خبر في يومها الفلسطيني../ علي جرادات

الساعة 09:14 ص|30 مارس 2011

في يومها الفلسطيني علي جرادات

الأرض ليست مجرد عقار يباع ويُشترى، بل علاقة تاريخية بين الإنسان وترابها، ينتج من خلالها خيرات ووعيا اجتماعيا يعمق الارتباط بها والانتماء إليها والذود عنها. أي أن للأرض قيمة سياسية وأخرى اجتماعية، تعزز كل منهما الأخرى. لذلك قيل "العمل أبو الإنتاج والأرض أمه".

 

   وهذا ما جعل المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 يقرر باستقدام العمال اليهود الشباب المزارعين إلى فلسطين، الذين قاموا بإنشاء منظمتين:

الأولى: منظمة "ناحال"، وهي منظمة شبيبة عسكرية زراعية، عملت على استصلاح الأراضي وزراعتها وحمايتها بعد الاستيلاء عليها، حيث قامت ،(مثلاً)، بتجفيف بحيرة الحولة والمستنقعات الواقعة بين حيفا ويافا حتى نتنانيا، وحولتها إلى أراضٍ زراعية، لتغدو اليوم المنطقة الأكثر كثافة سكانية، بعد أن كانت منطقة بور.

الثانية: منظمة الـ"جدناع"، وهي حركة شبابية كشفية، عملت في الزراعة، وبشكل خاص العمل في عمليات التحريج.

 

   هكذا بدأت الحركة الصهيونية ببناء حركة كيبوتسية زراعية مندمجة في منظمة الـ"هاجاناه" العسكرية. أي بالدمج بين القيمة السياسية والقيمة الاجتماعية للأرض. فالمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني قام أساساً على استهداف الأرض والإنسان معا. وانتهج منذ البداية مبدأ السيطرة على الأرض من خلال اقتلاع البشر الذين يعيشون عليها ويمارسون عملهم الإنتاجي فيها. وبالتالي، فإن القول إن الأرض وما فيها وما عليها هو محور الصراع وجوهره ليس مجرد لازمة زائدة، بل هو منطلق كل رؤية جادة لحقيقة الصراع، ما يفرض بناء الخط العام للسياسة الزراعية الفلسطينية تحت شعار حماية الأرض والفلاح، وتوفير الحد الأدنى من الأمن الغذائي الفلسطيني، عبر إستراتيجية اقتصاد الصمود.

 

   يزكي هذا التوجه معرفة أنه لم يتطور في فلسطين حتى الآن رأسمالية زراعية وفق النماذج الرأسمالية المتعارف عليها، بل إن الموجود هو ملاكون وحائزو أراض صغار أو متوسطون، وإن المصادرة الصهيونية للأراضي وتفتت الملكيات شكَلا العاملين الأساسيين في منع تطور رأسمالية زراعية كبيرة في فلسطين. وبالتالي، فإن التعامل هنا يجب أن يكون مع اقتصاد زراعي فلسطيني، إما أنه يقوم على العمل العائلي، أو أنه يقوم على علاقات محاصصة وضمان، أو استئجار صغير للأراضي. وبهذا، فإن القوانين التي تحكم عملية الإنتاج الزراعي هنا هي ليست القوانين التي تحكم الإنتاج الزراعي الرأسمالي، الذي يقوم على تحقيق الريع من ملاكي الأراضي أو امتصاص فائض القيمة من العمال الزراعيين. ناهيك عن أن الملكيات والحيازات الصغيرة لا تساعد على توسيع استخدام التكنولوجيا الزراعية العالية، ما يفرض ضرورة استنباط أشكال توظيف التكنولوجيا الملائمة لنمط الحيازات والملكيات الصغيرة والمتوسطة، أو بناء نماذج تعاونية جديدة توسع من رقعة الأراضي بما يخدم توظيف تكنولوجيا عالية، علما أن الميل لاستخدام العمالة الكثيفة هو الأجدى ليس اقتصاديا فحسب، بل واجتماعيا من خلال خدمة مبدأ حماية الأرض، وتقليص نسبة البطالة. وهذا لا يلبيه وجود حركة تعاونية تقليدية متكلسة، أو وجود أصحاب استثمارات زراعية كبار على رأسها، يستخدمونها لمصالحهم الخاصة، أو كمدخل لاستجلاب منح لا يستفيد منها المزارعون الصغار والمتوسطون.

 

   إن الأمن الغذائي الفلسطيني مهدد، تحت طائلة التقلص المستمر في مساحات الأراضي المزروعة، والنقص الحاد في الثروة الحيوانية والسمكية، وحالة الاعتماد المستمر على سد النقص في هذه الحاجات على السوق الإسرائيلية، وبالأخص على سوق المستوطنات. وبالتالي، فإن الفلسطينيين أمام مهمات ملحة لتحقيق أمنهم الغذائي بحدوده الدنيا، في ظل احتلال شرس يستهدف الأرض والإنسان، ولا تهزه أي مشاعر تجاه اقتلاع الأشجار، ناهيك عن ضعف إمكانات المزارع الفلسطيني، وجبن الرأسمالي الفلسطيني عن الاستثمار في هذا القطاع.

 

   عليه، يصبح من مسؤولية الحكومة الفلسطينية أن تتبني دعم وتوجيه العمل الزراعي من خلال سياسة التدخل الإيجابي، وهذا لا يحققه انخفاض الموازنات المخصصة للزراعة، ولا يدعمه النقص في الكادر البشري المؤهل لإدارة فعالة للعملية الزراعية. وبذلك، فإنه لا بد من تكاتف جهود الفاعلين في وضع وتنفيذ السياسة الزراعية الوطنية عبر:

 

1: تشكيل مجلس زراعي وطني يضم الحكومة والهيئات الأهلية العاملة في المجال الزراعي، إضافة لممثلي المزارعين والمهندسين الزراعيين.

2: إعادة النظر في قانون الزراعة الفلسطيني، وتعديله وإخراجه من الإطار التقني إلى الإطار السياساتي المرتبط بمبدأ حماية الأرض، لا تنظيم زراعة مستقرة فقط.

3: توفير الدعم الكامل لعمليات استصلاح الأراضي البور وتشجيع العمل في الزراعة من خلال برامج مجدية.

4: حماية المنتوج الزراعي عبر منع استيراد الخضار والفواكه من السوق الإسرائيلية، والعمل على تشجيع زراعة الكثير من هذه المنتجات في الأرض الفلسطينية.

5: إعادة النظر في سياسة الإنتاج لأجل التصدير، التي عادة ما تضر المزارعين، مثل زراعة الورود وغيرها، والتركيز بدلا من ذلك على استزراع الأراضي بالمحاصيل التي تلبي الحاجة المحلية.

6: تأسيس بنك للتسليف الزراعي لصغار ومتوسطي المزارعين خارج سعر الفائدة السوقية وبدعم من الحكومة ودون فائدة.

 

   هذا إن شئنا بناء سياسة صمود زراعية فلسطينية مقاومة تربط بين القيمة السياسية والقيمة الاجتماعية للأرض، لا يلبيها غير الجمع بين مبدأ حماية الأرض ومبدأ دعم المزارعين، باعتبارهم المنتجين المباشرين في القطاع الزراعي، إذ بدون جهدهم وعرقهم تبقى الأرض بوراً، ومطمعاً لكل غازٍ ومستوطن، آخذين بعين الاعتبار ما هم عليه من فقر وتشرذم وقلة تأطير وتدني تعليم وسيادة وعي قدري، ناهيك عن ابتعاد الشباب المتعلم أو نصف المتعلم عن العمل الزراعي والأنفة منه. ما يصعّب إدخال الفكر التعاوني المدني إلى وعي هؤلاء المزارعين، ويعزز سيادة أنماط التعاون التقليدي. لكن هذا يجب ألا يدفع إلى اليأس والقنوط، بل يجب أن يحفز الفاعلين في وضع وتنفيذ السياسة الزراعية الوطنية، على التسلح بالمبادرة الصبورة والمثابرة. إذ صحيح أن الفلاح يعتد بخبرته في الزراعة، لكنه طالما عبر عن الحاجة إلى طريقة تسويق ترفع عنه الظلم والاستغلال. وبالتالي، فإن توعية الفلاح بأسس التسويق وأسس التعاون هي المدخل. هذه التوعية التي يجب ألا تكون وعظية، بل توعية تشاركية تجمع المرشد والفلاح في الميدان ذاته.

 

   وهذا ممكن، خاصة وأن للتعاونيات إرثاً عريقا في فلسطين منذ أيام الانتداب البريطاني، لكنها بنيت على أسس خاطئة، جعلت من كبار التجار في المواد الزراعية قادة لها، وتم احتكارها عبر إعطائهم تخويلا بشهادة المنشأ، خاصة أيام الاحتلال الإسرائيلي، فتحولت من تعاونيات إنتاجية إلى تعاونيات تسويقية أو خدماتية في مجال المدخلات الزراعية، خلقت مصالح شخصية للقائمين عليها، وجرى تفريغها من مضامينها كبنى تنظيمية لمنتجين مباشرين يسعون إلى زيادة الإنتاج وتحسين أوضاعهم، ما يستدعي ضرورة تقديم نموذج تعاوني بديل أساسه الإنتاج وليس التسويق، تدعمه قروض ميسرة من بنك تسليفي منشود لصغار ومتوسطي المزارعين الفلسطينيين.