خبر نودع النكبة بدموع الانتصار ..هيثم ابو الغزلان

الساعة 06:28 م|02 يونيو 2011

نودع النكبة بدموع الانتصار ..هيثم ابو الغزلان

 تجسدت الحرية على أرض الجنوب اللبناني بناء مكتملاً في الخامس والعشرين من أيار عام ألفين. وما كان حلما ومستحيلاً ـ برأي البعض ـ، غدا ممكناً، تحريراً وفرحاً، وطيوراً مزقزقة بفجر الحرية التي صنعها المقاومون بدمهم شهادة ونصراً، وبعذاباتهم وصبرهم حرية وفرحاً.

 

في ذلك الوقت لم يكن من خيار إلى زيارة هذه المناطق، فأجواء القهر، وكلمات التبجح تكاد تخنق الإنسان. فكان لا بد من زيارة البلدات المحررة لنخرج من سجن أيامنا الرتيبة إلى فضاء الحرية الواسع، لنتعلم هناك من الرجال الرجال كيف صنعوا التحرير الذي صوّره البعض مستحيلاً، كيف حكموا «المعجزة»، وسموا على جراحاتهم حتى غدت السماء مستقراً لهم، وللأحياء منهم حسرة على طول الانتظار للحاق بالشهداء شهداء.

احدى عشرة ساعة قضيناها في الجنوب، لم نشعر خلالها بتعب او ملل، لقد كانت نسمات الهواء مختلفة، والطيور غير خائفة، والسماء صافية على غير عادتها، والأرض مبتهجة بعودة أصحابها وكأنها تريد ان تستريح من عناء اثنين وعشرين عاماً من الاحتلال. أما النسوة فزغردن كثيراً، والأطفال لعبوا باطمئنان، ورفعوا شارات النصر، وعلت وجوههم بسمات تهزأ بالمحتل وعملائه، وتقول: «انتصرنا. من الطرة والسويداء، والدبشة، وعلي الطاهر، وشقيف، وكفر تبنيت، وارنون، وسحمر، ويحمر، وصولاً إلى مرجعيون وحاصبيا والخيام، وكفركلا، والعديسة وبنت جبيل، كلها بلدات ابتهجت فرحاً بالتخلص من كابوس الاحتلال. أما في قلعة الشقيف حيث فجر العدو بعضاً منها، تجولنا هناك. لم نترك منطقة إلا وتجولنا فيها، صعدنا إلى دشم المراقبة، ودخلنا إلى حيث كانوا ينامون!.

وزرنا معتقل الخيام، هنا توجد أسماء العملاء، وهنا غرف المعتقل وزنزاناته، غرف لا تدخلها الشمس، ورطوبتها عالية، وأغطية فرشات لم تغسل منذ سنوات او أكثر، لا تستطيع الاقتراب منها، فكيف بالمعتقـلين الذين ناموا عليــها سنــوات! كان الناس يخرجون من غرفة ليدخلوا اخرى متأثرين جداً ببشاعة هذه المشــاهد المرعبة، والظلم الذي لحق بالمعتقلين. وبعد ذلك جلنا في ساحة المعتقل ودخلنا غرف التحقيق فرأينا الأدوات الــتي استخدمها العملاء في تعذيب والمعتقلين، بدءاً بالكهرباء، وطشت الماء، إلى عمود الكهرباء الذي يعلق عليه المعتقل عدة ساعات مغطى الرأس بكيس أسود.

وصودف وجود معتقل محرر من بلدة الخيام، شرح عن أيام العذاب لكنه ما نسي ان يذكر الفرح القادم. وعندما هممنا بالمغادرة رأينا ولداً لا يتجاوز عمره تسع سنوات يمسك والده بيده، ويلبس بزة عسكرية، ويحمل بيده الأخرى مسدساً بلاستيكياً ويقول لوالده: «أيمتا بدي حارب اليهود؟» فرد والده عليه بقوله: «عندما تكبر». فقال الصبي: «بس أكبر بيبطل فيه يهود». فضحك الوالد وضحكنا معه، فنظر الصبي إلينا، وتوارى خلف والده خجلاً.

وانطلقنا من بعدها من ميس الجبل، فعيطرون فبنت جبيل، العديسة، وهناك وقفنا لنرى ولأول مرة فلسطين الحبيبة، الموقف لا يوصف، دموع وارتباك، وما زاد الطين بلة ـ كما يقول المثل الشعبي ـ، رؤيتنا لفلاح يهودي يحرث بمحراثه أرضنا، فلم نتمالك أعصابنا فرشقناه بعدة أحجار، لكنها للأسف لم تصبه.

مع شمس بلادي أحسست لأول مرة بشعور غريب، فتنفست هواء غير الهواء، وشممت رائحة عطر ليمون وبرتقال يافا وبيارات حيفا، هناك أيقنت كم هي قوية ذاكرتنا، فتشريدنا وغربتنا عن المكان عززه حضور قوي للذاكرة جعلت الأجداد يجتهدون بنقل كل ما يتعلق بفلسطين لأبنائهم، وكذلك فعل الأبناء فتركز الوعي الجمعي ان الوطن لنا، وان الغاصبين لا بد انهم راحلون.

ولا اعرف لماذا خطر لي قول الشاعر: كان لي بيت هناك، وأحلى أحلى ذكريات، مع اني لم أزر بلدتي بلدة الشيخ التي تقع على بعد خمسة كيلومترات جنوب شرق مدينة حيفا. ولم أعش بها، ولكنها سكنتني. وبقينا نحافظ على مفاتيح المنازل وأوراق (الطابو) ككنز ثمين، مع انها اليوم مسيجة بأسلاك شائكة، وليس فيها إلا أكوام من حجارة وأنقاض لمنازل مدمرة مبعثرة بين الأشواك ونباتات الصبار وشجر التين والزيتون المهمل... كما انها تضم قبراً لرمز من رموز الجهاد والمقاومة وهو قبر الشيخ المجاهد عز الدين القسام قائد ثورة عام 1936، الذي ربطته علاقة نسب مع القرية وله ذكريات جميلة مع أهلها، ويصف أحد كبار السن جنازة تشييع الشيخ عز الدين القسام بقوله: «فلسطين عن بكرة أبيها شاركت بالجنازة، الكتف إلى الكتف من المقاصد الخيرية في حيفا حتى قرية بلد الشيخ، واثناء مراسم الدفن ألقت مدرّسة بلد الشيخ وهي بنت سليم فارس خطبة حماسية في المقبرة لوداعه تحدثت فيها عن فضائل المجاهد الشهيد».

جميع أهالي القرى والبلدات والمدن الفلسطينية يصرون على نقل كل ذكريات لابنائهم، ويعطونهم صكوك ملكية الأرض ومفاتيح المــنازل كتأكيد على عمق الانتماء والارتباط بالأرض. وإذا كان الصهاينة يعتقدون ان جيل الكبار سيموت وسينسى الصغار من بعدهم ما حصل، فقد خاب ظنهم، فالــجيل الجديد أكثر تمسكاً بأرضه، وجيل انتفاضة الحجارة عام 1987، ومجاهدو المقاومة الإسلامية في لبنان، وجيل انتفاضة الأقصى يثبتون من جديد ان دم الشهداء يرسم خارطة الوطن، وان الاحـتلال لا بد زائل.