خبر انهيار الأسرلة .. بقلم علي بدوان

الساعة 02:28 م|19 مايو 2011

انهيار الأسرلة .. بقلم علي بدوان

يعيش الفلسطينيون هذه الأيام الذكرى الثالثة والستين لنكبة فلسطين الأليمة، في مناخ مغاير لما تم فيه إحياء تلك المناسبة في السنوات الماضية. فالمناسبة تأتي هذا العام والحالة العربية على مستواها الشعبي والجماهيري تموج من أقصاها إلى أقصاها وهي تحمل بشائر الخير والأمل للشعب الفلسطيني بعد سنوات عجاف من انهيار النظام الرسمي العربي وانبطاحه الكامل.

وفي هذه البوتقة من التفاعلات، يستبشر الفلسطينيون بالخير القادم، وقد تعاظم كفاحهم الوطني، وبرز الدور الخاص لما تبقى منهم داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948، الذين أسقطوا رهانات الدولة العبرية التي سعت طوال العقود التي تلت النكبة على "اسرلتهم" وإنهاء هويتهم الوطنية والقومية، وقد وسعوا إطار عملهم الوطني، ورسخوا حقيقة انتمائهم العربي والفلسطيني كجزء أساسي لايتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني.

 ففي مسيرة العودة التي نفذها فلسطينيو الداخل المحتل عام 1948 والتي اتجهت نحو بعض القرى المدمرة في الـ (الدامون والرويسة) في الجليل شمال فلسطين إحياء لذكرى النكبة، أثبتوا هزيمة قانون النكبة وكل القوانين العنصرية التي سعت "اسرائيل" لسنها ومنعهم من أحياء ذكرى النكبة ومصادرة وعيهم وذاكرتهم.

فالحشود الضخمة في مسيرات العدو في مناطق الداخل المحتل عام 1948 داست بكلتا رجليها قانون النكبة العنصري وكل القوانين العنصرية المناقضة للطبيعة والمنطق الإنساني التي سعى قادة "إسرائيل" لسنها، وأوضحت ضعف المؤسسة الحاكمة التي تتوهم بأنها قادرة على سلب الوعي والذاكرة والانتماء للوطن عبر قوانين وسياسات عنصرية.

كما بعثت مسيرات العودة في الداخل الفلسطيني سلسلة من الرسائل، ومنها رسالة واضحة للثورات العربية والتضامن منها، ورسالة واضحة لا لبس فيها، في التحيز مجددا للمصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية، هذه الوحدة التي باتت أكبر من أطرافها ويجب صونها.

سقوط نظرية الاندماج

لقد فشلت الدولة العبرية الصهيونية خلال العقود الماضية من تدجين وأسرلة ماتبقى من الشعب الفلسطيني على أرض وطنه التاريخي، بالرغم من كل الجهود التي بذلت من أجل تحقيق هذا الغرض، وبالرغم من كل الممارسات التي اتبعتها "اسرائيل" في تقطيع أوصال العرب الفلسطينيين، وخلق الهوة بين مختلف أفراد وتكوينات المجتمع الفلسطيني، حيث عملت السلطات الإسرائيلية جاهدة لطمس الهوية العربية، فاختلقت تشكيلات قومية مصنعة صنفت من خلالها العرب الفلسطينيين وفق أربع خانات وضعتها على الهوية الشخصية لكل مواطن فلسطيني، فجعلت العرب المسيحيين والمسلمين السنة في خانة القومية العربية، وجعلت بدو النقب في خانة القومية البدوية، كما جعلت المسلمين الدروز في خانة القومية الدرزية، فيما جعلت لباقي الأقليات المسلمة من (شركس وتركمان) قومية خاصة بهم تحت عنوان قومية الأقليات، و فرضت عليهم الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي منذ عــــام 1958.

ولكن سرعان ما تبين للقيادة الصهيونية أن الأمور لا تسير حسب  المعادلة التي كانت في أذهانهم, وأن الأجيال الفلسطينية الجديدة التي ولدت ونشأت تحت الاحتلال وبعد النكبة, كانت أكثر إصراراً على مطالبها بالحصول على حقوقها  القومية والمدنية وانتمائها القومي، وفي دفاعها عن حق العودة لأبناء الوطن اللاجئين خارج فلسطين خصوصاً في بلدان الطوق المحيط بفلسطين في مخيمات وتجمعات اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن. وبالتالي استمرت المقاومة  ضدّ النظام العنصري المغلف بالديمقراطية, حيث هب الشعب الفلسطيني هناك في انتفاضات متتالية بدءاً من يوم الأرض الخالد عام 1976 وصولاً الى إسناد ودعم انتفاضة شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولاً الى مشاركة رموز حية منهم في أسطول الحرية لكسر الحصار الصهيوني المطبق على قطاع غزة قبل عام ونيف مضى، حيث رأت بعض المصادر الإسرائيلية أن مشاركة بعض الشخصيات من العرب في "إسرائيل" يشكل دليلاً قاطعاً على الانبعاث القومي الهائل والمصاعد في صفوف العرب الفلسطينيين داخل "إسرائيل" بالرغم من انقضاء أكثر من ثلاث وستين عاماً من قيام الدولة العبرية.

إن انهيار عملية الأسرلة، لم يأت من فراغ أو دون فعل مباشر ومتراكم، فقد  جاءت نهايتها بعد  ثلاثة أحداث رئيسية كان لها دور بارز في إعلان انهيار عملية الأسرة وسقوط وهم الاندماج، وكان أولها وأبرزها محطة يوم الأرض في الثلاثين من (آذار/مارس 1976)، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الكبرى عام 1987 المحطة الثانية في إحداث الانطلاقة الهائلة للوعي الوطني الفلسطيني، لكن المحطة الأبرز والأهم والتي فتحت فصلاً جديداً في حياة الشعب الفلسطيني في الأرض عام 1948 كان أحداث الانتفاضة الكبرى الثانية، واستخدام آلة القمع الصهيوني وبشكل حاد من قبل حكومة التسوية اليسارية العمالية ضد مظاهرة تأييد غاضبة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقطاع الأمر الذي أدى إلى سقوط ثلاثة عشر شهيداً، وسقوط نظرية الاندماج.

سياقات إعادة بلورة الهوية الوطنية

فالوقائع الدامغة أثبتت أن المواطنين العرب داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مع تقبلهم المر "الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم مع تسليمهم بوجودها في ظل تناسب القوى بين الطرفين"، إلا أنهم لم ولن يكونوا مستعدين للتماثل معها وتنمية مشاعر الولاء تجاهها، وعليه فان مبادرات ملحوظة تتأتي في سياق البرنامج الكفاحي لأبناء الوسط العربي الفلسطيني داخل حدود العام 1948 لفضح وتعرية طبيعة دولة إسرائيل والنزعة العنصرية التي تحكم بناءها، عبر الدعوة استبدال الدولة الصهيونية بـ "دولة لكل مواطنيها" والمطالبة بحقوق العرب أبناء البلد الأصليين بما في ذلك تغيير الرموز مثل العَلَم والنشيد.

 إن العرب الفلسطينيون المتجذرين فوق تراب وطنهم التاريخي داخل مايسمى بـ "إسرائيل" وبصمودهم وتفانيهم وإصرارهم على البقاء فوق أرضهم، تركوا بصماتهم على اتجاهات التغيير، حيث تزايد التأثير العربي كقوة سياسية وديمغرافية مهمة، لهم مكانتهم في الصراع في المرحلة المقبلة، فتعاظم الصعود في الانتماء الوطني جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وفي الصراع ضد نهب الأرض وتدمير القرى العربية، ومن اجل إزاحة كابوس التمييز العنصري والسير نحو الكينونة الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.

 ومما لا شك فيه بأن إعادة بلورة الهوية القومية/الوطنية لفلسطينيي الدولة العبرية الإسرائيلية لم تكن وليدة لحظات الانتفاضة، بل جاءت في سياق مستمر من التحول على أنقاض نكبة عام 1948، وبرز هذا التحول بشكل مميز أثناء هبة يوم الأرض في (30 آذار 1976) في مناطق الجليل والمثلث والنقب، في الناصرة وسخنين وأم الفحم، وكفر مندا، وكفر كنا، وراهط، وغيرها من المدن والبلدات في الجليل والمثلث والنقب. وإضافة إلى هذا، ولحسن الحظ، فإن عملية إعادة بلورة الهوية القومية لفلسطينيي الـ 48 تتغذى من سلوك سياسي واجتماعي بمضمون طبقي عند الأغلبية اليهودية الصهيونية الرسمية الحكومية والحزبية، فضلاً عن توالد اتجاه عام تدفع به الحالة المجتمعية اليهودية التي تصرفت مع العرب داخل حدود الدولة الإسرائيلية الصهيونية بمنطق اللامساواة في أي من مجالات الحياة، منطق أولاد "منطق أولاد الجارية" والتمييز العنصري والطبقي.

على كل حال، إن التجمع العربي الفلسطيني في مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 وعبر عقود النكبة التالية ، تبوأ موقعاً هاماً في الخارطة الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني، وبدوره المتنامي في العملية  الوطنية لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وبالآفاق المفتوحة أمامه للمساهمة في دعم كفاح الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والقطاع وعلى طريق انجاز الحل الاستراتيجي الناجز الذي يوفر العدالة الحقيقية على أرض فلسطين التاريخية.

 إن تداخل الوقائع وتزاحمها، داخل مناطق العام 1948 متفاعلة مع ما أحدثته الانتفاضة من تحولات على الأرض، يؤشر في الوقت ذاته إلى عوامل هامة تتغذى منها عملية اليقظة القومية النامية في صفوف فلسطينيي الـ 48 ويؤشر إلى شعور طاغي بالانتماء للشعب الفلسطيني الواحد الموحد على أرض القدس والضفة والقطاع ومخيمات اللجوء في الشتات، يميزه فارق الوضع الخاص لهذا التجمع، والفارق الطبيعي في برنامجه للبقاء والثبات من أجل عملية الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية.

استخلاصات

بالنتيجة، إن أبناء فلسطين داخل المناطق المحتلة عام 1948 داخل بوتقة العملية الوطنية الفلسطينية، فقد  تطورت على يدهم البنى الحزبية والمؤسساتية العربية المستقلة عن تأثيرات الحركة الصهيونية وعمليات الأسرلة في دولة ومجتمع محكوم بقوانين يهودية وصهيونية الدولة والتمييز العنصري في كل مؤسسات الدولة. فإسرائيل لم تتحول إلى "دولة إسرائيلية متعددة الثقافات" لكل مواطنيها من يهود وعرب على قدم المساواة القانونية والسياسية والاجتماعية كما حال الدول التي تشكلت في حمّى موجات الغزو الاستيطاني من المهاجرين وما تبقى من سكان البلاد الأصليين الذين تعرضوا لحروب الإبادة والمعازل والتهجير ومصادرة الأرض والوطن. كما أن دورهم أساسي ورئيسي في رسم وإحقاق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفي مقاومة البنية الصهيونية التوسعية الاستيطانية للدولة الإسرائيلية الصهيونية وصولاً إلى المساواة بين الجميع وهذا ما يفتح بدوره الأبواب الواسعة أمام تطور العملية الإستراتيجية التاريخية مرحلة مرحلة وصولاً للحل الديمقراطي العادل فوق أرض فلسطين التاريخي.

وبالمحصلة، إذا كانت الصورة السياسية لعمل الأحزاب العربية داخل فلسطين المحتلة عام 1948 في بعض تفاصيلها متشابكة ومعقدة احياناً، إلا أنها في مجملها تشير إلى تطور إيجابي على المستوى الوطني الفلسطيني، ويضعها أمام تحديات عديدة، أهمها ضرورة الاتفاق على إستراتيجية سياسية واحدة في  مواجهة التحديات الوجودية. غير أنه وفي ظل تعذر توحيد القوى السياسية العربية واتفاقها على برنامج سياسي موحد، فإن المطلوب اليوم الاتفاق على العناوين الكبيرة التي تحدد المسارات الأساسية وإعطاء الفرصة للجميع من أجل العمل بوسائله وإمكاناته وفي إطاره الفكري للوصول إلى تلك الأهداف ومن خلال تنسيق وتفاهم مشترك يحقق الحد الأدنى من الاتفاق ويسمح بتكريس الجهد الفلسطيني من أجل الأهداف الكلية. كما في العمل من اجل تكريس الهوية الفلسطينية بكل أبعادها الثقافية والسياسية في مواجهة الأسرلة ومحاولات تذويب الهوية الفلسطينية والانتماء الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 1948، خاصة وأن المجتمع الفلسطيني قد أثبت قدرة واضحة على الصمود والعطاء.

 

صحيفة الوطن القطرية