خبر شهيدة بلا شهود آخر ..أمجد عرار

الساعة 05:06 م|26 ابريل 2011

لم تمت في حادث سير مروّع، ولم تسقط من شرفة بناية، ولم يتوقّف قلبها الغض عن الخفقان بعد صراع غير متكافئ مع مرض عضال . ليست ضحية تلوّث أو خطأ طبي ولا أصابتها عدوى قاتلة، ولم تكن زهرة أذبلها العطش . لم تقتلها قذيفة “إسرائيلية” أطلقتها دبابة أو أسقطتها طائرة تحمل بصمات الصناعة الأمريكية أو الفرنسية . ليست هذه فزّورة أو أحجية، بل مأساة مضى على حدوثها بضعة أيام، ومرّت على وسائل الإعلام إما بالتجاهل التام أو مرور الكرام . هي عبير يوسف اسكافي، مجرد طفلة فلسطينية من مدينة خليل الرحمن لم يتجاوز عمرها أحد عشر عاماً، لم تجد ما ترد به على الاحتلال الذي حرمها من زيارة والدها في السجن، سوى التعبير عن فقدان معنى الحياة عندما يتحكّم فيها مستعمر بغيض يمتهن السادية، ويعلّق على جدرانه شهادات عليا في الوحشية . منع الاحتلال الطفلة عبير من احتضان والدها فماتت .

هل هي تستحق الاهتمام؟ إنها مجرّد طفلة وليست سوقاً تطمع في غزوها شركة عابرة للحدود، ولا هي مادة خام ينزل اللعاب لأجلها . ليست ميدان معركة يطمع تجار السلاح بغزوها للتجربة والبيع، ولا يكفي جسدها النحيل أن يكون حطباً يطيل أمد النار، أو مسماراً يفسّخ خشبة وحدة وطنية ما . هي أصغر كثيراً من أن تهبط عين مجلس الأمن إلى مستواها فيراها، وأقل أهمية من أن يلتفت إليها المارّون في الكلمات العابرة للصفحات الصفراء . إنها شهيدة صغيرة واضأل حجماً من أن يشاهدها “شاهد عيان” أو عشر “منظمات حقوقية” تتسابق على التمويل .

لم يحتل خبر استشهادها بضع ثوانٍ في وسائل الإعلام على اختلافها، ولم تزاحم المحلّلين والمفكّرين “المفرمتين” والخبراء العسكريين على شاشات تضيق بمناكبهم العريضة، ولم يتحرّك لأجلها الناشطون الحقوقيون ومؤسساتهم المموّلة جيداً، وتجاهلوها كما تجاهلوا والدها ومعه ثمانية آلاف يقبعون خلف القضبان وفي الأقبية الحجرية في سجون الاحتلال . لم يقل أحد إن من حق طفلة أن تزور والدها وألا تشملها عقوبة فرضت عليه لأنه قال “لا” لاستمرار الاحتلال على أرضه . لم ينتصر أحد لقضيتها، ولم تهب “شهامة” الغرب لحماية حقها في احتضان أبيها لخمس دقائق كي تعود إلى بيتها وتعيش أسبوعين آخرين حالمة بخمس دقائق في حضنه في الزيارة المقبلة .

هل من أحد يقصفنا بمرآتنا كي نرانا ونحن تحدّق عيوننا المتقابلة ببعضنا بعضاً وجهاً لوجه على جبهتي الانقسام والفتنة؟ فلم نعد ننظر جانباً لنرى واقعنا المزري، ولم نعد نرى ضرب الوحدة الوطنية خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، والوطن الذي كان جناحين لطائر واحد، أكثر أهمية من الفصيل والقبيلة وأمراء حرب لم تعد إلا أهلية .

لكن مهما يكن، لن تبقى عبير شاهدة بلا شهود، ولن يرحم التاريخ قوماً “كلما شيّدوا قلعة هدموها” . لم يعد اللاجئون وحدهم لبّ القضية، فهناك كثيرون من يحتاجون للعودة إلى النفس والتاريخ، لأن من يخرجون من الجغرافيا سيعودون إليها مهما طال الزمن، شرط أن يحملوا معهم ذاكرتهم بلا حقائف ودفاتر شيكات، أما من يخرجون من التاريخ، فلن يقبل عودتهم إلا إلى مزبلته.