفاهيم وازدواج المعايير والمكاييل، وعودة النزوع الاستعماري والطغياني المميتين لكل حرية وعدل وازدهار.. ها هو كل ما يدمر يصيب عالمنا الخاص والعام بالرعب ويخلخل منظومات القيم، ويهدد بلدان وطننا العربي وعالمنا الإسلامي على الخصوص، ويأخذنا من مَقاتلنا، ويزجُّنا في مآزق قد تخرجنا إلى ما لا تُحمَد عقباه وما لا يعرف نتائجه ومداه إلا الله. وليس لنا إلا أن نسلك مسلك الحكمة بثقة واقتدار، ونتعاون على بناء بيتنا الداخلي الذي نعرف جيداً خفاياه ونقاط قوته وضعفه، وهو بيتنا التاريخي وبيت الأمة العربية أيضاً الذي لن يبنيه لنا سوانا، "فما حك جلدك مثل ظفرك".. لقد دخلنا أو أُدخلنا في نفق يكاد ينسينا حقائق ما يدور من حولنا،وما يتصل بنا جوهرياً ووجودياً من قضايا أمتنا.. وهو ما يستثمره العدو التاريخي لبلدنا وأمتنا أبشع استثمار.

لن نخرج خارج العالم، ولن نلغي أنفسنا، ولن نتنازل عن هويتنا وعقيدتنا واستقلالنا وكرامتنا ونستسلم للاحتلال ولمن يتاجر بدم الشعوب وآلامها ليكسب ويبقى فوق ويغامر أو يقامر لى حساب الآخرين..

إن مواجهتنا لاحتمالات المستقبل وتلمّسنا لمعالم صورته التي نستشرفها تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى أشخاص يفيضون إيماناً وانتماء ومعرفة ومبدئية وثقة بالنفس ووعياً بحقائق الحياة ودروس التاريخ، ويكون إيمانهم عميقاً وصادقاً بمستقبل أفضل لبلدهم وأمتهم وللبشرية كلها، ويقدمون رؤية هي نورٌ وقوة حق وقوة تحمي الحق وتقيم العدل.. لسنا معزولين أو هامشيين أو وحيدين في هذا العالم، ولا في اختيار هذا النوع من التطلعات والأهداف والأداء. إن مستقبلنا يواجه تحديات كبيرة واحتمالات مفتوحة على مخاطر وصعوبات، وذلك يتطلب منا أن نحذر الجهل وفهم الجهَّال والجهلة لأبعاد النسيج الاجتماعي الوطني، وأهمية الوضوح السياسي، وبناء جسور الثقة على أساس متين من المصداقية والاحترام والانتماء، وللدور الحضاري للحوار بسؤولياته وأبعاده وأشكاله.. فإذا لم نوفق إلى تحاشي جاهلية التجاهل وعنجهية التطرف والتسلط، وممارسة الفساد والإفساد.. فإننا نسقط في الفخ المنصوب لوطننا وأمتنا، وندخل في دوامة فهم قاصر يقود إلى قصور وكوارث.. ويبقى حصننا الحصين هو الوعي والمنطق والإيمان الصحيح العميق والمحاكمة السليمة للأمور، والفهم السليم لجوهر المشكلات والخصوصيات، وامتلاك ناصية الحلول السليمة بفن وسرعة وحنكة واقتدار.

إن الخلق الكريم القويم لا يبيح الأذى والظلم والقهر ولا القتل وإراقة الدم، ولا هدر الكرامة والحقوق، ولا الانتقاص من الحريات الخاصة والعامة، ولا يبيح تجاوز المصالح العليا للوطن والمجتمع من أجل أفراد وفئات يكبرون ويسمنون على حساب الدولة والمجتمع والأفراد الآخرين.. ولا يَقبَل الخلق القويم الكريم وأصحابُه القوانين القاصرة ومن يزينون القبيح من الأمور والتصرفات والأفعال والممارسات، ولا فعل من ينتهزون الفرص، ويعملون على محاصرة صناع القرار ليبقوهم في دوائر العتمة ويجروهم إلى متاهات الضلال من أجل أن ينتعشوا هم على حساب السلطة والشعب.. والخلق القويم لا يقر الخروج الفوضوي على الدولة وقوانينها ومصالحها، ويسعى أهله إلى الإصلاح القانوني والإداري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي بإرادة الشعب وقوة المنطق والعلم، عبر طرق مؤثرة تفضي إلى إصلاح الفاسد في كل مجال، وإلى تعديل القوانين والأنظمة أو تغييرها بأساليب ديمقراطية سليمة ونزيهة، بعيداً عن كل شكل من أشكال الفساد والإفساد والتزوير والديماغوجية والفوضوية والتشويه، وعبر المداخل التي تحمي الدولة والديمقراطية والمجتمع والهوية والقيم، وترسخ المؤسسات وقدرتها وفعاليتها.. لسنا بحاجة إلى مزيد من التدمير والتشويه والافتراء ونشر فاسد القول والسلوك والعمل والرأي، والتأسيس للفتن والمحن والضعف المدمر، فقد زاد ما أصابنا من ذلك عن حدود الاحتمال.. ومن مصلحتنا بل من واجبنا أن نرفض الظلم والقمع والقهر وكل تجاوز على كرامة الإنسان وقوة القانون وهيبة الدولة العادلة، وكل ما يسيء لصورة المواطن والوطن. ليس لنا إلا أن يقبل بعضنا بعضاً وأن يحمي بعضنا بعضاً، وأن نحتمي بوطننا فيكون درعاً لنا ونكون درعاً له، ونحتمي بأمتنا ونحميها.. وذاك درس تكرر وتجلى أمام الأمة في مئات اللحظات والمناسبات الحاسمة.. وليس لنا إلا أن نُعمِل العقل ونعمَل بالحكمة لكي نبني معاً وطن الجميع من أجل الجميع، ولكي يكون لكل إنسان منا نافذة أمل وإطلاله على المستقبل، ويكون للوطن قدرة على البقاء والبناء والتقدم والتحرير والازدهار، وحفظ المواطن وجعله يعيش في ظل أمن من جوع وخوف.

والله من وراء القصد

 

24/6/2011