خبر د. علي عقلة عرسان يكتب : الكبار يقاسون بمواقفهم وتضحياتهم

الساعة 12:16 م|11 مارس 2011

د. علي عقلة عرسان يكتب :  الكبار يقاسون بمواقفهم وتضحياتهم

                                                                         

ليبيا العزيزة تدخل النفق المظلم، وليلها الطويل سيطول فيما يبدو، فلا "رئيسها" يرحمها ويتنحى تاركاً هيكلها الجغرافي والاجتماعي متواصلاً ومتماسكاً في الحدود الدنيا على الأقل، وعلاقات الناس فيها حميمة، ونوافذ شمس الحرية والخيارات الشعبية الحقيقية تنفتح أمام أهلها الذين حكمهم أكثر من أربعين سنة.. ولا معارضوه يملكون لها مخرجاً رحيماً مما هي فيه، سوى بالقتال الذي يقابله قتال يجر الدمار والوبال عليهم وعليها.. فهي بين نيران أبنائها تحترق، وتتفتح في جسمها جراح وثغرات ينفذ منها أصحاب المآرب والطامعون بها: موقعاً استراتيجياً، وثروات طبيعية غنية، ومصدراً من مصادر الطاقة..إلخ. ويزحف على هذا البلد العربي العزيز وعلى أهله الطيبين، الانقسامُ والتدخلُ الخارجي والاستعمار تحت مسميات شتى وذرائع متعددة الألوان والأسماء، وكل ذلك يعرضه لمزيد من الكوارث والتمزق وعودة الاستعمار وضياع الأموال ونهب الثروات والهيمنة الأجنبية على شؤونه كلها، وللتآكل الداخلي والخارجي موقفاً ومكانة، ويعرض الشعب الليبي لمحن الفتن التي تجرها عليه دماء أريقت، وأحقاد غرست هنا وهناك، وأخذت تنمو بين قبائل وفئات اجتماعية موالية للنظام وأخرى مكتوية بناره. وكل ذلك يتأتي بالدرجة الأولى من حاكم يذهب به الغرور إلى درجة مثيرة، ويمضي به التسلط وشهوة الحكم إلى المنتهى، فيجر فئة من شعبه إلى  القتال مع فئة أخرى من شعبه، حفاظاً على سلطة استقطبت مستفيدين منها، وسطوة زعامة تبدي استعداداً عجيباً لاستنزاف الدم باسم الثورة والمحافظة على المنجزات والمكتسبات.. وزعيم يريد أن يستمر في الحكم إلى ما شاء الله، وأن يقيم مملكة "ثورية"، أو "ملكية ثورية"؟! يورثها لأبنائه من بعده، في خطوة "قذافية" جديدة ترث سنوسية قديمة، وأَدَها هو ورفاقه من الضباط الأحرار عام 1969 ليأخذ الشعب الليبي مقاليد الأمور، ويحكم نفسه بنفسه، ويصبح مصدر السلطات وسيد مصيره وقراراه، في جماهيرية ما بعد جمهورية، يرتضيها لأنها أكثر شعبية وأرسخ ديمقراطية.

وفي خضم الصراع الدامي، يتبدى العجب العجاب، ويفقد الكثيرون نور البصائر وهم يتمتعون بقوة البصر، فيقومون بما يرفضونه، وما يحذرون منه، ويستفظعون حصوله من غيرهم.. حينما يكونون هم على شط الأمان يراقبون الأحداث والتصرفات، على الرغم من أن نتائج أفعال الآخرين والدروس المستقاة من تلك الأفعال ماثلة أمامهم بكل بؤسها.. 

فمن عجائب الأمور في الشأن الليبي أن كلاً من السلطة في ثورتها، والمعارضة في ثوريتها، تعلنان رفضهما للتدخل الأجنبي وتسعيان في الوقت نفسه لاستدراج الغرب للتدخل، ويقوم كل فريق بفعل ذلك على طريقته الخاصة، معتقداً أنه يمضى إلى الحد الأقصى في المحافظة على استقلال الرأي والموقف. ففي حين يعلن العقيد القذافي أن القاعدة وأنصارها هم الذين يقومون بالتمرد والأعمال الإرهابية في المدن والقرى الليبية التي تسللوا إليها وسيطروا عليها، ويحذر الغرب من أن مناصرتهم ونجاحهم فيما إذا نجحوا في السيطرة على ليبيا سيؤدي إلى أن تصبح السواحل الليبية مثل السواحل الصومالية، مرتعاً للقراصنة، وسيفقد البحر المتوسط أمنه، وسيعود إلى الظهور أمثال " القرصان " خير الدين بربروسا يهاجمون السفن الغربية في المتوسط ـ ومن أسف أن يضع القذافي قائداً مجاهداً مثل خير الدين بربروسا 1478 ـ 1546 من أفضل قادة القوى البحرية الإسلامية التي تصدت لحملات الإبادة الإسانية، البرتغالية ضد المسلمسين حين طردوا من الأندلس في موقع القراصنة.. وهو جهل فظيع بالتاريخى وحكم مستقى من الاستعمار على المجاهدين العرب والمسلمين ـ وتنفتح الشواطئ الشرقية لهذا البحر أمام الهجرة الإفريقية والآسيوية إلى أوربا، وتصبح القاعدة على حدود أوربا، ويستقر ابن لادن وتنظيمه في شرق المتوسط، وتصبح الطاقة النفطية والثروات الليبية تحت تصرفه، يتحكم بها ويستخدمها ضد الغرب.. وأن الإسلام السياسي سوف يسيطر وينمو، وسيؤثر كل ذلك على إسرائيل ويجعلها غير آمنة ولا محمية ولا مستقرة.. إلخ.. وهذا يستدعي من الغرب وإسرائيل تفهم مواقفه ومساندته ودعم سلطته لأنه/ ولأنها النقيض لما يحذر منه.. وفي هذه الحالة ما هو الثمن والدور اللذين يلوح بهما للغرب ولإسرائيل، إذا ما استجيب لدعوته، وتم اتخاذ موقف يؤدي لنصرته؟ وأين سيكون موقعه وكيف سيكون موقفه.؟.. إن هذا التوجه المثبت في خطب وتصريحات واتصالات.. إذا ما وضع على محك المنطق والسياسة والموقف الوطني والقومي والثوري من الاستعمار والصهيونية والإمبريالية والهيمنة الغربية.. إلخ..عربياً وإسلامياً إفريقياً وفي مدى أميركا اللاتينية والعالم الثالث، وأمام حركات التحرر العالمي.. إلخ فإنه يضع صاحبه على الطرف النقيض من كل ادعاء ثوري وتحرري وتحريري، ويكرسه في خندق الانتهازية في أحسن الأحوال والتقديرات، إن لم يكن في خندق حماة المصالح الأميركية والأوربية وإسرائيل.؟

 وفي الجانب الآخر من المشهد الليبي نجد الثورة المضادة لسلطة القذافي، المنادية بتنحيه عن السلطة والخلاص من حكمه وظلمه، ترفض التدخل الغربي في الشأن الليبي، وتنأى بنفسها عن الاتصال المباشر بمفاوضين من الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها تناشد الولايات المتحدة والدول الغربية بأن تفرض حظراً جوياً شاملاً فوق الأراضي الليبية، وأن توجه ضربات جوية سريعة لمواقع الطيران الليبي وللقوة التي يسيطر عليها القذافي وأعوانه، بذريعة أن عناصرها والمدنيين الذين يحيطون بهم، يتعرضون لهجات قواته المسلحة بأنواع الأسلحة الفتاكة.. وتقوم وفود منهم بزيارات ومحادثات مع الدول الأوربية لكسب اعترافها بهم بوصفهم ممثلين رسميين وحيدين لليبيا ونزع الشرعية عن القذافي وسلطته.. وقد بدأ ذلك من فرنسا التي اعترفت بالمجلس الوطني ممثلاً لليبيا. ونحن نعرف أن هذا لا يتم من دون ثمن، ومن دون ثمن باهظ يكلف البلاد والعباد الكثير الكثير مما يتعلق بالاستقلال والكرامة والمال، فالغرب الاستعماري عودنا على مثل هذه السياسات والمواقف وأنواع الخداع والأثمان الباهظة التي يأخذها منا تحت مسميات شتى، وفي ظروف وصراعات يفتعلها أحياناً ويجعل منها مصدراً للابتزاز والتدخل والسيطرة.. فلا يوجد سوى مصالح لدى الغرب، أما الكلام عن حقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية فسلع سياسية يروجها للتمويه ويقبض ثمنها دائماً حياة الشعوب وحريتها ومصالحها واستقلالها.. وللغرب الاستعماري وربيبته إسرائيل كراهية مقيتة وعداء دفين لأمتينا العربية والإسلامية، وهو دائماً يتحين الفرص للإيقاع بنا والنيل منا.. والثقة به بعد كل الذي رأيناه وعانينا منه أكثر من غباء، وأخطر من سذاجة.

إن كلاً من طرفي الصراع الليبي الدموي يستبيح المحظور، ويرفع شعارات مناقضة لما تقوده إليه ممارساته، وهو بشكل أو بآخر، يعيد ترديد وتأكيد المقولة أو الذريعة التي ظهرت في حربي الخليج الأولى والثانية، واستقرت في خضم الأحداث الكارثية التي لحقت بالعراق الحبيب وبغيره من أقطار الوطن العربي.. مقولة " التعاون مع الشيطان" لتحقيق الانتصار على الخصم الأخ.. وعلى ذلك الفرع ذاته نبتت أو استنبتت النبتة الشيطانية التي نمت بقوة في السياسة العربية، وهي تتلخص بمقولة " أنا أولاً" التي بدأت من الأردن وعمت أقطار الوطن العربي، وصارت مسوغاً للانطوائية القطرية المقيتة، وللاحتماء بالغرب والكيان الصهيوني إذا استدعى الأمر ضد أي قطر عربي وضد الجامعة العربية، وعلى حساب الأمة العربية وقضاياها المصيرية وقيمها ومصالحها وحضورها الفعال.. "أنا أولاً" ومن بعدي الطوفان.. وقائلوها من أصحاب المناصب والمكاسب والسلطات.. لا يدرون أنهم وما يمثلون ويملكون، حين "يكونون أولاً" على حساب الأمة وقضاياها ومصالحها والانتماء إليها، فإنهم يكونون أخيراً وآخراً في الوقت ذاته، لأن "حاميهم حراميهم" وقاتلهم أيضاً في هذه الحالة، وأمتهم ووجودها وكل ما تعنيه لهم.. هباء. ومن يتبصر في مصير مليارات الدولارات من الأموال العربية التي أودعها رؤساء ومسؤولون كبار في مصارف الغرب بعد أن نهبوها من شعوبهم وحرموها منها، قد أصبحت لأعداء الأمة بصورة نهائية، بعد أن كان أولئك الأعداء يستثمرونها ضد الأمة في أثناء حكم أولئك الرؤساء والحكام وزعاماتهم ورئاستهم "الوطنية جداً.. جداً.. جداً.".؟!    

   إن ليبيا العزيزة، وشعبها الطيب الذي كثرت تضحياته وطالت معاناته ونفد صبره، يستحقان أفضل من هذا الوضع المأساوي الخطير، وأفضل من هذا المصير البائس "المنتظر لا سمح الله" في ظل ما يجري من صراع واستعداء للآخرين، وتدبير لا يقبله العقل والمنطق ولا الخالق والمخلوق. ولا يجوز لأي كان، ومهما كان موقعه وموقفه وذرائعه، أن يجعل الناس وقوداً يحرق بهم البلاد، بذريعة إنقاذ الناس والبلاد.؟!. وعلى كل نافخ في نار أن يعرف أن شررها لا يصيبه وحده، وأن الأبرياء من أبناء الشعب هم أكثر من يدفع الثمن ويتحمل النتائج، وإنه إذا نجا بنفسه اليوم من نتائج عمله، فلابد أن يدفع هو أو أبناؤه وأحفاده منى بعده ثمن أفعاله أضعافاً مضاعفة، ليس انتقاصاً منهم ونقصاً في القيمة والكرامة والمكانة التي قد لا يتمتع بها، وقد لا يستشعرها، ولا يحسب لها حساباً، بل من لحمهم ودمهم ومالهم وأملاكهم.. في يوم من الأيام، فالشعب لا ينسى، والتاريخ سيحفظ، والخالق، جل جلاله، يمهل ولا يهمل.. ومن يقدم خيراً اليوم يلقى هو وأبناؤه وأهله خيراً، ومن يستمر في إشعال نار الفتنة سيحترق بها عاجلاً أم آجلاً.

إنني أتطلع إلى أن يبادر العقيد معمر القذافي إلى إنقاذ ليبيا من مصير مؤلم، ومن كوارث لا تبقي ولا تذر، بتنحيه الفوري عن السلطة، وجعل الشعب الليبي يختار مستقبله، ويقرر مصيره بحرية تامة، ويحقن دماء أبنائه، ويتجنب الأحقاد والثارات وأثمان الدم الذي يستدعي الدم.. ويجنب ليبيا تدخل القوى الاستعمارية في شؤونها، وإلا كان شريكاً في المخطط الذي يقول إن الغرب وراءه ليعيد استعمار ليبيا وينهب ثرواتها ويسيطر على موقعها الاستراتيجي.. أو يصبح مسؤولاً عن سيطرة التطرف والمتطرفين عليها، وسبباً في كل ما يبنى على وجودهم فيها من عواقب وخيمة تعود على ليبيا والشعب الليبي والمنطقة كلها من كوارث. لأن مثل هذا الفعل ـ إن هو قام به بمسؤولية وشجاعة، سيُحسب له حتى لو جاء متأخراً جداً، وإذا لم يذكر الآن فسوف يذكر ولو بعد حين من الزمن، وسيتيح تنحيه حقن الدماء ووقف العاصفة المدمرة التي تزحف على أرض ليبيا، وفرصاً كثيرة تؤدي إلى تغليب العقل والمنطق والحكمة والوسطية على التطرف والدم والحقد، وتقطع الطريق على التدخل الخارجي، وتدفن الفتنة والشر والقتل والبؤس، وتوقف إراقة الدماء وتوالد الضغائن التي تغزو النفوس وتعشش في القلوب وتحرك السواعد والإرادات، وتستدعي الدم والحقد بين الأخوة.

إن ليبيا وشعبها يستحقان مثل هذا الفعل المنقذ، حتى لو رآه مجحفاً بحقه وغير لائق به، فهو فعل تضحية كبرى من أجل وطن وشعب وأمة.. ومَن يحرص على وطنه وشعبه وأمته يضحي بالغالي والنفيس على مذبح طاهر رفيع نقي، ولا يتعلق بجبروت الحكم، وشهوة السلطة، وقشور الدنيا، ويبقى أكبر من نزواته وشهواته وتطلعاته الخاصة.. فالقيادات الكبيرة أكبر من صغائر الأمور، كما يُفترَض، والكبار يقاسون بمواقفهم وتضحياتهم، ويخرجون بلدانهم وشعوبهم والإنسانية من أي نفق مظلم.

دمشق في 11/3/2011