خبر حجز الأموال والإرادة الفلسطينية.. عبد الستار قاسم

الساعة 05:03 م|01 مايو 2011

للمرة الثالثة تقرر إسرائيل حجز أموال تعود للسلطة الفلسطينية، هذا عدا عن المرات الكثيرة التي كانت تؤخر فيها الصرف. وفق اتفاقية باريس الاقتصادية لعام 1994، تقوم إسرائيل بجبي أموال الجمارك المترتبة على البضائع المستوردة عبر موانئها، ومن ثم تدفعها للسلطة الفلسطينية. وقد شكلت هذه الأموال جزءا من ميزانية السلطة، وساعدتها في تغطية جزء لا بأس به من النفقات. وتنص اتفاقية باريس على عدد من القضايا الاقتصادية الهامة ومنها تحرير اقتصاد الأرض المحتلة/67، وتقليل القيود على عمليات الاستيراد.

منعت إسرائيل هذه الأموال عن السلطة الفلسطينية بعدما شكلت حماس حكومتها على إثر فوزرها بانتخابات المجلس التشريعي، وضيقت الدول المانحة ماليا على الفلسطينيين كأحد وسائل الضغط من أجل امتثال الفلسطينيين لإرادة إسرائيل والدول الغربية عموما. ومنعتها أيضا بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية عام 2007، لأن الاتفاق الفلسطيني الداخلي لم يعجبها، ولم يعجب الأمريكيين والأوروبيين. وها هي إسرائيل تقرر التحفظ على الأموال إثر اتفاق المصالحة الذي تم التوصل إليه بين حركتي حماس وفتح. وسبق لإسرائيل أن تأخرت في صرف الأموال عدة مرات ذلك لأن السلطة الفلسطينية، وفق تبريرات إسرائيل، لم تكن تقوم بواجباتها الأمنية تجاه الأمن الإسرائيلي، أو ضد الإرهاب الفلسطيني، بالشكل السليم.

عدد من الذين لا يفكرون والمنحرفين، حسب رأي بعض كتاب السلطة الفلسطينية وبعض المنظمات الحكومية التابعة للغرب، حذروا مرارا وتكرارا من اتفاقية باريس الاقتصادية، وقالوا بوضوح إن هذه الاتفاقية تجعل من الفلسطينيين عالة على إسرائيل والدول الغربية، وهي تعلق حبلا اقتصاديا على عنق الفلسطينيين، وسرعان ما يضيق إذا زاغ الفلسطينيون عن رغبات من يمسكون بزمام المال. كان من المفروض التفكير مرارا وتكرارا قبل التوقيع على أي اتفاقية مع إسرائيل، لكن التفرد والارتجال حال دون المنهجية السليمة.

كان من المفروض أن نراجع أمرنا الاقتصادي عام 2006 عندما قرر الغرب وإسرائيل وقف تدفق الأموال لأن نتائج الانتخابات الفلسطينية لم تعجبهم. كان من المفروض أن يكون ذلك درسا قاسيا لنا جميعا ندرك من خلاله أن الأمر لا يقتصر على حماس والجهاد الإسلامي، وإنما يشمل كل الفلسطينيين الذين لا ينالون إعجاب الغرب وإسرائيل. كان من المفروض أن نوازن الأمور علميا، لكن المناكفات الداخلية طغت، وظهرت أغنية "وين الراتب وين" كتحريض على فوز حماس في الانتخابات، ووقف بعدها السيد محمود عباس يقول إن الخبز أهم من الديمقراطية. وما كان يعنيه هو التخلي عن إرادتنا السياسية الحرة مقابل الأموال التي تأتينا من الخارج. كانت بعض المواقف صاعقة على الرؤوس، وتحول شعار "نجوع ولا نركع" إلى شعار "نركع ولا نجوع." كانت مأساة حقيقية أن يصر جزء من شعب محتل على بقاء لقمة خبزه بيد عدوه، وغير آبه بإرادته السياسية الحرة التي من المفروض أنها هي التي ستقيم دولة فلسطينية.

وقد تفاقمت الأمور الاقتصادية بعد ذلك من قبل الحكومة القائمة الآن في الضفة الغربية لأنها أخذت تحول اقتصاد الضفة الغربية إلى عهدة البنك الدولي والرأسماليين الفلسطينيين، وذلك على نمط  السياسة الاقتصادية المصرية في عهد مبارك. فتحت الحكومة الحالية الباب لمزيد من الاستيراد، وارتفعت قيمة العائدات المالية التي تتحكم بها إسرائيل، وسهلت الاقتراض من المصارف لكي يقع الناس في الديون، ووبدأت تخصخص بعض الخدمات الهامة. وهنا أسأل العالم: من في الأرض وقع تحت الاحتلال وأخذ يفكر بالخصخصة الاقتصادية والأسواق المالية والتسهيلات المصرفية غير متنفذين في فلسطين؟

الآن، تتحدث وسائل الإعلام بكثافة عن غطرسة إسرائيل وسوء معاملتها للفلسطينيين، وعن عدم رضاها عن المصالحة الفلسطينية الداخلية ومخالفتها للاتفاقيات، الخ. صحيح أن الصهاينة منحطون وقتلة ودمويون وعنصريون ومستغلون وفتانون ومصاصو دماء، لكن هذا لا يعني الكثير في الميزان لأن العدو يعمل على إنهاك عدوه بمختلف الوسائل والأساليب. الذي يتحمل المسؤولية هو الذي يسلّم لحيته لعدوه. هل كان يتوقع أحد أن تطبطب على ظهور الفلسطينيين لأنهم تصالحوا؟ أو لأنهم قرروا أن يحلوا مشاكلهم الداخلية بأسلوب محترم؟

هل نتعلم الدرس هذه المرة، ونقرر أن إرادتنا السياسية الحرة أهم من المال الذي يأتينا من الغرب، ومن اتفاقية باريس الاقتصادية؟ هل آن لنا أن نعرف أننا بإرادتنا السياسية الحرة يمكن أن نتدبر شؤوننا الاقتصادية والمالية، وأن الخيبة كل الخيبة في الاعتماد على العدو في تمويل رغيف الخبز؟ وهل سنغير السؤال الاستنكاري التقليدي الذي يصر على التسول والقائل: "من أين سنطعم أولادنا" إلى السؤال: "ماذا بإمكاننا أن نفعل حتى لا يكون أولادنا تحت رحمة العدو"؟