خبر « إنسانية نفطية »!../ عبد اللطيف مهنا

الساعة 09:40 ص|29 مارس 2011

"إنسانية نفطية"! عبد اللطيف مهنا

هل من عاقل في دنيا العرب يمكن أن يصدق أن أسراب الفانتوم والرافال والتورنيدو التي توجهها الأواكس والأقمار الاصطناعية، هذه التي تحوم الآن ناشرة الموت والدمار في طول ليبيا وعرضها، لم تأت بهذه الحمية التدميرية إلا لهدف بعينه وهو نصرة الحرية وبسط الديموقراطية؟!!

 

وهل من صاحب رؤية، أو ضمير، أو حتى واهم، في الوطن العربي، يمكن أن يقنع نفسه أو يوهم الآخرين معه، بأن هذه الأرمادا الأطلسية الضخمة قد مخرت أساطيلها عباب المتوسط من شماله إلى جنوبه قاصفة بالتوماهوك المدن الليبية، لا لشيء سوى حماية المدنيين، وغيرة منها على حقوق الانسان العربي المنتهكة فيها؟!!

 

هل هي الصدفة فحسب، هذه التي جمعت بين تاريخ هذه النخوة الغربية الإنسانية المسلحة المفاجأة وتاريخ سابقتها العراقية الرهيبة؟!!

 

أي، أوليس لافتاً توقيتها، الذي جاء مع ذكرى غزو العراق، والتي صادفت التاسع عشر من هذا الشهر... أو على الأقل، ما معنى عدم الالتفات المقصود من قبل أصحابها إلى حساسية ذلك عربياً؟!!

 

حملة التدخل هذه بدأت بغموض مدروس ومقصود وهادف... لا قيادة واضحة، ولا وضوح في أهدافها... حل داعيتها ساركوزي الليبي محل سابقه بلير العراقي، وحرك لعبتها الأمريكان، بعد أن أمنوا لها غطاءاً من جامعة عمرو موسى، فتصريحاً من مجلس الأمن، ثم جروا من بعد الأطلسي لتصدرها، واكتفوا هم بالإمساك بالريمونت كونترول!

 

كل يوم وليبيا تنزف وتدمر بناها، يخطون بها خطوة باتجاه تقسيمها، وهم إذا يفعلون بها ما يفعلون تحت تلك الذرائع الإنسانية المشار إليها، يؤكدون لنا بأنفسهم، ويومياً، على أمرين:

 

إنهم لم يأتوا لنصرة الثوار ولا لإسقاط النظام... وكل ما فعلوه حتى الآن، أنهم زادوا من إراقة الدماء وضاعفوها إضعافاً باسهام من آلة موتهم المتطورة الهائلة... هنا تجاهل كون النظام ليس الجيش الليبي وبناه العسكرية، ثم ما الذي تغيّر على الأرض؟ وحتى الآن، فزعات الثوار البدائية تتوقف دائماً عند أجدابيا، ومقتلة مصراتة مستمرة والأوضاع الميدانية فيها تراوح مكانها، والحالة أشبه بها في الزنتان... ويقول الجنرال الأمريكي كارتر هام قائد منطقة "أفريكوم"، إنه "ليس من مهمتنا دعم قوات المعارضة إذا أرادت شن عمليات هجومية"... ويقول آلان جوبييه وزير خارجية النابليوني ساركوزي، إن "العملية العسكرية للتحالف في ليبيا يمكن أن تتوقف في أي وقت... على قوات القذافي العودة إلى الثكنات فتتوقف العملية العسكرية"!

 

وإذا كان الشرق الليبي خارج سيطرة النظام، والغرب متروك له، والجنوب ظل بعيداً بنسبة ما ينتظر دوره من خلف كثبان الصحراء المترامية، فإنه تتبدى لنا اليوم صورة ليبيا السابقة، أو ما قبل وحدتها، أي تلك الليبيات الثلاث المنفصلة، طبرق وبنغازي وفزان... ألهذا جاؤوا؟!

 

ألكي يحتووا الثوار ويروّضوا النظام، ويبتزوا الطرفين المصطرعين في آن، ليحققوا الهدف الحقيقي الذي تتمحور خلفه إنسانية هذا الغرب... إنسانيته النفطية؟!!

 

لماذا ليبيا بالذات؟!

ألم يقل وزير الحرب غيتس ما معناه أن كل ما يهمه فيما يجري في اليمن هو تأثيره على "الحرب على الإرهاب"!!!

 

وحتى لو سقط النظام في ليبيا، فإن بديله الذي يريدون هو ليس ما يحلم به الثوار، لأنهم ما جاؤوا إلا ويريدون عند سقوطه فرض بديلهم هم، بمعنى انتصار ثوارهم هم لا ثوار العرب، وعندها إن قاتلهم الثوار الحقيقيون كمحتلين فلسوف يسمون مقاومتهم بالإرهاب... إن هذا هو الغرب الذي خبرناه عبر القرون الأخيرة... والغرب الذي لمسناه في أيامنا في العراق، وقبله فلسطين... والذي كنا عهدناه في الصومال وراهناً في جنوب السودان... والغرب الذي يدعم الاستبداد ما دام يحمي مصالحه ويضرب بسيفه ولا يشكل عبئاً عليه، أو لا يؤول للسقوط، أو لا تستنفذ وظيفته كتابع، ويكتفي بنصح طغاتنا من جماعته إن هم شطوا في استبدادهم وخشي عاقبة شططهم على ضمان مستقبل استمرارية استثماره لهم، أما أولئك الذين يعادونه أو يخرجوا على طاعته منهم أو لا يروقونه، فتحت وابل من المزاعم الإنسانية يخفي نواياه الاستعمارية ويجرد حملاته الدولية بزعم تحرير شعوبهم منهم... وهذه الشعوب من أوطانها!

 

فجر هذه الأوديسة الأطلسية الدموية، بمسماها ذي الرمزية التاريخية المختارة بدلالاتها المقصودة، إنبلج من كواليس مجلس الأمن إياه، واستولد سفاحاً في تلكم الحاضنة إياها، التي لطالما أنجبت قرارتها مصائباً على العرب دون سواهم، قرارها 1973، وكانت القابلة جامعة عمر موسى... وإذا كان توقيت التدخل ليبياً يصادف توقيت الغزو عراقياً، فإن هذا القرار الأوديسي يحمل في ثناياه ليبياً ذات المكيدة اللعينة إياها عراقياً، وهي حكاية "النفط مقابل الغذاء"...

 

... وهذا القرار، والغزو الإنساني الذي يستظل ذريعته، هما عملياً يجهزان بدايةً على الاقتصاد الليبي، إذ يجمد القرار عمليات المصرف المركزي، هيئة الاستثمارات الوطنية، الصندوق السيادي، مؤسسة النفط الوطنية، الرحلات الجوية التجارية، ويتضمن حق توجيه الاقتصاد الليبي، الأموال المجمدة والثروات، "لما يخدم مصالح" الشعب الليبي! فحيث سيدمر التدخل الاقتصاد، ونظراً لحق توجيهه بما يخدم "مصالح" الجوعى لاحقاً إثر تدهور هذا الاقتصاد، تنتهي بنا المسيرة إلى محطة "النفط مقابل الغذاء" سيئة الصيت مرة ثانية، بمعنى، أننا ننتظر قريباً تصاعد الحديث عن ضرورة إيجاد برامج مساعدات إنسانية لليبيا، يليها بيع النفط تحت إشراف الأمم المتحدة مقابل هذا الغذاء، وعليه، وتلقائياً إنشاء جهاز بيروقراطي أممي فاسد وناهب، واصطفاء شركات دولية نهمة ومستغلة للتكفل بالاستمتاع بالوليمة الإنسانية ..إلخ، الأمر الذي يعني فرصة يريدونها وسنحت لابتلاع مدخرات ليبيا والسيطرة على عائدات نفطها... لتمويل الحصار وتغطية كلفة عمليات تنفيذ هذا القرار الإنساني الأممي... الذي ينفذه بأريحية استعمارية ذات الغرب لكن المساند هذه المرة لثورات العرب، والذي جاء هذه المرة لنصرة الحرية وبسط الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان العربي!!!

 

إن كل قذيفة يسقطونها على ليبيا الواقعة بين مطرقة التدخل الأجنبي وسندان النظام، ومهما كان هدفها المعلن أو المضمر، وأينما أصابت هدفاً، وبغض النظر عن الموقف من النظام أو من دعاة التدخل الأجنبي من سذّج الثوار، إنما تصيب وجدان الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها... وإذا كانت الثورة العربية الكبرى المتنقلة في ربوع الأمة مشرقاً ومغرباً هي واحدة، وتندلع في زمن عربي واحد، ومحركها الهادر هدف واحد هو الحرية والديموقراطية والكرامة، وتكمن من خلفه إرادة قومية استيقظت من غفوتها لشعب واحد تقسّم غيلة في شعوب عديدة، فإن الإنسانية النفطية الأطلسية هذه تستهدف فيما تستهدف، إلى جانب تشويه الثوار وترويض النظام، هدفاً رئيسياً هو ربيع هذه الأمة المتمثل في هذه الثورة الشعبية المذهلة، هذا التحول التاريخي المبدع، ولأول مرة، وعلى الصعيد القومي بكامله، لمثل هذا العمل الجبهوي الشعبي الحقيقي الضام لكافة شرائح المجتمع ذات المصلحة في التغيير على اختلاف ألوانها ومشاربها، والذي ما أن هلّت بشائره حتى هبت عليه مختلف العواصف الداخلية والخارجية والأطلسية التي لن تكون آخرها... لكن، لطالما قلنا، أعطوا هذه الأمة انتصاراً واحداً وسترون ماذا ستبدع عبقريتها، واليوم وبعد أن كان لها انتصارها التونسي والمصري وقريباً اليمني، يقول لنا لسان حالها: أبشروا، لم يعد هذا القرن أمريكياً، كما كانوا يقولون لكم، وإنما أعدكم... من الآن فصاعداً انتظروه عربياً..!