خبر اللهم آمنَّا في ديارنا ... علي عقلة عرسان

الساعة 12:33 م|29 ابريل 2011

اللهم آمنَّا في ديارنا ... علي عقلة عرسان

 

رحم الله كبار السن من أجداد وجدات وآباء وأمهات، فقد كنا نسمع منهم عبارة لم نكن ندرك مراميها وأبعادها ومراميها بدقة كافية، وكانت تمر على أسماعنا من دون أن تترك لها مرتسماً في وعينا، كان قائلهم يحوقل ويقول: " اللهم آمنا في ديارنا"، ونقرأ في عينيه الشفقة والأسى. ومع الزمن بدأنا نشعر بأن لهذه الجملة معاني وأبعاداً أكبر مما استقر في ذهننا، ولكن بقي ما تنطوي عليه من معاناة وآلام وشقاء لا يصل إلى مشاعرنا.. وبعد أن رأينا أشخاصاً يُشردون من بلدانهم ويجتازون الحدود إلى بلدان أخرى، طلباً للأمن ونجاة من الموت، وتنصب لهم الخيام في العراء، ويتعرضون لما يتعرضون إليه من جوع وعري وذل، أخذتنا عليهم الشفقة، وماج في أعماقنا الغضب على من عرضهم لذلك، ولما يلاقونه من بؤس، وبدأنا نستوعب معاني الأمن والأمان والاستقرار في الأوطان.. ومر مشهد بعد مشهد، وزمن بعد زمن اقترب خلالها المعنى من مداركنا وأحاسيسنا أكثر فأكثر، حين لجأ إلينا الكثيرون من أقطار شقيقة خوفاً من الموت وطلباً للأمن، نتيجة العدوان والبطش والظلم والصراعات الدامية، حيث كانوا يتركون بيوتهم وأملاكهم وبلدانهم ويفرون طلباً للنجاة، وليس لديهم ما يحمي أخص خصوصياتهم، ومن رأى غير من سمع، شق الألم قلوبنا لما أصابهم، وأصبح وقع الحدث هاجساً، والواقع قضية ذات أبعاد قومية وإنسانية وروحية وثقافية.. وبدأ وعينا بأبعاد المشكلة يتسع، وتحملنا لنوع من المسؤولية يلح، وثرنا على سياسة تعبث بالإنساني والأخلاقي، تشعل ناراً وقودها الناس، يغذيها الحقد والدم والقتل، وتحصد الأرواح ويدفع الأطفال والنساء والشيوخ ثمنها بالدرجة الأولى. ولم يكن يخطر لنا على بال أننا يمكن أن نتعرض نحن أو نفر منا إلى مثل ما يتعرض له أولئك الذين نغضب أشد الغضب من أجلها ونواسيهم بما نستطيع تقديمه لهم من عون مي ومعنوي، إلى أخذ قسم منا يذوق طعم الحصار، ويرتعد من الخوف، ويعبر حدود الوطن إلى أقطار أخرى طلباً للأمن والحياة، وخوفاً من بعض لحمه وبعض دمه.

ولسان حال البعض منا يقول:

        " يا للنشامى قلبنا اليوم مجروح     جرحاً عميقاً بالحشا مستظلِّ"

أحشائي تنزف، ويدي تدين يدي، وعيني تبكي على عيني.. وأنا الجرح والسكن، الطاعن والطعين.. وعلى مرمى بصري بعض أهلي، يهجرون بعض أرضي، وينتشر بحثاً عن أمن من جوع وخوف، ويختار الفرار من الحصار.. وبعض أهلي يخاف من بعض أهلي.. فأية معان وأية أبعاد يكتسبها قول الأجداد والجدات والآباء والأمهات اليوم، ذلك الذي كان يرن في آذاننا ولا ندرك منه إلا ظاهر لفظه: " اللهمَّ آمنا في ديارنا ".؟!!     

في بلدي سورية اليوم غضبٌ، وقلقٌ، وتوجسٌ خيفة، وشكوك، وتطلعٌ إلى استقرار وأمن من جوع وخوف، وللشعب فيها مطالب مشروعة يصدع بها، وتدق الأسماع وأبواب القلوب.. ولدى مسؤوليها استجابة تطلب حقها من التفهّم والوقت لتصبح وقائع على الأرض، وشكوى من التحريض والتخريب واللعب بالنار، ومن تدخل خارجي يريد أن يحرف الحراك الشعبي المشروع عن مساره الصحيح، ليضعف البلد ويضعها في أتون الفتنة، ويجعلها في متناول قوى ذات أهداف ومصالح تريد أن تصل إليها بأية وسيلة، وتفرضها بطرق شتى، غير أبهة بالأثمان والنتائج.. وفي بلدي ما يشبه فوضى الحراك والرأي والتصرف، فيها القاتل والمقتول، المتورِّط والمورَّط، ومن يريد رأس الآخر شرط أن يبقى بعيداً عن العقاب، ومن يصدر عن موقف وطني سليم ومن يسلك سلوكاً مدمراً تحت راية الوطنية وهو مسوق بغرور وعنجهية نحو أفعل ضارة إلى أبعد الحدود، وهناك من يرى مصالحه ومواقعه ورهاناته وثاراته هي الوطن والمصالح العليا للشعب.. وهيهات هيهات أن يكون كل أولئك على حق، فمن بين الأكثر من سبعين فرقة ضالة ذكرها الحديث الشريف هناك فرقة واحدة ناجية. وفي وطننا وخراجه، من بين أبنائه وأعدائه من يجد في ذلك كله فرصة ليستثمر في العنف والفساد والإفساد، ويشجع على نشر الفوضى.. ويتلاوَذ بالحقوق والحريات والمطلب المشروع والممارسة المرفوضة والأخطاء الفادحة.. بالدم والقتل والتخريب ليصل إلى ما يريد.. ولكن الخاسر الوحيد في ذلك كله هو سورية: "البلد والشعب والقيم والمواقف والصلات والعلاقات".

لا يوجد في سورية اليوم من لا يقول بالإصلاح، ويؤكد على أهميته ومصداقية التوجه نحوه وسرعة تحققه، وإن كان هناك خلاف حول آفاقه ومدى شموله لقضايا هي موضع نقاش، ولكن يوجد فيها من يقول بالتغيير الجذري ومن لا يقول به ولا يراه مطلباً شعبياً واسعاً وهم الكثرة.. والحقيقة الساطعة أن سورية بعد السابع عشر من آذار 2011 لن تكون هي سورية بعد كل ما جرى ويمكن أن يجري منذ ذلك التاريخ وحتى انجلاء الغمة عنها، بأقل الخسائر وأسرع الأوقات إن شاء الله.. فمن كان غافلاً أو متغافلاً تيقظ وتنبه، ومن كان ساكتاً على فساد وظلم وضيم رفع صوته، ومن كانت له جراح يطلب علاجها ويسعى لشفائها، ومن لحقت به مظلمة أخذ يطالب برفعها.. وهذا بحد ذاته، على الرغم من الثمن الذي تم دفعه، يشق نهجاً جديداً، ويحث الخطا في الاتجاه الصحيح، حيث تتعافى سورية وتبرأ من أعراض وأمراض في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد..إلخ، وتسلك طريقها إلى الحرية والمساواة والديمقراطية.. إلى النهضة والتحرير والبناء والتنمية بوعي واقتدار، واستنارة ومثابرة، وتصميم وحسن تدبير.

إن كل وطني سليم الطوية والرؤية، يدرك جيداً أن استعداء الخارج على الداخل مرفوض ومدان وله مسمياته وصفاته في الأعراف والتقاليد، وعقوباته في القوانين والأنظمة، وكل من يملك حساً وطنياً سليماً، وانتماء اجتماعياً وقومياً صحيحاً يرفض الاستعانة بالخارج على الداخل، وبالأجنبي على الوطن، وينأى بنفسه عن ذلك كله.. وقد كان للمعارضة السورية موقف مشرِّف لا ينسى، في الوقت الذي اشتد فيه الضغط الأميركي على سورية وتم تهديدها مباشرة بعد احتلال العراق وتدميره يوم قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية كولن باول، لسورية مهدداً: " تذكروا أننا أصبحنا جيرانكم"، حيث رفضت المعارضة السورية في الداخل والخارج أن تنجر إلى الفخ الأميركي ـ إلا نفر لا يُعتَدُّ به منها ـ  وقالت بعدم الاستعانة بالخارج على الوطن، والاستفادة من الدرس العراقي المر الماثل للعيان.. وقد قدَّرت الجهات الرسمية السورية هذا الموقف، وأكبرته وأنزلته المنزلة اللائقة به. ولا أظن أنه موقف يُنسى أو يزول من الذاكرة. وإذا كانت هناك قلة قليلة من الأفراد المرتبطين ببرامج خارجية، أو ممن تصدأ قلوبهم فلا يرون بها وتصيب أبصارهم غِشاوة، وتختلط عليهم الأمور والخيارات والمسالك، بتأثير إغراء وشهوات، أو بسبب ظروف وضائقات وغربة وظلم ومعاناة وضيم.. فإن أولئك لا يمثلون الكل، ولا يشكلون الخيار الشعبي العام أو المعبر عنه، ولا ينطقون باسم من ظُلم وعانى، وإن لاكوا مطالب المحقين في مطالبهم من أبناء الشعب في الداخل والخارج.. ممن يسعون إلى يحققها بأساليب مشروعة أو مرفوضة، لكن تحت سقف الوطن والانتماء.   

إن المسؤولية الأولى تقع على القيادات العليا والجهات الرسمية المعنية، حيث يجب عليها أن تبادر إلى إبداع الحلول واتباع الإجراءات والقيام بكل الأعمال والمبادرات التي من شأنها أن تحفظ للمواطن حرمة دمه وأمنه واستقراره وحقوقه وحرياته وكرامته، بعيداً عن المعاناة وعن أية ممارسات مرَضية ومسيئة من أي مصدر أتت ولأي سبب كانت، وبعيداً عن كل فوقية أو وصاية وعنجهية وغطرسة، من شأنها أن تخل بالمساواة والدستور والقوانين والأعراف الاجتماعية واللحمة الشعبية القوية التي هي عماد قوة سورية، ورصيدها الذي تباهي به البلدان. وعليهم ألا يعرضوا المواطن للكبت والقمع، بل أن تعالج شكواه بوصفها من تسلم منه أمانة على شؤونه، ومن يقوم بخدمته، والمكلف منه بالقيام بواجبات، وتسلم مهام ومسؤوليات وأمانات يحاسب عليها من قبل الشعب وباسم الشعب، صاحب القول الفصل في كل أمور الوطن، ومصدر السلطات، ومن يعطي الثقة لمن يشاء وينزع الثقة ممن يشاء، وفق الدستورية والقوانين والمشروعية الأخلاقية الشعبية المرعية التنفيذ، وهو يختار المؤتمَن على الشأن العام ويحاسبه، من دون أن يكلفه ذلك دماً ورهقاً وعنتاً. كما أن على تلك القيادات المسؤولة أن تقوم بكل ما من شأنه أن يمتص الغضب، ويصحح المسارات، ويلبي المطالب المشروعة ويقدم الخدمات، ويجتث الفساد والمفسدين ومن يسخرون الوطن لخدمة أشخاص أو جهات أو فئات، وبكل ما يقضي على الظلم والظالمين والتسلط والمتسلطين، ويعلي شأن الوطن والمواطَنة والإنسان والقيم، ويقوي الصف الوطني، ويحفظ قوة الجبهة الداخلية، ويفوت على الأعداء وأدواتهم الفرص التي يبحثون عنها لإشعال الفتنة والاستثمار في العنف الأعمى، والفوضى المدمرة، والصراع الدامي.. وعليها من أجل ذلك كله أن تعمل على الارتقاء بالوعي المعرفي، وبمفاهيم المواطَنة والوطن والانتماء، أن تنشر الثقافة الجادة، والقيم الرفيعة، وكل ما يرسخ القيم الخيرة كلها.. لأن إهمال الشأن الثقافي، أو الاعتماد على من لا يملك القدرة على تقديم الزاد المعرفي البناء الذي يساهم في التكوين الروحي والقومي والوطني، ويمكِّن الشخص من المحاكمة السليمة، وتحكيم المنطق فيما يُقال ويُسمع ويُقرأ ويعمَل، ويعمِّق المفاهيم ويجلو الغامض منها وينير المشكِل من القضايا والأمور، ويعبر عن الحق والشعب، ويخوض خير الجهاد بجرأة وحرية ومسؤولية وعلم واقتدار.. وعليها القيام بكل ما من شأنه أن يوضح الحقائق ويدعو إلى التمسك بها، ويضع الناس في نور المعرفة الصحيحة، والمعلومة الصادقة الواضحة ليساهم في تكوين الرأي العالم ووقوفه وراء الحقيقة، ويبعد المواطنين عن تأثير الفكر الضار والتيارات المشبوهة والدعوات المريضة، وعن تأثير من يمكن أن يلعب بهم ويجرهم إلى مواقفه وخدمة برامجه ومصالحه ويسخرهم التنفيذ أغراضه.. كما أن عليها أن تعمل كل ما بوسعها لتحصنهم من مخاطر الحاجة والضعف النفسي أمام الإغراء والإغواء.. وفي مقدمة ما يني ذلك الإيمان والقدوة الحسنة. إن القيادة أمانة وريادة في دروب العلم والنهضة والحق قبل أن تكون جاهاً وسلطة وقراراً وأمراً ونهياً، ومنصباً أو مكسباً.. وكل عاقل وحكيم يدرك أن القيادة والرئاسة والسلطة ثقة وتكليف وأمانة ومحبة من الشعب تمنح لحزب أو كتلة أو شخص وتنزع من حزب أو كتلة أو شخص بإرادة يكونها العمل الصالح العادل القادر بالدرجة الأولى، وأن الجمهورية ديمقراطية، وتداول سلطة حسب أصول، تحت سقف الدستور والقوانين، وبإرادة الشعب واختياره الحر ورضاه واستمرار قبوله ورضاه، في إطار حرية ومساواة هما حصانا عربتها البهية المهيبة الفاخرة.. ولن تكون السلطة فرضاً، ولن تدوم إذا فُرضت، لأن ما يفرضه السيف يرفع بالسيف.

إن المطلوب اليوم في بلدنا العزيز، للخروج من المأزق الذي دخلنا أو أُدخلنا فيه، مبادرات خلاقة ومسؤولة وسريعة، تعزز الثقة، وتعيد الاعتبار للإنسان وحرياته وحقوقه وكرامته، وتلبي مطالبه المشروعة، وتحتضن كل أبنائه، وتأخذ بالتسامح من غير تفريط، وبالضبط القانوني من دون إفراط، وتؤلف بين القلوب، وتداوي الجراح، وتتفهم كل صغيرة وكبيرة وخلفياتها لتحيط بالأمور وتصل إلى الحلول البناءة، على ألا يكون ذلك على حساب الحقيقة والوضوح، وأن يرفع شأن الوطن ومصالح الشعب فوق كل مصلحة وشأن، أياً كان موقع صاحب المصلحة أو الشأن، وتقيم الحوار بين السوريين المعنيين به جميعاً وبالشأن الوطني العام حقيقة، على أسس ومنهج ورغبة في الانتقال إلى الموقع الصحيح والعادل والسليم الذي يقود ‘ليه الحوار وتفرضه المصلحة العليا للوطن والشعب، من دون تمترس في المواقع وتشبث بالمواقف، وتراشق بالرصاص أو بالكلام.. وأن يتم ذلك فق مبادئ وقيم ومسؤوليات والتزامات وطنية وأخلاقية، على أرضية من الثقة المتبادلة والرغبة الصادقة في الوصول إلى أمن من جوع وخوف، واستقرار وازدهار، ونهضة وقوة، على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، تعززان مواقع الوطن ومواقفه وحقوقه ومصالحه ومبدئيته، وسعيه لتحرير الأرض واستعادة الحقوق واحتضان كل أبنائه في كل بقاع الأرض، وجعلهم متساويين تماماً في الحقوق والواجبات في واقع الممارسات والمعاملات والمسؤوليات، وبناء العلاقات بين الأفراد والأحزاب والجهات المعنية بالشأن العام على أسس الموطَنة السليمة والشراكة الفعلية في القرار والمصير، وتحمل المسؤولية التامة حيال الوطن والمواطن، وتحكيم القانون بشأن كل من أراق دماً أو أضر بملك خاص أو عام، أو ارتكب فساداً وإفساداً، أو قام بعمل يعاقب عليه القانون..

ويبقى من قبل ذلك ومن بعده، وفوق ذلك وعلى رأسه: حكمة من يُعلي شأن الحكمة بإبداع ليجمع شمل الشعب، ويأسو الجراح، ويرتفع بسورية إلى المستوى اللائق بها، وطنياً وعربياً ودولياً وإنسانياً.. فسورية لا تستحق ما لحق بها خلال الأيام الماضية، وليس هو في مصلحة أي من أبنائها ومكوناتها وقواها.. لتعود وشعبها إلى أمن من جوع وخوف، وأمان من كل مكروه، و"نأمن في ديارنا"، وترتاح أرواح أجدادنا وجداتنا، وآبائنا وأمهاتنا.