خبر تركيا على أبواب ميلاد جديد ..فهمي هويدي

الساعة 07:13 ص|14 يونيو 2011

تركيا على أبواب ميلاد جديد  ..فهمي هويدي

هي أكثر من مجرد انتخابات تشريعية، لأنها تفتح الباب لإعلان ميلاد جديد لتركيا يرسي أساس جمهوريتها الثانية، التي تنتقل بها من ولاية العسكر إلى ولاية الأمن.

 (1)

 

إن شئت فقل إننا بصدد حالة من التوافق الوطني على ضرورة طيّ صفحة الانقلابات العسكرية التي تعاقب ثلاثة منها كل عشر سنوات منذ سنة 1960 (الانقلاب الرابع وصف بأنه أبيض لأن العسكر أجبروا حكومة نجم الدين أربكان على الاستقالة في سنة 1997. أما الخامس فقد أجهض في سنة 2007 ولا تزال ملابساته محل تحقيق حتى الآن).

 

الجميع اتفقوا على ضرورة وضع دستور جديد لتركيا يزيل آثار عدوان الدستور الذي فرضه العسكر إثر انقلاب عام 1980، وكرس وصايتهم على المجتمع من خلال تشديد قبضة العسكريين على السياسة، وبسط هيمنة التطرف العلماني على مؤسستي القضاء والتعليم. وهي ذات السياسة التي فرضها مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، لكن المجتمع ظل يتملل منها ويحاول الفكاك من أسرها من خلال هوامش الديمقراطية المتاحة.

 

"

بإعداد الدستور الجديد يرد المجتمع الاعتبار لعدنان مندريس وصاحبيه، الذين كانوا في مقدمة شهداء الديمقراطية في تركيا, ويسجل الفصل الأخير في كتاب الديمقراطية

"

وكانت العلامة البارزة على ذلك هي الانتخابات التي جرت في عام 1950، التي صوتت فيها الأغلبية لصالح الحزب الديمقراطي ومني حزب الشعب الذي أسسه أتاتورك بهزيمة منكرة أفقدته هيمنته على الحكم التي ظلت مستمرة طوال 17 عاما. وهو ما لم يغفره الجيش المفوض دستوريا بالتدخل لإقرار السلام والأمن الاجتماعي والسياسي في البلاد، فقام في سنة 1960 بأول انقلاب له في ظل الجمهورية، وشكل لجنة تحقيق قضت بإعدام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ووزيري الخارجية والمالية. ولم ينفذ الحكم بالأول في حين أعدم الثلاثة الآخرون وفي المقدمة منهم رئيس الوزراء عدنان مندريس.

 

بإعداد الدستور الجديد يرد المجتمع الاعتبار لعدنان مندريس وصاحبيه، الذين كانوا في مقدمة شهداء الديمقراطية في تركيا. ويسجل الفصل الأخير في كتاب الديمقراطية، الذي سطروا بدمائهم فصله الأول في خمسينيات القرن الماضي. هكذا قال رئيس حزب العدالة والتنمية في مدينة إسطنبول عزيز بابوتشو.

 

نائب رئيس حزب الشعب المنافس أوغوز ساليتشى يؤيد بدوره الحاجة إلى وضع دستور جديد، لكن حزبه لديه قائمة طويلة من الأسئلة حول الجهة التي ستعد الدستور، وحول ما سيقرره من مبادئ للمرحلة المقبلة وأهمية عرضه على الاستفتاء العام في كل الظروف.

 

 

(2)

 

لأن الجميع يدركون أنها لحظة فارقة في تاريخ تركيا الحديث، فإن السباق ظل طول الوقت مفعما بالحيوية والحماسة، ذلك أن موضوعه لم يكن فقط الفوز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان والاشتراك في تشكيل الحكومة، وإنما كان الأمر أكبر من ذلك وأبعد، لأن نسبة الفوز لها مردودها في نسبة المشاركة في صناعة المستقبل وتأسيس الجمهورية التركية الثانية التي تنعقد فيها الولاية للأمة لأول مرة منذ تأسست الجمهورية في عام 1923.

 

رفع من وتيرة الحماسة أن قادة الأحزاب التقليدية، وفي المقدمة منها حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك ولا يزال يتبنى مشروعه، والحزب القومي الذي يمثل العرق التركي والقومية الطورانية، هؤلاء أدركوا أن الزمن يكاد يتجاوزهم وأن دورهم يتراجع في المشهد السياسي، منذ فاز حزب العدالة بالأغلبية في انتخابات عام 2002 وشكل الحكومة منذ ذلك الوقت دون الحاجة إلى الائتلاف مع أي حزب آخر.

 

لهذه الأسباب فإن الأحزاب المنافسة ألقت بكل ثقلها لكي تكسر الأغلبية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية في البرلمان (يمثله في الوقت الراهن 340 عضوا من بين 550 هم مجموع أعضاء البرلمان)، لكن طموح حزب العدالة والتنمية أكبر وأبعد هذه المرة. فهو لا يريد أن يكتفي بالأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا (النصف زائد واحد)، وإنما يطمح إلى تحقيق أغلبية الثلثين (367 عضوا) لكي يتمكن من وضع الدستور الجديد.

 

صحيح أن التنافس على أشده بين حزبي العدالة والتنمية من ناحية والشعب الجمهوري من ناحية ثانية، إلا أن الصورة أوسع من ذلك بكثير. فالأحزاب المسجلة رسميا عددها 60 حزبا، لكن الذين قرروا خوض المعركة الانتخابية نحو 20 حزبا فقط.

 

والرهانات والأضواء مسلطة في وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي العام على أربعة أحزاب فقط تحاول جذب الأنصار من بين 50 مليون ناخب. وهذه الأحزاب هي:

 

"

الأحزاب المنافسة ألقت بكل ثقلها لكي تكسر الأغلبية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية في البرلمان، لكن طموح الحزب  أكبر وأبعد هذه المرة

"

* حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي ركز في دعايته على أن الهدف هو سنة 2023، ذكرى مرور مائة سنة على تأسيس الجمهورية، شاهرا في ذلك شعار: لكي تنعم بلادنا بالاستقرار ولكي تصبح تركيا أكبر وأعظم. ولتحقيق ذلك الهدف فالحزب أعلن عن قائمة طويلة من المشروعات العملاقة والجذابة التي تدغدغ مشاعر الجماهير التركية وتداعب أحلامها.

 

* حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي الذي تنحى زعيمه السابق بسبب فضيحة أخلاقية، ويسعى رئيسه الجديد كمال كيليجدار أوغلو، وهو يساري علوي من أصول كردية، لتحويله إلى حزب يمثل اليسار الديمقراطي. لذلك فإنه يخاطب الأكراد والعلويين والطبقة العاملة والفقيرة. وقد ركز في دعايته على تنفيذ بعض المشروعات التي تهم الناس، وفي مقدمتها توسيع مظلة التأمين لتشمل عائلة كردية.

 

* حزب الحركة القومية الذي أصبح يعاني من شدة الضعف بعد بث تسجيلات فضائحية لعشرة من أعضاء مكتبه السياسي الذي يضم 16 عضوا، مما أدى إلى استقالتهم وأحدث فراغا في قيادته. إضافة إلى أن زعيمه دولت باهشلي عجز عن تقديم برنامج جدي ووعود انتخابية حقيقية. الأمر الذي أصبح يرشح الحزب للخروج من البرلمان (القانون يشترط لدخول البرلمان أن يحصل الحزب على 10% من أصوات الناخبين على الأقل).

 

* الكتلة الرابعة المرشحة لدخول البرلمان يمثلها الأكراد المستقلون الذين يمكن أن ينضموا تحت راية حزب السلام والديمقراطية، ويوفروا بذلك نسبة الـ10% التي تمكنه من دخول البرلمان.

 

 

(3)

 

عشت التجربة في تركيا طوال الأسبوع الذي سبق الانتخابات. ولشدة الضجيج الذي ملأ الفضاء خيل إليّ أن أحدا لم ينم خلال الأيام التي سبقت التصويت يوم الأحد الماضي. فسيارات المرشحين تجوب الشوارع على مدار الساعة، محملة بمكبرات الصوت التي تبث الأغاني التي أعدتها بعض الأحزاب للدعاية لنفسها وبرنامجها، كما تبث الأغاني الشعبية التي يحبها الناس ويرددونها. وفي كل ميدان مؤتمر لهذا الحزب أو ذاك. أما الأعلام ورموز الأحزاب فهي تملأ الجدران، وتظلل الشوارع، وبعضها يتدلى من البنايات الكبيرة. الأمر الذي يرشد المارة إلى خريطة أنصار الأحزاب المتنافسة في كل حي.

 

قيل لي إن شدة التنافس على الانتخابات بين الأحزاب استدعت وجود شركات تخصصت في تنظيم الحملات الانتخابية، بمستلزماتها من السيارات والملصقات والأغاني والمهرجانات وغير ذلك، لكن أكثر ما أثار انتباهي كان كثرة عدد الشبان المتطوعين الذين يشاركون في تلك الحملات.

 

كنت أعرف أن ثقافة التطوع للعمل الخيري والعام شائعة في تركيا، لكنني دهشت حين علمت أن حزب العدالة والتنمية وحده شارك في حملته الانتخابية بمدينة إسطنبول وحدها 26 ألف متطوع نصفهم من النساء. وهؤلاء تفرغوا لمهمتهم طوال الشهرين الأخيرين وقيل لي إن أولئك المتطوعين لم يتركوا بيتا أو متجرا لناخب في المدينة إلا وطرقوا بابه وتواصلوا معه واستمعوا إليه.

 

إلى جانب هؤلاء صادفت في إسطنبول وأنقرة مجموعات من الشباب الاشتراكي الذين قدموا من أنحاء مختلفة من أوروبا للدعاية لحزب الشعب في الشوارع والأسواق، كما كانت هناك مجموعات أكبر من البلقان وبعض الدول الإسلامية جاؤوا لمساندة حزب العدالة والتنمية.

 

إضافة إلى ما سبق، فثمة ملاحظات أخرى تستوقف المرء في المشهد الانتخابي في مقدمتها ما يلي:

 

* إن الجدل والتراشق بين الأحزاب منصب على الشأن الداخلي بشكل عام. أما السياسة الخارجية لتركيا فلا أحد يتحدث عنها إذا استثنينا انتقادات من جانب قادة حزب الشعب لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ذكرت أنه اتبع مع إسرائيل "سياسة استفزازية". وانتقادات أخرى سمعتها وجهت إليه لوما لتحالفه مع سوريا (رغم انتقاداته لممارسات النظام السوري).

 

* إن المجتمع التركي يعيش حالة استقطاب مثيرة للانتباه. وهو ما رصده رئيس مركز أبحاث "كوندا" في أنقرة تارهان أردم، الذي قال إن الاستقطاب بين الناخبين ظل في السنوات الماضية يتراوح بين 50 و60%، لكنه وصل في الانتخابات الأخيرة إلى 80%، الأمر الذي يعني أن هذه النسبة من الناخبين ستصوت لهذا الحزب أو ذاك، دون مناقشة القضايا أو البرامج التي يطرحها.

 

* إن الأحزاب العلمانية لا تزال تثير خوف الناخبين من الخلفية الإسلامية لقادة حزب العدالة والتنمية، ملوّحة في ذلك بفكرة "الأجندة الخفية" التي يقولون إنه يستبطنها. وسمعت رئيس حزب الشعب وهو يعلن في أحد المؤتمرات أن حزب العدالة يهدد عقائد الشعب التركي (يقصد أنه يهدد إيمانه بالعلمانية)، ثم وهو يكرر في أكثر من لقاء شعبي "أن الجمهورية في خطر".

 

* إنه في الوقت الذي أصبحت تركيا على أبواب وضع دستور جديد بديلا عن ذلك الذي أصدره العسكر بعد انقلاب عام 1980، فإن قائد ذلك الانقلاب الجنرال كنعان إيفرين (94 سنة) خضع للاستجواب في الأسبوع الماضي لسؤاله عن علاقته بمحاولة الانفلات التي جرى التخطيط لها في عام 2007.

 

 

(4)

 

فوز حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول بين الأحزاب المتنافسة أصبح مسلما به من قبل الجميع. ولأنني أكتب هذه المقالة قبل الإعلان النهائي للنتائج إلا أن الترجيحات تشير بقوة إلى أن الحزب سيفوز بأكثر من نصف المقاعد، أما أغلبية الثلثين التي يتطلع إليها فليس مقطوعا بها.

 

وعند الحد الأدنى فإن السيد أردوغان الذي تعرض لمحاولة الاغتيال ما بين 12 و13 مرة سيتمكن من تشكيل الوزارة للمرة الثالثة. وهو خبر سار بالنسبة إليه وللحزب بطبيعة الحال، لكنه يحمل في طياته مفاجأة لم ينتبه إليها كثيرون، خلاصتها أنها المرة الأخيرة التي يشغل فيها منصب رئيس الوزراء (الباشبكان).

 

ذلك أن لوائح الحزب لا تسمح له ولا لغيره من القيادات بأن يشغل موقعه لأكثر من ثلاث مرات، الأمر الذي يعني أنه في الظروف العادية ينبغي أن يغادره إلى غير رجعة بحلول عام 2015، ليس وحده، وإنما سيخرج معه في ذلك التاريخ 150 آخرين من القياديين في الحزب الذين رافقوه في رحلته.

 

وهو ما يدركه المسؤولون في الحزب جيدا، ويتحسبون له من الآن، الأمر الذي يضيف إلى قائمة الأسئلة التي تطرحها النتائج في صورتها النهائية، أسئلة أخرى تتعلق بمصير أردوغان وربما مصير النظام السياسي التركي في الدستور الجديد. ولأن الأسئلة كثيرة، فلم يعد هناك مفر من العودة إلى الموضوع في الأسبوع المقبل بإذن الله.