خبر مصر: جدل التعديلات والمرحلة الانتقالية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 07:05 ص|17 مارس 2011

مصر: جدل التعديلات والمرحلة الانتقالية  ..د. بشير موسى نافع

لم يكد المشهد في ميدان التحرير، مركز الثورة المصرية بمدينة القاهرة، يهدأ قليلاً حتى اندلع جدل واسع النطاق وبالغ الجدية في مصر. يشارك في هذا الجدل أحزاب وقيادات فكرية وسياسية، قضاة كبار وأساتذة قانون، كما يشارك فيه قطاع كبير من شباب الثورة الشعبية وقياداتها. هذا هو جدل المرحلة الانتقالية والبحث عن أفضل سبل إعادة بناء دول تليق بمصر والشعب المصري والتحرك بمصر نحو حياة حرة، كريمة.

 

كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة في شباط/فبراير الماضي، وبناء على توصية ممثلي شبان الثورة، قد عهد إلى لجنة يرأسها المستشار طارق البشري، القاضي، المؤرخ وأحد أبرز حكماء مصر، مهمة إجراء تعديلات ضرورية ومحدودة على دستور 1971. وقد أنجزت اللجنة عملها بالفعل خلال أقل من أسبوعين، كما قامت بمراجعة القوانين المتعلقة بمواد الدستور التي عدلتها. ثمة شواهد عديدة، أكدها المستشار البشري، على أن المجلس العسكري لم يتدخل في أعمال اللجنة بأي حال من الأحوال، وأنه قبل بالتعديلات كما هي. وكما كان متفقاً عليه من قبل، ستعرض هذه التعديلات على الاستفتاء الشعبي العام بعد يومين من صدور هذا المقال، السبت 19 آذار/مارس. إن صوتت الأغلبية بنعم لهذه التعديلات، فسيرسم هذا الدستور المؤقت (أو الإعلان الدستوري) خارطة طريق المرحلة الانتقالية، التي يؤمل أن لا تستمر لأكثر من ستة شهور. أما أن صوتت الأغلبية بلا، فسيندلع الجدل من جديد حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية وتحت أية شروط وفي اتجاه أية أهداف.

 

طالت التعديلات التي قامت بها لجنة البشري 11 مادة من مواد الدستور، كان قد أجري على بعض منها تعديلات جوهرية في عهدي الرئيسين السادات ومبارك لإحكام قبضة نظام الحكم وتسويغ استمرار سيطرته على شؤون الدولة والبلاد. وقد باتت هذه المواد، التي تعالج فترة حكم الرئيس وسبل الترشح لرئاسة الجمهورية، وكيفية إجراء انتخابات مجلس الشعب، وسبل الطعن في صحة هذه الانتخابات، إلى جانب مسائل أخرى، معروفة على نطاق واسع. ولكن أحد أهم المواد التي تناولها التعديل، فكان إدراج مادة دستورية جديدة تؤسس لانعقاد جمعية تأسيسية يعهد إليها وضع مسودة دستور مصري دائم جديد. وفي حال إمضاء التعديلات التي قامت بها لجنة البشري، سيكون الدستور الدائم القادم أول دستور مصري منذ مطلع القرن العشرين تضعه هيئة دستورية منتخبة. كما أوصت لجنة البشري بأن يبدأ الخروج من المرحلة الانتقالية بانتخاب مجلس شعب جديد، يقوم أعضاؤه المنتخبون بمشاركة الأعضاء المنتخبين لمجلس الشورى، باختيار جمعية المائة التأسيسية التي تقوم بوضع مسودة الدستور الجديد. ويتلو هاتين الخطوتين انتخاب رئيس للجمهورية، تكون إحدى أولى مهامه عرض مسودة الدستور الدائم على الاستفتاء الشعبي لإقراره. بتسلم رئيس الجمهورية منصبه، تنتهي مهام المجلس الأعلى للقوات المسلحة في قيادة شؤون البلاد، ويعود الجيش إلى ثكناته.

 

بيد أن الواضح أن التعديلات التي قامت بها لجنة البشري، وخارطة الطريق التي ترسمها للخروج بالبلاد من المرحلة الانتقالية، أصبحت محل جدل. عدد كبير من القيادات السياسية والقوى الحزبية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى قطاع ملموس من القضاة والأكاديميين الدستوريين، أعلنوا تأييدهم للتعديلات ودعوا الشعب إلى التصويت بنعم. عدد آخر من القيادات، وأغلب الأحزاب المصرية الليبرالية واليسارية، أعلنت معارضتها وطالبت برفض التعديلات. ولكن المعارضين يختلفون اختلافاً واسعاً حول خارطة الطريق البديلة، كما يختلفون حول زمن المرحلة الانتقالية وكيفية إدارة شؤون مصر خلال هذه المرحلة. بعض المعارضين كان سيعارض على أية حال، نظراً للصورة السياسية التي رسمت للمستشار البشري، والمؤسسة على كونه أحد أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين، والتي تتجاهل الخبرة والميراث القانوني الكبير الذي يستند إليه، وهو الذي تقاعد نائباً لرئيس مجلس الدولة وعرف بحياده ونزاهته وشجاعته طوال عقود خدمته في المجلس.

 

البعض الآخر من المعارضين تحركه دوافع سياسية قصيرة النظر، تتمحور حول فكرة راجت مؤخراً تقول بأن انتخابات برلمانية مبكرة ستؤدي إلى فوز كبير للإخوان المسلمين، وأن السبيل الوحيد لمنع سيطرة الإخوان على مجلس الشعب القادم هو إطالة المرحلة الانتقالية إلى أن تستطيع الأحزاب الأخرى تنظيم نفسها والاستعداد لخوض المنافسة كما ينبغي. ويعتقد أن الإدارة الأمريكية، التي فوجئت بالثورة المصرية والعناصر التي أشعلتها، تؤيد مثل هذا المقاربة، ليس فقط لمنع الإخوان من السيطرة على مجلس الشعب، ولكن أيضاً لتوفير فسحة كافية للتعرف على الخارطة السياسية الجديدة في البلاد.

 

ويشارك الاعتراض على التعديلات الدستورية أغلب الشخصيات التي تأمل بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، سواء من أعلن نيته ومن لم يعلن. يقدم هؤلاء أسباباً مختلفة لاعتراضهم، ولكن الواضح أن مشكلة المرشحين ليست بالضرورة التعديلات ذاتها، بل فكرة أن يسبق عقد انتخابات مجلس الشعب انتخاب رئيس الجمهورية.

 

ما يراه المرشحون أن إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً سيتسبب في تعقيد المشهد السياسي من ناحية، وسيحرم رئيس الجمهورية من التأثير على انتخابات الجمعية التأسيسية المناط بها وضع الدستور الدائم، وعلى عملية كتابة الدستور.

 

الحقيقة، بالطبع، أن هذه الاعتراضات في مجملها لا تستند إلى أسس صلبة، وأن مخاطر تعطيل التعديلات الدستورية أكبر بكثير من ترف الاقتراحات البديلة غير الواضحة وغير المحددة وغير العملية التي تطرح من أطراف مختلفة. الداعون إلى أن تبدأ المرحلة الانتقالية بوضع دستور دائم جديد، وليس بانتخابات رئاسية، لا يضعون في الاعتبار أن التعديلات التي وضعتها لجنة البشري قد أدرجت بنداً ملزماً لمجلسي الشعب والشورى القادمين ولرئيس الجمهورية المقبل بوضع مثل هذا الدستور، وأن البدء بهذه الخطوة الآن سيخضع عملية وضع الدستور لسلطة المجلس العسكري، لا لمجلس نيابي منتخب كما تنص التعديلات. هذا، إضافة إلى أن وضع دستور جديد لا يتطلب وجود جمعية تأسيسية وحسب، بل وحواراً وطنياً واسعاً، قد يستمر لعدة شهور، مما سيؤدي إلى تطبيع المرحلة الانتقالية وسلطة المجلس العسكري، بكل ما يحمله هذا الوضع من مخاطر. الحل الذي يتصوره البعض في تشكيل مجلس رئاسي مدني، يشارك فيه العسكريون مشاركة محدودة، هو حل لا يخلو من السذاجة والغموض؛ فدولة في حجم مصر وفي موقعها لا يمكن أن تدار من قبل مجلس متعدد الأطراف، ولو لفترة قصيرة، كما أن أصحاب هذا المقترح لا يملكون تصوراً لكيفية اختيار أعضاء هذا المجلس، على أية حال.

 

المسألة الأساسية في هذا الجدل هي تلك المتعلقة بانتخابات مجلس الشعب ورئيس الجمهورية. وليس ثمة شك في أن المقترحات التي تقدمت بها لجنة البشري تنطوي على مسوغات قانونية دستورية وسياسية صلبة. إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية، وممارسته لصلاحيات منصبه لعدة شهور، بدون وجود مجلس نيابي منتخب، يعني أن الرئيس سيتمتع بسلطات تنفيذية وتشريعية هائلة، تؤهله للتأثير المباشر وغير المباشر في كل الخطوات المفترض أن تتلو انتخابه. ولكن الذهاب إلى انتخابات نيابية أولاً، كما توصي لجنة البشري، لن تعطي البلاد مجلساً تشريعياً خلال فترة قصيرة نسبياً وحسب، ولكنها ستحرر عملية وضع الدستور الجديد من تأثيرات الرئيس وتضعها في يد جمعية منتخبة أيضاً. ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يقوم مقام رئيس الجمهورية، إلى أن يختار الشعب رئيسه المقبل، فإن انتخاب مجلس شعب جديد يعني أن البلاد لن تترك في حالة من الفراغ الدستوري لفترة طويلة. ولا يبدو أن المخاوف من سيطرة الإخوان المسلمين على مجلس الشعب تجد من المسوغات ما يبررها. أولاً، لأن إطالة المرحلة الانتقالية لعددة شهور أضافية لن يساعد الأحزاب السياسية الأخرى مساعدة كبيرة، سيما وأن أغلبها متواجد على الساحة السياسية في صورة شرعية منذ سنوات طوال. وثانياً، لأن الإخوان قد أعلنوا رسمياً أنهم لن ينافسوا على أكثر من ثلث مقاعد مجلس الشعب الجديد، وأنهم لن ينافسوا على منصب رئيس الجمهورية؛ بمعنى أن الإخوان يدركون المخاوف الداخلية والخارجية التي تولدها عودتهم للساحة السياسية، وقد اختاروا من البداية المساهمة في تهدئة هذه المخاوف وفي تيسير الانتقال بالبلاد من مرحلة الثورة إلى مرحلة البناء الدستوري - الديمقراطي والتأسيس لمصر حرة. وثالثاً، لأن الإخوان قوة سياسية أصيلة في المجتمع المصري، وقد بات من الضروري التعامل معها كعنصر طبيعي في الساحة السياسية المصرية.

 

المشكلة في النهاية أنه مهما كانت الانتقادات الموجهة للتعديلات الدستورية ولخارطة الطريق التي ترسمها للمرحلة الانتقالية القصيرة، فإن ما يطرحه المعترضون لا يزال غامضاً ومتناقضاً، ويصعب أن تجد بين هذه المقترحات ما قد يحوز على تأييد مصري واسع. التصويت بلا في استفتاء السبت القادم يعني إعادة البلاد إلى المربع الأول، بدون أن يكون هناك أفق واضح للخروج من وضع القلق الانتقالي الراهن؛ إضافة إلى احتمال تحويل المرحلة الانتقالية من فترة الشهور الستة المقررة الآن إلى إبقاء البلاد تحت إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لأمد غير محدود. وإن كان الجيش أكد بوضوح على رغبته في تسليم مقاليد البلاد لمجلس نيابي ورئيس جمهورية منتخبين في نهاية الشهور الستة، فإن إطالة المرحلة الانتقالية تفتح المجال لاحتمال عودة العسكريين للسيطرة على الجمهورية. في استفتاء السبت، باختصار، تقف مصر الثورة أمام مفترق طرق، والأمل كبير في أن تصوت الأغلبية المصرية بنعم، وتستعيد بالتالي مقاليد الحكم في البلاد دستورياً، بعد أن استعادتها ثورياً.

 

* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث