خبر لن ينسوا أريغوني... أمجد عرار

الساعة 06:42 ص|20 ابريل 2011

فيتوريو أريغوني . . لا نعرف كم سيصمد هذا الاسم في الوقت الفلسطيني المبعثر، قبل أن تبخّره حرارة المزايدات والمناكفات المملوءة بالفراغ؟ هذا المتضامن الإنساني الإيطالي قدّم درساً يرتقي إلى مستوى الصفعة لفرسان الانقسام في “جمهوريتي” الضفة وغزة العظميين . لكن البسطاء لن ينسوا مجسّم الإنسانية هذا، فكم كانت جارحة تلك الدموع التي انهمرت على وجنات فتيان عرفوا أريغوني ولفحتهم حرارة تضامنه مع غزة منذ اللحظة الأولى لكسره الحصار قبل ثلاث سنوات . لا نعتقد أن أحداً من السبعة مليارات إنسان، بإمكانه العثور على شيء واحد يغري أوروبياً لكي يقيم في غزة، سوى شعور إنساني يحيل المكان المحاصر إلى أفق للحرية، والأسلاك الشائكة إلى شجرات لبلاب .

 

لماذا اختطفوه وانتزعوا ذراعيه من على أطفال غزة؟ . بعضنا يتهم “إسرائيل”، لكن إذا كان القاتل غيرها، سيكون اتهامنا لها أخطر من القتل نفسه، لأنه يعطي القاتل ستاراً يمنحه القدرة للوثبة التالية على فريسة أخرى . لا نملك دليلاً على مسؤولية “إسرائيل” المباشرة، لكنّها المستفيد الأول من الجريمة، ومن ارتكب الجريمة خدمها، إذ أشعل الضوء الأحمر في وجه كل متضامن دولي يفكّر في كسر حصار غزة . لكننا واثقون بأن هؤلاء الذين يمتطون صهوة أمواج المحيطات للوصول إلى غزة، لن يحول بينهم وإنسانيتهم هذا الجدار وإن كان دموياً . أول هؤلاء كانت أم أريغوني التي تحدّثت عن حلمها بزيارة تلك الأرض التي عشقها فلذة كبدها وقضى نحبه فيها . لقد فهمت الرسالة إذ قرأتها خلافاً لما أراد القتلة، فخابت مراميهم .

 

إننا أمام جريمة اغتيال للإنسانية . بعض الناس تبخّرت آدميتهم عن آخرها، بعضهم الآخر يقطر دماً فاسداً، وآخرون يذهبون مئات الأميال بحثاً عن متجر يشترون منه النذالة احتياطاً حتى لا ينفد . بعضهم لا يرضى أن يَمضي يوم من حياته من دون أن يشبع نهمه من الخسّة والانحطاط، وآخرون يرضعون من ثدي الجشع حليب الردة عن كل شيء جميل . لكن جيل الثورة سيبقى فعله يتساقط على الأرض النديّة قطرات ندى إنساني مما تبقى من غيوم القيم الآدمية . لهذا كلّه كان صراخ أصدقاء أريغوني ومحبيه صدى لوجع ينزّ من حجرات القلب وشرايين الذاكرة وقنينة الحليب، وتصادماً بين جبال الزمن وصراعاً بين ما كان وما أصبح وما سيكون .

 

نتمنى أن يقدّم لنا هؤلاء القتلة فائدة واحدة تجنيها غزة من هذه الجريمة . هم لم يقدموا لغزة سوى ما جاد به قلم محمد الماغوط: أعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب . . أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد . . أعطونا الحليب المجفف وأخذوا الطفولة . . أعطونا السماد الكيمياوي وأخذوا الربيع . . أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان . . أعطونا الحراس والأقفال وأخذوا الأمان .

 

إذن . . جاء أريغوني إلى غزة بقلب نابض بالحب والتضامن، وغادرها جثّة هامدة . كان بود غزة أن تضخّ من دمها في شرايين أريغوني، لكنها نزفت أكثر مما تحتمل . كانت تريد أن تذرف مزيداً من الدموع، لكن الدموع جفّت في مآقيها والوجنات تشققت . كأننا نسمع صوتها يشق جدار الصمت والحصار: من أي طينة هؤلاء؟ عفواً، فالطين من مكوّنات الأرض، وهؤلاء بريئون منه ومنها .