خبر الفلسطينيون موحدون.. فرحة مجروحة.. علي عقلة عرسان

الساعة 04:51 م|06 مايو 2011

الفلسطينيون موحدون.. فرحة مجروحة.. علي عقلة عرسان

في الزمن العربي الصعب، وفي خضم ما يطلق عليه ربيع الثورات العربية، وعبر نزيف الدم، وصخب العنف، وسيول المزاعم والادعاءات والأكاذيب في ساحات مواجهة داخلية حول الإصلاح والتغيير التي غدت أسلحة فتّاكة بيد أعداء الأمتين العربية والإسلامية، وعلَماً على إعلام الأنظمة والمعارضات والاحتجاجات، وسياسة يرسمها أو ينتجها الـ faecbook.. وأدوات التواصل الاجتماعي الأخرى.. في خضم ذلك كله، ومن خلال ذلك كله، يتسلل إلى قلوبنا شعاع فرح من كوَّة صغيرة، ولا أقول باباً أو نافذة، ليفتح مساراً صغيراً في درب لاحبٍ طمره الشوك، نحو أمل يتجدد كلما خبا، ويُستعاد كلما غاب، أمل بالتوجه التام وبكامل العزم والقوة والتصميم والوضوح، نحو قضية العرب المركزية، قضية فلسطين بكل أبعادها، والتمترس في خنادق الصراع الرئيس مع العدو الأول للشعب الفلسطيني والأمة العربية، العدو الأول للحقيقة والعدالة والقيم الإنسانية السامية، أعني الكيان العنصري الصهيوني المحتل وكل من يمالئه ويعلي ممارساته فوق القانون، ويضعه فوق المساءلة.. وشعاع الفرح الذي أعنيه هو يتأتى من استعادة الشعب الفلسطيني لوحدته، بعد أن عانى طوال أربع سنوات عجاف من التمزق والفرقة والاقتتال تحت مظلتهما، وخسر كثيراً بسبب ذلك، ولحقت به وبقضيته العادلة الأضرار والكوارث، من جراء صراع داخلي، تخللته فصول دموية وأخرى لا ترقى إلى مستوى المبدئية والمسؤولية الثورية والقيم النضالية العالية، بين فصيلي الثورة الفلسطينية الكبيرين، فتح وحماس، ذاك الصراع الذي بدأ منذ أربع سنوات، و"أصبح وراء ظهورنا وتحت أقدامنا الآن"، كما قال الأخ خالد مشعل من القاهرة، في أثناء الاحتفال بالتوقيع على وثيقة المصالحة الفلسطينية في الخامس من أيار / مايو / 2011 وهو صراع ساهم في وضع حد له تحرك الشباب الفلسطيني في كل من الضفة وغزة تحت شعار " الشعب يريد إنهاء الانقسام"، وجهد جهات وشخصيات ودول عربية وإسلامية.

لا أخفي فرحي الذي أشارك فيه إخوتي في غزة والضفة الغربية وفي المخيمات وفجاج الشتات الفلسطيني، ولا تمنعني أمور سوف أشير إليها باختصار شديد من أن أتوجه بالتهنئة إلى كل فلسطيني أينما كان، وإلى كل عربي ومسلم وإنسان تعنيه معاناة شعب مظلوم، وقضية حرية وتحرير وعدالة، ووقفة نضالية صادقة بوجه الاحتلال والحصار والقتل وانتهاك الحقوق والحريات.. على هذا الإنجاز الذي يؤسس لما بعده، وأسأل الله تعالى أن يكون ما بعده فيه خير للقضية وأهلها. وفي الوقت الذي أحيي فيه القيادات الفلسطينية، وكل الجهات التي ساهمت في صنع هذا الحدث، أوجه تحية خاصة للشباب وللمعتقلين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال على مواقفهم الصلبة التي ساهمت في تحقيق هذا الإنجاز، وعلى وفائهم للشهداء الذين رفعوا دمهم وتضحياتهم مشاعل في فضاء فلسطين، لتكون وحدة الشعب الفلسطيني من جديد المدخل الصحيح للنضال المجدي من أجل تحرير الأرض والإنسان.

الاتفاق اليوم أوراقٌ محبَّرة، ونوايا طيبة، وتطلعاتٌ إيجابية نحو المستقبل، وعزمٌ على التنفيذ بحرص وثقة ومرونة وأمل.. وفيه مصلحة لكل من فتح وحماس بالدرجة الأولى اللتين تحرصان على ما تحقق لكل منهما في الضفة وغزة مما هو معروف ومضمون في ظل أية صيغة من صيغ الحكم القادمة، وسوف تترجمانه بصور ما في الأداء القادم بر حكومة المستقلين، والصيغ التالية. وهو يشكل، بكل تأكيد، مدخلاً لتعزيز المشترك بين مناضلين أصحاب رؤى وآراء متعددة، وفصائل مختلفة في بعض التوجهات والخيارات والتفاصيل والوسائل وحتى حول بعض الأهداف القريبة والنهائية، ولا شك في أنه أساس يمكن بناء مداميك نضالية عليه، لأن القضية واحدة والشعب واحد والمعاناة واحدة.. ونحن مع أي اتفاق يقوي الصف الفلسطيني ويبطل كيد أعداء الأمة والقضية.. ولكن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه هو ذاته الذي توجسنا سابقاً خيفة من بعض نتائجه، حينما أعلنت صيغته النهائية في القاهرة بوساطة الوزير عمرو سليمان، وقد بقيت نصوصه تلك كمل هي من دون تغيير، وأتت الكلمات التي ألقيت في حفل التوقيع لتعزز ما ذهبنا إليه آنذاك من توجس خيفة، وما نذهب إليه الآن من مخاوف.

يلتقي الاتفاق مع المبادرة العربية/ قرار قمة بيروت 2002/ التي تعترف بالكيان الصهيوني دولةً على أرض فلسطين المحتلة قبل الرابع من حزيران 1967 وترضى بتسوية أو تصفية لحق العودة، بطرق يتفق عليها مع الكيان الصهيوني المعترَف به، وفق المبادرة، دولة في المنطقة وجزءاً من نسيجها الأمني والسياسي والاقتصادي .. إلخ، إذا اعترف ذلك الكيان بدولة فلسطينية على ما تبقى من أرض فلسطين في غزة والضفة الغربية لنهر الأردن، وعاصمتها القدس.. والاتفاق والمبادرة ينهيان عملياً القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني وحق تقرير مصير لشعب محتلة أرضه ومشرد نصفه في أرجاء الأرض، ويحول العمل والجهد ومتابعات القضية إلى نضال سياسي من أجل إقامة دولة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، دولة: "منزوعة السلاح، مخترقة بالمستوطنات، محاصرة بقوة العدو، ومشكوك بسيادتها وصلاحياتها وقدرتها على البقاء". وبذلك ينهي الاتفاق تدريجياً فكرة المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال، ويصادر حق كل فلسطيني يقوم بذلك الفعل المشروع دفاعاً عن النفس والأرض والحق والمقدسات، بل ويساهم في اتهامه بالإرهاب وملاحقته على التحريض، على نحو ما صدر من بيانات وتصريحات وإدانات في السابق، من مسؤولين فلسطيني على مستوى عال، لعمليات استشهادية وأفعال مقاومة نفذها فلسطينيون ضد الاحتلال الصهيوني، وعلى نحو ما تم ويتم حتى اللحظة، من ملاحقة واتهام، في أثناء التنسيق الأمني بين السلطة والكيان الصهيوني، وفق تفاهم مبني على أوسلو وخريطة الطريق والمساعدات الأميركية والأوربية التي تغير العقيدة القتالية للفلسطيني قبل كل شيء، وتحول جهد من نضال ضد الاحتلال إلى حماية للاحتلال والاستيطان؟!.       

وحين توقع الفصائل الفلسطينية كلها على هذا التوجه الذي يرسخه الاتفاق أو يسعى إلى ترسيخه عملياً، من دون تحفظ يذكر ـ اللهم إلا تحفظ الجهاد الإسلامي على ما يتصل بالحق في المقاومة، وهي من الفصائل التي وقعت أيضاً ـ وترضى بما رافق الاتفاق من إعلانات سياسية، فإنها تسحب حقها عملياً بالاعتراض مستقبلاً على أي جهد سياسي وأمني فلسطيني يؤدي إلى تطبيق ما يتضمنه أو يقتضيه تحقيق أهداف الاتفاق، وما يتم على أرضيته من مساعٍ سياسية.. وتبثُّ في الفضاء الفلسطيني، الفكري والنفسي والاجتماعي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تخليها عن أي فعل أو حشد أو دعوة للمقاومة، وترضى بفلسطين "المبادرة العربية واتفاق القاهرة" بديلاً لفلسطين التاريخية، وتعترف بـ " إسرائيل" دولة ذات حق في الوجود على أرض فلسطين العربية، تاريخياً، منذ الكنعانيين العرب الذين استضافوا إبراهيم الخليل عليه السلام في الخليل، حيث عنهم لغتهم، " شَفَةَ كنعان" ـ 1900، 1850 ق.م تقريباً ـ أي قبل مجيء موسى واليهودية بما يقرب من خمسمئة سنة من الزمان ـ 1400 ، 1350 ق.م ـ  وحتى يوم الناس هذا.

الواقعية السياسية، عربياً ودولياً، في الوقت الراهن، تعطي مسوِّغات لذلك التوجه السياسي، لا سيما في ظل الانفراط والتهالك العربيين، وإعطاء الظهر للقضية الفلسطينية، وارتماء أنظمة وتيارات سياسية عربية وإسلامية في حضن الأميركيين والغرب الصليبي الاستعماري، وقبولهم بالصهاينة وتصفية قضية فلسطين إذا ما احتضنهم الغرب ووقف إلى جانبهم.. والواقعية الإيجابية التفاؤلية، المبنية على منطق التاريخ ونبض الشعوب ونفَسها الطويل في النضال، ترفضُ تلك المسوِّغات والذرائع، انطلاقاً من حقيقة أن الوضع العربي والعالمي الراهن ليس وضعاً أبدياً ولا قدراً منزلاً، وأن الحقائق التي تفرضها القوة تنقضها القوة، عند توفر العزم والإرادة والوعي وعوامل الحق والعدل واستثمار مخزون الذاكرة القومية والوطنية إيجابياً فيما يخدم القضايا العادلة والحقوق الثابتة.. أما ما يفرضه الرضا والاتفاق والتنازل الانبطاح.. فإنه يمتلك بعداً تاريخياً وحقانياً مع الزمن، لا سيما حين يقرّه أهل القضية والحق، ويتنازلون لعدوهم عن حق وأرض وكرامة، ويعترفون بحق له في أرضهم.

من المؤكد أننا نقدم وحدة الشعب الفلسطيني على كل اعتبار، ونرى في تفاهم فصائله وتوافقها مدخلاً لقوة الصف، ومن هذا المنطلق نريد اتفاقاً مبدئياً ونؤيد كل تقارب ونباركه.. ولكن من المؤكد أيضاً وبالقدر ذاته، أننا نريد فلسطين العربية التاريخية أرضاً للشعب الفلسطيني وجزءاً من الوطن العربي، ونريد حقوق الشعب العربي الفلسطيني كاملة، ونرى إلى القضية الفلسطينية برمتها بوصفها قضية أمة ومسؤوليتها، وليست قضية بعض بلدانها أو قضية فئة من أبنائها " الفلسطينيون".. ولذلك ننظر إلى اتفاق القاهرة على ضرورة لهدف أعلى، ولمبدئية أرسخ، ولرؤية اشمل، ونضال أوسع وأطول نفَساً، ولكن نرى أنه، كما أتى بصيغته ومضمونه والأهداف البعيدة الكامنة وراءه، نتيجة من نتائج التمزق وشلل الإرادة السياسية والشعبية في الوطن العربي، وبعض آثار الاختراق الصهيوني البعيد المدى لمجالات عربية أمنية وسياسية وغير ذلك، وتبعية بعض العرب عامة، وبعض الفلسطينيين خاصة ومظاهر تلك التبعية، لقوى استعمارية غربية، لا تريد للعرب قوة وحرية وكرامة ووطنا مستقلاً عزيزاً، ولا تقر بأية صيغة قانونية عادلة توصلهم إلى ما لهم من حقوق ماداموا لا يملكون قوة تدعم حقوقهم، وتجعل صوتهم مسموعاً.. وتريد للصهاينة نفوذاً متنامياً، وتوسعاً جغرافياً أو سياسياً واقتصادياً مستمراً، وقوة مهيمنة، ومصالح مؤمَّنة وآمنة، في المنطقة كلها، ووطناً يتوسع على حساب العرب والمسلمين، ونكاية بكل العرب والمسلمين، ويملك من القوة ما يفوق كل ما يملكون، ليكون لهم حليفاً وقلعة متقدمة، وحربةً مسمومةً، ومدخلاً للتدخل في شؤون المنطقة من جهة، ولحماية مصالحهم ونفوذهم من جهة أخرى.

إن تلهي بعض العرب، ومنهم فلسطينيون بطبيعة الحال، بلعبة " السلام الإسرائيلي ـ الأميركي" لعبة عبثية وحتى غبية، وهم يدركون أكثر من سواهم، وقبل سواهم، عدم جدواها.. ولكنهم مع ذلك يدمنونها ولا يبحثون عن بدائل لها، حتى فيما بينهم وبين أنفسهم. وبمقدار ما تبدو لهم تلك اللعبة مكشوفة وممجوجة وعبثية غبية بمقدار ما يُقبلون عليها، ويعطونها الفرصة تلو الأخر على حساب كل شيء. وهم لا يريدون أن يتذكروا ألاعيب نتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين وحلفائهم في الإدارات الأميركية والغربية المتعاقبة، المتعلقة بالسلام وغيره من التفاصيل المرتبطة بقضية فلسطين وما اشتق منها ونبت على جذعها.. ويظنون أنهم يذهبون إلى مدى واسع جداً في التصعيد النضالي والسياسي حينما يخيِّرون نتنياهو بين " السلام والاستيطان" ـ يا الله.. فلسطين وحق شعبها أصبحا لقاء وقف الاستيطان؟! ـ  حين يقول نتنياهو إن اتفاق فتح وحماس يدمر فرص السلام، بعد أن كان يقول لا يوجد شريك في السلام لأن فتح وحماس منقسمتان، وأبو مازن لا يمثل الشعب الفلسطيني كله.. فمع من نقيم السلام؟! معترفين له ولغيره من الصهاينة بدولة في فلسطين، ولاحقاً بدولة يهودية على أرضها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الشعب الفلسطيني كله، لا سيما على عرب عام 1948 الذين بقوا صامدين في أرضهم، وقدموا للعالم رداً مفحماً على سؤالين استنكاريين صهيونيين، أو كذبتين يهوديتين كبيرتين.. فلسطين: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، و " الفلسطينيون أين هم".. وهو سؤال غولدا مائير المعروف، حيث قالوا: "ها نحن أولاء هنا في أرضنا التاريخية فلسطين، ملح الأرض وتاريخها، وتراث الأجداد وأمجادهم، جزء من الشعب الفلسطيني المتعلق بالحرية، المناضل من أجل فلسطين عربية.

إن تطوير الإرادة الفلسطينية، في إطار اتفاق القاهرة والمبادرة العربية، باتجاه خيارات مفتوحة، منها خيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال حتى تحرير الأرض، لا أرى أنه مما يمكن المراهنة عليه أو القول به، عند معظم الفصائل الفلسطينية في هذه الظروف، من دون إرادة تحرير رسمية عربية، وحاضنة شعبية ورسمية ملائمة.. وهما حاضنتان غائبتان الآن.. والتوقع التفاؤلي بتوجه فصائل فلسطينية نحو هذا الخيار، اعتماداً منها على الشعب الفلسطيني وتضحياته التي لم تُعرف تضحيات مماثلة لها، عبر تجارب الشعوب، أمرٌ ممكن، ولكنه محفوف بمصاعب ومخاطر كثيرة.. ولكن هذا الخيار لا غنى عنه، فلسطينياً عربياً، وعربياً فلسطينياً، بوصف القضية قضية أمة ومسؤولية أجيالها المتعاقبة، وليست قضية أنظمة وحكام يتعبون فيساومون أو يقايضون على بقائهم بتنازلات عن حق عربي هنا وآخر هناك. من هنا أرى أن على "فلسطينيين وعرب" التأسيس لحركة مقاومة، فكراً ووعياً وممارسة، مقاومة شاملة متعددة الجبهات والأذرع والأوجه، معتمدة على الشعب أولاً، بعيدة المدى، طويلة النَّفَس.. تكون نواة حقيقية لنهضة الأمة كلها.. وذلك وفق ميثاق المثقفين العرب، وميثاق آخر لمقاومة التطبيع والاعتراف، وضعا ونشرا في العقد التاسع من القرن العشرين، أو وفق لأية صيغة ترسخ مبدأ المقاومة للعدو المحتل وتحرير الأرض والقدس.. لأن فلسطين، كل فلسطين، عربية وليست للصهاينة، ولأن الكيان الصهيوني عدو لكل من وما هو عربي ومسلم وحضاري وإنساني، بالمفهوم الصحيح للحضاري والإنساني، وهو كيان عنصري دخيل ومحتل، لا يمكن قبوله، أو الاعتراف به، أو التعايش معه.. فالمحتل يُقاوَم ولا يُفاوض، والعنصري يُحاكم ولا يُسالم.

والله ولي التوفيق.

دمشق في 6/5/2011