خبر ما حك جلدك مثل ظفرك.. علي عقلة عرسان

الساعة 02:25 م|20 مايو 2011

ما حك جلدك مثل ظفرك.. علي عقلة عرسان

على الذين ينتظرون خيراً ونزاهة وعدلاً من الولايات الأميركية وإداراتها المتعاقبة، وعلى رأسها الآن باراك أوباما، أن يعذرونا إذا قلنا لهم: إنكم تعيشون وهماً وتصدرون للعرب والمسلمين بضاعة فاسدة كاسدة مميتة، ويقترب بعضكم في أدائه من الوعي والإدراك التامين بحقيقة ما يفعل، ولذلك يُدخل نفسه في دائرة المدان من الفعل السلوك، وطنياً وأخلاقياً وإنسانياً، ولا يرفعه انحيازه ذاك حتى بنظر من يستخدمونه، بل تنخفض به أقواله وأفعاله يوماً بعد يوم إلى مهاوي مهلكة لا يتوقف تأثيرها المدمر عليه وعلى الأقربين له، بل يمتد ليشمل شعبه وأمت وشعوباً وأمماً وبلداناً، ويطال أجيالاً تتطلع إلى الفرص ويغريها معسول الكلام ولا تملك الخبرة.

ويكفي أن نقارب مواقف هذا الرئيس، ومواقف الإدارات الأميركية السابقة على إدارته، من قضية فلسطين وحدها و معاناة شعبها، لندرك أن العداوة والتماهي مع الصهيونية العنصرية والاحتلال ومنطق القوة والمصلحة، هو المحرك الرئيس لأي فعل وقرار وتوجه تتخذه دولة المؤسسات تلك، وتضغط على من يواليها ويتحالف معها لاتخاذه، وأنه لا يوجد أدنى حضور وتأثير، في السياسات التي تتبعها، لأية قيم أو قواعد أو خيارات إنسانية وحضارية.. مما تجمع عليه البشرية، أو تشترك فيه الديانات والثقافات والشعوب، وتقره القوانين والأعراف، وتقام له المؤسسات الدولية.

من المؤكد أن الإدارة الأميركية لا تنقصها المعلومات ولا الإمكانيات، ولكن من المؤكد أيضاً أنها تشارك في تصنيعها وتوظيف ما صنعه نها، وتوظف ذوي خبرة وذوي استعداد، ممن تؤهلهم للقيام بذلك حسب الطلب، وفي التوقيت والمكان الملائمين، وفق سياسات واستراتيجيات واسعة وبعيدة النظر، ملتزمة بأهداف أميركية ـ صهيونية محددة، لا صلة لها بالعدالة والقيم الإنسانية السامية والأخلاق الرفيعة. وإذا ما وجِد في دوائر صنع القرار الأميركي من يتصرف بدوافع أخلاقية وحقانية وإنسانية.. فإنه يحاصَر ويستبعَد ويغير أو يتغيَّر، فـ "من يجرؤ على الكلام" في بلاد العام سام غير أولئك الذين لديهم القوة والقدرة لى الخديعة بكل أشكالها، بصرف النظر عن سلم القيم والمعايير الأخلاقية الصارمة؟! الكل يتغير وينساق باتساق لينسجم مع المطلوب، حتى لو كان الرئيس نفسه.. ونحن ندرك أنه كانت لأوباما رؤية إيجابية نسبية نحو الإسلام ونحو قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وأنه طلب من الكيان الصهيوني وقف الاستيطان، واعتبره عثرة في طريق السلام، وطالب بالسير نحو الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود الرابع حزيران 1967 وحدد لذلك موعداً قطعه على نفسه وألزم به دارته، وكلف ميتشل  الذي استقال مؤخراً باعلعمل على الوصول إلى ذلك.. ولكنه لم يلبث أن تغيَّر وغير ذلك كله، غيَّر سياساته وسلوكَه تحت ضغط المؤسسات الأميركية والصهيونية الملتزمة بإسرائيل، وجماعات الضغط " اللوبي" وعلى راسها اللوبي الصهيوني الذي سيتوجه إليه قريباً بخطاب يرضيه، وصناع القرار السياسي الفعليين في تلك البلاد المحكومة بعنصرية ظاهرة وخفية.. وأخذ يتراجع عن كل وعد أو موقف أعلنه وعن كل كلمة قالها واشتمَّت منها رائحة الاقتراب من حقوق هذا الشعب وتطلعاته وعدالة قضيته.. ليقترب الرئيس من " صقور" المحافظين الجدد، أو ليتخلى عن كل ما يباعد بينه وبينهم من واقف وسياسات ومصالح تتصل بهذه القضية المزمِنة، وليتوحد تقريباً مع "إسرائيل" ورؤيتها وسياساتها العنصرية واحتلالها ووجهة نظر قياداتها، وعلى رأس أولئك نتيناهو بالذات، رمز الكذب والخداع والعنصرية والتوسع والكراهية.. الأمر الذي جعل هذا الأخير، نتنياهو، يطغى أكثر مما طغى، وهو على أعتاب زيارة قريبة للبيت الأبيض، فيعلن أنه سيبني ألفاً وسبعمئة وخمسين وحدة سكنية في القدس ليعزز مكانتها بوصفها "عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل"، وأنه لن يعود إلى حدود عام 1967 في فلسطين، حيث تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنه لن يتخلى عن وجود " جيشه العنصري" على حدود نهر الأردن، حتى في حال إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومقسمة إلى مناطق معزولة بعضها عن بعض وعن أي بلد عربي، ولن يتنازل عن " يهودية الدولة" التي يعني تهديد ما تبقى من الفلسطينيين في أرضهم منذ عام 1948 بالترحيل " الترانسفير" أو بالإبادة.. وأنه يرفض أن يستمع مجرد استماع، لكلمة عن حق العودة، موضوع القرار الدولي 194.؟! وكان هذا الذي أشرت إليه هنا بعض مفعول خطاب الرئيس أوباما الأخير في 19/5/2011 فكيف سيكون فعول خطابه مام يباك قريباً؟!

لقد أنهكت السياسات الأميركية ـ الصهيونية ـ الأطلسية الوطن العربي وبلدان العالم الإسلامي والقوى الحية فيهما، بذرائع شتى منها محاربة الإرهاب والقضاء على بن لادن ودعم "الديمقراطية" والإصلاح السياسي..إلخ، فوضعت دولاً عربية وإسلامية وقوى حية في مواجهة بعضها بعضاً، وجعلت بلداناً مثل العراق وأفغانستان وباكستان تدفع ثمناً فادحاً لذلك من دم أبنائها ومستقبلهم، ومن ثرواتها ووحدة شعبها وأراضيها، ليتحقق للغربيين والصهاينة ما يريدون.. وما زال الحبل على الجرار في بلدان ومناطق عربية وإسلامية يهيمن عليها الغرب أو يتدخل في شؤونها، ويوظف المؤسسات الدولية للنفاذ إليها وإضعافها بأشكال مختلفة، لكي يملي عليها سياساته ويفرض مصالحه، ويحمي "إسرائيل" ويحصنها، ويشارك في تحديد خيارات تلك الدول وتوجهاتها.

ولا يستعصي على من يتابع الأوضاع ويدقق في الأمور الراهنة وفي الأحداث منذ بداية هذا القرن على الأقل، كشفُُ أبعاد كل هذا ومخاطرُه.. ونقدِّر أن ما سيأتي من جراء مسلسل الأحداث المستمر قد يكون أشد تأثيراً وفتكاً وإيلاماً، على صعيد الأفراد الشعوب والدول والقوى في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي.

إن اليقظة أو الصحوة أو الثورة الشعبية التي شملت بلداناً عربية وغيَّرت فيها ما غيَّرت، ما زالت نارها تشتعل في أكثر من بلد لتقود إلى إصلاح شامل أو تغيير جذري أشمل، ودخانها يعسُّ في بلدان عربية أخرى حيث ينتظرها ما لا يسرها وما لا يسرنا قطعاً.. إن هذا الحراك الشعبي المشروع، سواء أأسميناه صحوة أم ثورة، مبشرٌ بالكثير مما يحرر الفرد ويحفظ بعض حقوقه وحرياته وكرامته، ويرسِّخ إرادة الشعب وحقيقة أنه مصدر السلطات، ويطلق الطاقات الخلاقة للشباب الذي يشكل 60% من عدد السكان باتجاه البناء والإبداع وخلق المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المساعد على بناء الوطن والقوة بالاستناد إلى الشعب.. ويعمل على فتح أبواب الأمل، واستعادة الحقوق والحريات والتوازن الاجتماعي، وقد يخلِّص مصالح وطنية وقومية كثيرة من أيدي مغتصبيها أو ممن يمالئون الأميركي والصهيوني والغربي ليبقوا هم في السلطة والسيطرة والابتزاز، ويبقى الشعب في القمقم.. وهو حراك شعبي مبارك في أهدافه، سليم في معظمه، واعد إن هو أحسن التصرف والتبصر والإدراك، واستوعب الدروس المستقاة من سياسات الدول الكبرى والحركة الصهيونية القذرة. إنه مشروع ومبارك ومنقذٌ.. على ألا يجعل الدم والتضحية والشهادة والجهد والوضع كله يسقط في مستنقع التوظيف الأميركي الرامي إلى خدمة أهدافه وأهداف الكيان الصهيوني، وفي ما أسماه السيئُ الذكر، المجرم جورج W بوش، بـ " الفوضى الخلاقة" ـ والفوضى ما كانت خلاقة في يوم من الأيام ـ لتدمر الفوضى ويدمر الجهل والحقد والثأر ما تعجز جيوش الأعداء عن تدميره، ويستثمره أعداء الشعوب لإضعافها ولخدمة مصالحهم وتحقيق أهدافهم الاستراتيجية وسياساتهم، بينما تدفع تلك الدول، ويدفع العرب والمسلمون على الخصوص ثمن ذلك مضاعفاً، الأمر الذي يؤسس: لقوة لأعدائهم، وإضعافً قواهم وبلدانهم، ولفشل لقضاياهم العادلة، وغرساً مراً للحقد والشقاق والنفاق في مجتمعاتها، وكل ذلك يكون على حساب مستقبل الأجيال والنهضة الحضارية والعدالة الاجتماعية والدولية، وعلى حساب الحقائق والقضايا المركزية للنضال الوطني والقومي، تلك التي لن يقيم لها قواماً إلا وعيٌ وطني وقومي وسياسي وثقافي متين منغرس في تربة الأرض والحضارة، حامل للهوية والعقيدة: بحكمةٍ وعلمٍ وانتماءٍ وإيمانٍ وعدلٍ واقتدار.. وكل ذلك يقوم ويُقام على أرضية العدل والحرية والمساواة، ليحقق قوة بالمعنى الشامل والمتكامل للقوة، تحمي الشعب والوطن، وتحرر الأرض، وتحفظ الحقوق والمصالح، وتجعل إرادة الشعب هي الأعلى، وأحكام القانون فوق نزوات الأفراد ونزعات التسلط والطغيان أياً كان مصدرها، وفوق الجهل والخيانة والفساد والإفساد.. ليقوم مجتمع الأخلاق والقيم والكفاية، وتقوم دولة القانون والمؤسسات والكفاءات، ويُبنى وطن كل أبناء الأمة بعقول وسواعد كل أبناء الأمة على أرض يشعر فيها الإنسان بالأمن من جوع وخوف، ويعيش بكرامة، ويستعذب العمل والتضحية والشهادة  في سبيل أمة يشعر أبناؤها، كل أبنائها، بالاعتزاز والطمأنينة والكرامة من خلال الثبات على الحق والمبدأ والعقيدة.  

لقد اعترفت إدارة الرئيس أوباما بأنها ليست المؤسس لذلك الحراك الشعبي العربي الذي تشهده أقطار عربية عدة، وأنها ليست الدافع ولا المحرك له، وفي هذا شيء من التواضع على الأقل، ولكنه لا يعني براءتها كلياً من أية صلة بالحدث وبمن يتطلعون إلى استثمار ذلك الحراك الشعبي المشروع لخدمة مصالحهم وخلافاتهم في هذا البلد العربي أو ذاك، ليصب مجرى الحراك الشعبي في البرامج الغربية الصهيونية إن أمكن، وفي برامج، " أجندات" خاصة، وهي مما يمكن تبينه بوضوح، أياً كانت تلك البرامج والبراقع.. ولا يعني أيضاً أن الولايات المتحدة الأميركية لا تعمل كل ما بوسعها لتمسك بزمام الأمور، أو لتتدارك ما يمكن أن يفلت منها من ذلك الزمام، كلياً أو جزئياً، في مسعى حثيث منها للمحافظة على مصالحها ونفوذها في المنطقة ويأتي وعلى رأس تلك المصالح الكيان الصهيوني الذي يشكل أولوية أولى على كل المصالح الأميركية. وهي توظف قوتها ونفوذها وإمكانياتها وأدواتها لتحقيق أهدافها تلك بكل الوسائل، وتعمل على أن تقود الحراك الشعبي في بعض الحالات، من خلال حاجة أطراف المعنية به إلى من يساندها أو يكف عن لجمها، وتعمل في السر أو في العلن أحياناً، على فرض الاستجابة لمطالب لها ولحليفها الصهيوني على كل من يطلب مساندتها، ومن تلك المطالب رأس المقاومة ضد الاحتلال، وبقاء الشعب الفلسطيني ممزقاً والعرب بلا كلمة موحدة، وبقاء أمن كل قطر مزعزعاً، والحكام العرب بحاجة إلى شركاء من المستعمرين والظّّلام ليستقر بهم المقام في الحكم، وهم يقدمون في مقابل ذلك تنازلات لمن يدعم بقاءهم ويسكت عن ممارساتهم أياً كانت.

   إننا، ونحن في دوامة الأحداث والمخاض العسير للحراك الشعبي المشروع الذي تشهده أقطار عربية عدة، بأمس الحاجة إلى تبيُّن الدور الأميركي ـ الصهيوني ـ الغربي وأهدافه وأساليبه وأدواته، وإلى التمسك بالاستقلال، وبالثوابت الوطنية والقومية والمبدئية وعلى رأسها ما يتصل بقضية فلسطين من تلك الثوابت المبدئية، وبتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية في بلداننا، وفرض إرادة الشعب وحكم القانون، وتداول السلطة بمسؤولية ووعي وتحكيم للإرادة الشعبية الحرة،وتعزيز دور المؤسسات، والثقافة الجادة التي تراجعت وتراجع دورها وتأثيرها تحت تأثير إعلام غير مسؤول وغير مهني في زوابع يثيرها معظم المؤثر منه، وهجوم للجهل والادعاء على مواقع العقل والفهم والمعرفة من أشخاص ومؤسسات، وسيطرة الضجيج والعجيج والدعاية المريضة على المعايير والأحكام في مجالات أداء عدة وفي ميادين الفكر والأدب والفن والإبداع، فضلاً عما يلحق تلك الميادين من ضرر وتشويش وتشويه من جراء فساد السياسة وإفسادها للكثير من الأشخاص والمعايير والأحكام والأجواء والبيئات الثقافية، بفعل طلب الأتباع والحرص على تأثيل الادعاء، وبفعل تأثير أيديولوجيات وعصبيات حزبية وطائفية وشللية، وميلشيات من شتى الأنواع والمشارب، تقدم المشهد الثقافي بادعاء عريض لامتلاك الحكمة والموضوعية، وتصنيع مريض للقامات وتشويه مريع للحقائق.

إن الجسم إذا أصابه داء وتكاثر عليه الدواء وتعددت أنواعه بتعدد آراء الأطباء، قد يدخل في حالة من حالات التفاعل المتضاد والضار للأدوية وأساليب العلاج في اختلاطات فيضعُف أو ينهار أو.. وهو في مثل تلك الظروف يحتاج إلى حكمة المريض وتبصره من جهة، وإلى حكمة المداوي وعلمه وحنكته وحيوية ضميره من جهة أخرى.. وإلى أن يتعاون أولئك على توفير المناخ أو البيئة التي تساد على تقوية الجسم وإضعاف المرض، بفعل وصف الدواء الناجع للمرض بعد تشخيصه بدقة.. فهل إلى ذلك من سبيل في وضع دولنا ومجتمعاتنا التي لا تعاني من جهل المريض وقلة معرفة الطبيب وتضارب الأدوية فقط، وإنما من تدخل "مداوين" مسكونين بالشر والحقد، يقدمون السموم على أنها ترياق شاف، وهم يعرفون جيداً ما يقومون به ولماذا.. ويأتي على رأس أولئك في وضعنا العربي والإسلامي: الأميركي المخاتل، والصهيوني العنصري المعادي، والغربي الذي لم يتخلص من رسيس العداء العقائدي والأمراض التاريخية والاستعمارية المزمنة. 

قد يصدق في الوضع الذي نحن فيه الأخذ بالمثل العربي القائل: " ما حك جلدك مثل ظفرك"، ومدخل ذلك أن نعي حالنا وندرك الخطر القادم إلينا عبر مرضنا وأساليب معالجته.. فهل إلى ذلك من سبيل بالحكمة والإخلاص والتواضع والموعظة الحسَنَة؟! نسأل الله تعالى أن يوفقنا على ذلك، وربما كان مدخلنا الأساس إليه: ألا نثق بالأميركيين والصهاينة، وكشف أساليبهم المدمرة وأدواتهم الداخلية، وأن نتوقف عن تناول ما يصفونه لمرضنا من دواء.. فلعل وعسى أن نبرأ مما بنا من أدواء.

                                    والله ولي التوفيق

دمشق في 20/5/2011