خبر مصر لا « إسرائيل » النموذج الديمقراطي.. علي جرادات

الساعة 05:23 م|24 ابريل 2011

كسمة غالبة في الحياة السياسة العربية، غابت سيادة القانون بين الحاكم والمواطن، بل بين “الخالع” و”المخلوع” من الحكام . فقد كان السحل أو التأبيد في الحبس أو المنفى أو الإقامة الجبرية مصير كل حاكم “مخلوعٍ” بانقلاب عسكري، وذلك على قاعدة أن الحاكم الجديد يَجُب سابقه دون محاكمة، تضعه كبرنامج وأداء في كفة ميزان الإنجازات والإخفاقات، ما يُضمر إضفاء سمة “المخلص” على الحاكم الجديد، ويؤسس لعدم تقييم برنامجه وأدائه اللاحق، ليكون التغيير تغييراً للشخوص وليس تغييراً للبرامج والسياسات والأداء، على طريقة "أبلسة" "المخلوع" و”تقديس” “الخالع”، خارج أية مكاشفة أو تقييم واقعي ملموس .

هكذا كانت الحال منذ نصف قرن ويزيد إلى أن سجلت مصر الشعب والدولة سابقة تاريخية، تمثلت بصدور قرار يقضي بالتحقيق مع الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، على طريق تقديمه لمحاكمة عادلة، خلافاً لما كان قد جرى مع رؤساء عرب سابقين منهم: أمين الحافظ ونور الدين الأتاسي في سوريا، وعبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في العراق، وأحمد بن بيلا في الجزائر وعبدالله السلال وإبراهيم الحمدي والغشمي وقحطان الشعبي وسالم ربيع علي في اليمن وجعفر النميري في السودان، و . . إلخ .

ولا غرابة في أن تكون مصر، الدولة العربية الأعرق، رائدة تسجيل هذه السابقة التاريخية، التي تجاوزت تعسفية السحل والسجن والنفي والإقامة الجبرية دون محاكمة . وسيذكر التاريخ العربي لمصر الشعب والثورة والدولة تسجيل هذه السابقة، التي تنطوي، (إضافة للسياسي)، على ما هو ثقافي وحضاري من الدلالات، وسيكون لصوتها، تقدم الأمر أم تأخر، صدىً في الفكر السياسي العربي وأنظمته، بما يؤسس لقيمة ثقافية تعلي شأن القانون والقضاء واستقلالهما وسيادتهما، وبما يكرس ممارسة تبرير وتعليل أية عقوبة بحق أي مواطن، حتى لو كان حاكماً أزيح عن السلطة، بديلاً لفرض العقوبة التعسفية، كوجه آخر لعملة السيطرة على السلطة والاستمرار فيها بالقوة، وخارج أي شكل فعلي من أشكال القانون والدستور والمساءلة الشعبية .

تدشن هذه السابقة المصرية التاريخية بكل المعاني ميلاد ثقافة سياسية عربية عصرية، يطالب الحراك الشعبي العربي بتأطيرها في صيغ قانونية ودستورية يحتكم الناس إليها، ويتقاضون وفقها، بما يمنع أن يكون أحد فوق سلطة القانون والقضاء، لا كمبدأ يحمي البشر من الطغيان والاستبداد والتعسف السياسي فقط، بل أيضاً كديناميكية ناجعة لرسوخ الدول واستقرارها وتعزيز منعتها وتطورها ووحدتها وصون منجزاتها ومكتسباتها، بعيداً عن أهواء “القائد الأوحد” وتقلباته، بعد ثبوت أن منعة الدول لا تقاس بما تمتلكه من عوامل قوة عسكرية وأمنية فقط، بل أيضاً بما تحظى به شعوبها من حريات ديمقراطية تتيح تفجير كامل طاقات المجتمعات وابداعات مكوناتها، وهذا لا يكون إلا بسيادة ثقافة المساواة بين مواطنيها، المُعَبرُ عنها في تساويهم حكاماً ومواطنين أمام سلطة القانون .

لم تكن ظاهرة غياب سيادة القانون في الحياة السياسية العربية نبتاً شيطانياً، بل، كانت تجلياً طبيعياً لغياب المرجعيات الشعبية والقانونية والدستورية الفعلية، ما جعل المطالبة بهذه المرجعيات، مطلباً أساسياً مشتركاً للحراك الشعبي العربي، الذي يناضل في ما يناضل من أجل استعادة الشعوب العربية لسيادتها، بوصفها مصدر كل سلطة وتشريع ومرجعهما، بما يعيد معادلة علاقتها بحكامها إلى نصابها الصحيح . ما برهن على أن الشعوب العربية ليست استثناء، وليست حالة “خارج التاريخ”، كما وصمها العقل الاستشراقي وتابعوه، (لجهل أو لمصلحة)، بل، تستطيع ككل الشعوب، إن هي كسرت حاجز الخوف استرداد حقوقها السيادية، وبضمنها الحق في بلورة نظام حكمٍ عصري، يسوده قانون يتساوى الموطنون أمامه، ويتقاضون وفقه، ولا يكون أحد فوقه، بصرف النظر حكاماً كانوا أم محكومين، وبمعزل عن انتماءاتهم القومية والطائفية والمذهبية والجهوية والجنسية . . إلخ .

وفي هذا نقلة نوعية على أحد أن لا يقلل من شأنها، أو من شأن ما تفضي إليه كصيرورة من إنجازات . فقد كان طبيعياً ومنطقياً أن يتلو نجاح الحراك الشعبي العربي في تنحية رئيسين عربيين “حتى الآن”، نجاح آخر، تمثل في إخضاع الرئيس المصري السابق وأبنائه، فضلاً عن مسؤولين سابقين في نظامه، للتحقيق على طريق تقديمهم لمحاكمة عادلة، كسابقة لا بد أن ينتقل صوتها إلى بقية الأقطار العربية، رغم ما بينها من تمايز نسبي . إذ ألم يجرِ التشكيك في ممكنات انتقال صوت الحراك الشعبي التونسي الريادي إلى باقي الأقطار العربية، فماذا كانت النتيجة؟ ألم يكن الانتقال أسرع وأوسع مما توقع حتى أكثر الناس تفاؤلاً؟

وأكثر من ذلك، فإنه يمكن اعتبار السابقة المصرية الأخيرة بمثابة واحدة من أهم إنجازات الحراك الشعبي العربي، التي تتراكم وتسير قدماً رغم ما تواجهه من ثورة مضادة داخلياً وخارجياً، وفي المقدمة منها التدخلات الغربية بقيادة أمريكية، ناهيك عن الكيان الصهيوني الذي شكل كبح التغيير الوطني والديمقراطي في الوطن العربي إحدى أهم وظائفه، ما جعل هذا الكيان في حالة تصادم موضوعي مع التغييرات العربية الجارية، ذلك لأنها، فضلاً عمّا تعنيه من تفجير لطاقات الشعوب العربية في الصراع معه، فإنها تشكل بداية لشطب أسطورة “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، تلك الديمقراطية الداخلية التي، وإن تغنى بها الصهاينة وحلفاؤهم لمصلحة أو لجهل، إلا أنها تبقى ديمقراطية زائفة أو مجتزئة طالما تم توظيفها لتمتين كيانهم الاحتلالي الاستيطاني الاقتلاعي الابتلاعي الغاصب، وطالما جرى استعمالها للتغطية على كل ما قام به هذا الكيان من تطهير عرقي في فلسطين، وما قام به من عربدات واحتلالات وحروب وكبح للتغيير وحراسة للتبعية في المنطقة العربية .

بكلمات: إن الإنجازات الديمقراطية للحراك الشعبي العربي حتى الآن، وآخرها السابقة التاريخية المصرية سوف تحرم الكيان الصهيوني من وسيلة دعاية طالما استخدمها بحذق منذ قيامه وحتى اليوم .