خبر الأسرى الفلسطينيون في يومهم: ما أضْيَقَ السجن لولا فسحة الأمل../ علي جرادات

الساعة 08:03 ص|13 ابريل 2011

الأسرى الفلسطينيون في يومهم: ما أضْيَقَ السجن لولا فسحة الأمل علي جرادات

أسبوع ويحل السابع عشر مِن نيسان، هو يوم ستة آلاف أسير فلسطيني، والأهل والوطن لهم ينتظرون. ويلحون بالسؤال: متى يتحررون؟! غادرتُهم قبل عام، ولكن بعضي، إن لم يكن كلي مازال عندهم! غادرتُهم وما زالوا يسألون: كيف لنا أن نحيا ضِيق السجن ولا نسمح له أن يحيا فينا؟! كسؤال مَن "ألقيَ في الجبِّ وقيل له: "إياك إياك أن تبتل بالماء"!

 

   السجن في أحد معانيه هو التجسيد الأقسى لضيق متعدد الأوجه لا يحس بها إلا من عاش السجن لسنوات وسنوات. فالسجن مَفْرَخَةٌ للضيق، لأنه:

*ضَيِّق بحيزه الجغرافي، وما يخلقه ذلك من ضِيق نفسي.

*وضَيِّقٌ بضيق حيز "البُرْش، وما يولده ذلك من نكد تفاصيل العيش وأسئلة: أين أضع ملابسي؟! كيف لي أن أتحرك دون إزعاج زملائي؟! وكيف....وكيف الخ...

*وضيِّقٌ بروتينه يلد تواظباً للعقل لا يقوى السجين على تجنبه إلا بالترفع عن تفاصيل هذا الروتين.

*وضيِّق في اهتماماته، وما يخلقه مِن تَدنٍ لسلَّم أولوياتالبشر.

*وضَيِّقٌ في نوافذ الإطلال على رحابة حياة الخارج، وما يخلقه ذلك من ضيقٍ للافق لا ينجي السجين منه إلا الإنشداد إلى كبير الاهتمامات.

*وضَيِّقٌ في ندرة إمكانياته وشُحِّها، وما يولّده ذلك مِن تنافس لا يتجاوزه السجين إلا بالتنظيم وروح عيش الجماعة.

*وضَيِّقٌ بضيقِ عقلِ حُرَّاسِه وحرفية التزامهم بتنفيذ ما يُعطى لهم من أوامر وتوجيهات، وكل ما يفرزه ذلك من صور القهر اليومي للسجين، لا يَحُولُ دون استسلامه لها إلا إرادة خوض المعارك مع السجان لتقليص المسلوب مِن حريته، وزيادة المُسترد منها له كإنسان. وللمرء أن يتخيل عمق ما تنتجه هذه المعارك اليومية من كراهية متبادلة بين السجين والسجان.

 

*وضَيِّقٌ بضيق فتحة مفتاح الزنزانة، لا يدور لفتح قفلها إلا وفق المُعَدِّ المُبَرْمَجِ من قواعد "الأمن"، ومزاج الحارس في تنفيذها، وتبعاً لتراتب صلاحيات الحُراس.

*وضَيِّقٌ بضيق ما يملك السجين مِن عوامل القوة الفيزيائية قبالة ضخامتها لدى السجان. وهذا ما يفرض أن يستنفر السجين عواملَ قوته المعنوية والأخلاقية كالامتناع عن تناول الطعام والدواء، ورفض زيارة الأهل والمتاح من نزهة (فورة) يومية.

 

*وضَيِّقٌ بضيق برمجة حياة السجين لا يأكل إلا ما يريده له السجان أن يأكله، وفي الوقت الذي يحدده؛ ولا يصحو أو ينام إلا في مواعيد يحدّدها السجان؛ ولا يتنقل في حيز السجن الضيق أصلا إلا بمشيئة السجان؛ ولا يرى أهله إلا في مواعيد متباعدة يحدّدها السجان، كمواعيد قابلة للإلغاء والتقليص؛ ولا يقرأُ إلا ما يسمح به مقص السجان الرقيب.

 

*وضَيِّقٌ بضيق ما يُتاح للسجين من خصوصية كمقيمٍ مع مئات مِن الزملاء في حيز جغرافي ضَيِّق، بما يستدعيه ذلك من ضرورة مراعاة قواعد عيش الجماعة، والتي لا ينفع معها إلا تنازلات الأفراد المتبادلة عن مساحة واسعة من حيز الخصوصية.

*وضَيِّقٌ بضيق جدل مفردات واقعه وتفاصيله.

*وضيِّق بضيق فتحات "شبك" زيارة الأهل لا تسمح لأصبعِ طفل بملامسة أصبع أمهِ أو أبيه.

*وضيِّق بضيق عقل ضابط أمن يعتقد أن بمقدور العصا تغيير عفوية قناعة البشر بحريتهم.

*وضيِّق بضيق أيدلوجية السجان تحاول تحطيم إرادة البشر بالقوة العارية، فيما غالبية الأسرى الفلسطينيين واصلوا مشوار الحرية بعد تحررهم.

 

   مرارات ضِيق السجن تلك ذاقها سبعمائة ألف هم الأسرى الفلسطينيين حتى الآن، وما زال ستة آلاف منهم يعيشونها. هم أولاً وقبل كل شيء بشر ينزفون نبضا حياتيا هائلا يسكبونه على حساب حياتهم المجتمعية العامة، وعلى حساب بناء سعادتهم الأُسرية الخاصة، ويبذلون هذا النبض هناك في مرارات ضيق السجن ومقارعة السجان، بدل بذله في التعليم والتعلم في دفء الجامعة والمدرسة، وبدل بذله في العمل المنتج في كنف الحقل والمصنع والورشة، وبدل بذله في حميمية علاقات الأُمومة والأُبوة والأُخوةوالزوجية، وكل علاقات القرابة والصداقة والجيرة الخ...

 

   أجل، هناك في ضيق السجن يبذل هذه الجهود البشرية ستة آلاف شاب وشيخ وشبل فلسطيني المذكّر منهم والمؤنث، وينزفون كل هذا النبض الحياتي طوعا، وعن طيب خاطر، لا لتبقى قضية شعبهم العادلة وتنتصر فقط، بل، وكمساهمة فلسطينية كبيرة للدفاع عن قيم الحرية والتحرر الإنسانية السامية أيضاً.

 

   وهذا ما يستدعي منا نحن الفلسطينيين كتّابا وصحافيين وأدباء ومبدعين الخ...، أن نبدع المزيد من النصوص عن هذه الملحمة الأسطورية للشباب والشابات الفلسطينيات، إذ صحيح أن ما كُتِبَ عن هذه الملحمة كثير، غير أن استطالتها، وغناها لا يسمح بمزيد تناولها فقط، بل يستدعيه ويستوجبه أيضا، خاصة وأن العديد من أبعاد هذه التجربة الأسطورية لم يحظَ بما يستحق من تركيز؛ فالبعد الإنساني المضمر، في بعدها الوطني (مثلا)، قليلا ما تم تناوله بفعل انشغال العديد ممن كتبوا عنها بتناولها كملحمة وطنية. وهي قطعا كذلك بامتياز، فمجرد سعتها واستطالتها يؤكد ما فيها من بطولة وطنية عظيمة قلّ نظيرها، لكن ذلك لا يغني عن تناولها كتجربة إنسانية. ففي خضمها ترقد حالات لا حصر لها من صور البطولة والمعاناة الإنسانية، التي قبل وصفها التجريدي بالمعاناة والبطولة، هي نبض حياتي حسي ملموس هائل لمئات الآلاف مِن البشر، وتختزن صورا لبطولات ومعانيات فردية، لا تقوى لغة التجريد والتعميم والأرقام الإحصائية الجامدة على إظهار فرادتها وندرتها.

 

   إن مِن شأن الغوص في ملموس هذه الملحمة الوطنية الإنسانية للأسرى الفلسطينيين، أن يبرز المعاناة والبطولة عينها، وليس توصيفها التجريدي العام. فبهذا الغوص المبدع نعرض صورها الواقعية بما دبَّ فيها من حياة تعج باليناعة والطراوة والحرارة قبل تيبس شرايينها وتصلب عروقها لدى تحويلها إلى تعميمٍ وأرقام إحصائية صماء جامدة ميتة.

 

   إن الفرق بين نقل صور هذه الملحمة في ملموس حدوثها بغرض "تحسيس" العالم بها، وبين نقلها بتجريدها وتعميمها، هو كالفرق بين أن تشهد معركة حيث تشاهد الموت وتتوقعه وبين أن تقرأ عن هذه المعركة في كتب التاريخ.

 

   إن تظهير ملموس ملحمة الأسرى الفلسطينيين هو أكثر تأثيرا على النفس والعقل والضمير، وأقدر على كسب التعاطف مع السؤال الفلسطيني الكبير والمشروع: إلى متى يبقى السجن ملازما للفلسطيني كاسمه؟! فيما يقف العالم ولا يقعد مطالبا بفك أسر أسير إسرائيلي واحد (شاليط)، بينما لا يرمش لهذا العالم جفن على مرارات وعذابات ستة آلاف أسير فلسطيني، مضى على أسْرِ عشرات منهم عقود؟! وإلى متى تستمر عذابات هؤلاء الأسرى ومراراتهم.....مرارات حسية ملموسة، لم نأتِ إلا على غيض مِن فيضها؟