خبر الحقيقة والسلطة (1/2)../ د. عزمي بشارة

الساعة 07:45 ص|09 مارس 2011

الحقيقة والسلطة (1/2) د. عزمي بشارة

يتصدّر الحق بالوصول إلى المعلومة ذات العلاقة بالشأن العام قائمة الحقوق مثل حرية الرأي والتعبير والمشاركة. لهذه العملية قطبان: احتكار المعلومة كنوعٍ من احتكار القوة والسلطة من جهة، والحق بالمعرفة من جهة أخرى، تتوسّط بينهما عناصر عديدة مثل الرقابة على النشر وتصنيف المعلومات كمواد سرية، والشفافية المنظّمة قانوناً. 

 

تطورت الشفافية بكونها آلية مع تطور المؤسسات الديموقراطية وحقوق المواطن، حتى تحولت إلى مؤسسات في كثير من الحالات، ومن ضمنها مؤسسات رقابة رسمية وغير رسمية تقدم تقارير للجمهور، ومن ضمنها أيضاً مؤسسات وسيطة بين الإعلام والسياسة مثل تقارير الناطقين اليومية، والأبحاث البرلمانية المفتوحة (حتى للبث المباشر الدائم أخيراً)، وحق عضو البرلمان في توجيه أسئلة إلى الوزارات المتخلفة، وغيرها.

 

ومهما منح المواطن من حقوق الرقابة على ما تقوم به السلطة ظل برج المراقبة الذي تقبع فيه السلطة أعلى وأكثر إشرافاً واستدارة وبانورامية، وظلت نوافذ المواطنين مسطحة وواسعة وأكثر نفاذية. وظل حجب المعلومة أداة أساسية في صنع السياسات من دون موافقة الرأي العام أو لتنفيذ خطوات غير شعبية، أو للقيام بخطوات لا تتناسب مع برامج الحكومات أو حتى للكذب الصريح في إطار تبريري سمّي «الأمن القومي». وحرّم كل ما «يمسّ بالأمن القومي». وَسَمَت الـ«مسائل الخاصة بالأمن القومي» فوق الحقوق والقوانين الدنيوية، إذ أحاطت بها هالة من القدسية. وأنشئ لها حرم لا يسمح بدخوله إلا لأصحاب الشأن المصنّفين. وأبيح حجب المعلومات عمّا يقع خارج حرم هذه القدسية، وأبيح حتى الكذب بشأن أي قضية وُسمت بهذه العلامة.


أما الآليات التي طورت لنقل الخبر واستقصاء المعلومة ونقلها للجمهور فيمكنها في هذه الحالات أن تتحول إلى أداة لمنع الشفافية والتضليل؛ لأن العلاقة الممأسسة بين الإعلام والسلطة تتضمن خدمات متبادلة من ضمنها أن «يخدم» السياسي أو صاحب السلطة الإعلام بمنحه خبراً، وأن يخدم الإعلام السلطة بحجب خبر أو بإمرار معلومة كاذبة يهمها إبطالها للمتلقي. وقد يكون منع المعلومات أو نشر المعلومات الكاذبة غطاءً ضرورياً لصنع الرأي العام المؤيد لخوض حروب أو لتقييد الحريات، أو لاتخاذ خطوات غير شعبية، ما كانت لتتخذ لو عُلِمَ أن الأسباب التي تبرر بها كاذبة، ولو عرفت حقيقة الدوافع من خلفها، أو شُوِّش تنفيذها على الأقل.


ليستر بالوثائق والحقائق المحجوبة ظاهرة جديدة في العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، والإعلام والرأي العام من جهة أخرى. فمن اكتساب الحكومات لنفسها حق السرية في إدارة أبحاثها الداخلية وفي إدارة علاقاتها مع الدول الأخرى، وحق حجب المعلومة كجزء من وحدانية السلطة مثل احتكار استخدام العنف، نشأ أيضاً التسريب الانتقائي. لقد تولّد التسريب كجزء من عملية التحكّم بالرأي العام أو كنوع من فضح الخصوم السياسيين المتبادل داخل المؤسسة الحاكمة. كذلك تولّد خارج هذا السياق في إطار الصراع ضد الحكومات، بما في ذلك الفعل الثوري (ما قبل الديموقراطية، وما قبل نشوء مفهوم الشفافية)، كعملية فضح للتناقض بين القول والفعل في إطار «توعية الجماهير على مصالحها». ومنذ أن نشأ مفهوم الرأي العام وممارسته، ومعه وسيط نقل الخبر والمعلومة، ألا وهو الصحافة ووسائل الإعلام عموماً، أصبح التسريب جزءاً من عملية صناعة الرأي العام وتكوينه.


لا علاقة ضرورة لآلية التسريب إذاً بهذه الجدلية الموصوفة أعلاه، فقد ينجم التسريب عن صراع داخل حكومة أو داخل حزب حاكم أو بين حزب حاكم وصل إلى السلطة للتو وحزب آخر كان في السلطة. ويهدف التسريب هنا عموماً إلى وصم المنافس أو الخصم بالكذب، وبأنه يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل. يتخذ التسريب هنا شكل الفضيحة. وهو على أهميته يبقى آلية في الحكم لأن دافع التسريب هو تسجيل نقاط في صراع داخل المؤسسة، لا الوصول إلى الحقيقة ولا تحقيق الشفافية. لكن في المجمل، بعد كل تسريب كهذا، وعبر تراكم تاريخي طويل يصبح الرأي العام أكثر وعياً بأساليب الحكم وأكثر ريبية وتشكيكاً في السياسة والسياسيين. ولا يلبث أن يؤدي التسريب المتبادل إذا أفقده التنافس الروادع إلى موقف سلبي عام عند الناس من السياسة والسياسيين، ويتحول هذا النوع من التسريب الموجّه إلى آلية مضادة للشفافية، فهدف الشفافية الأصلي هو إشراك الناس في ما يجري، لا تنفيرهم مما يجري.


في مثل هذا السياق، وفي الفضح المتبادل للسياسيّين عبر التسريبات وما يسبقها ويتلوها من تركيب للوقائع والحقائق (facts) بما يناسب السياسات التي توضع والخطوات التي تتخذ، ينشأ الشك بالسياسة والسياسيين، ومن مظاهره عزوف الناس عن السياسة واعتبارها لعبة قوى ومصالح في أفضل الحالات، وينشأ أيضاً التشكيك في الوقائع والموقف الريبي ليس فقط من الحقيقة بل أيضاً من السعي إلى وصول إلى الحقيقة. هنا يمكننا الحديث عن جدلية سلبية بين المؤسسات السياسية الإعلامية لناحية تأثيرها على الشفافية وعلى حق المواطن بالمشاركة وثقته بالمعرفة العقلانية كطريق للتفكير في الشؤون العامة.


ليس كنتيجة لذلك، لكن في هذا السياق التاريخي نفسه، نشأت أمزجة ونزعات ثقافية، وتيارات فلسفية تؤسس لتحويل الحقيقة والخيال إلى وجهات نظر متساوية القيمة، والحقائق والأباطيل إلى سرديات تعبر عن زوايا نظر، لأن المهم في نظرها هو «موقع» المتكلم المؤلف من سيرته وأهدافه ومصالحه، وليس مهمّاً من زاوية النظر هذه تلاؤم ما يقول مع الوقائع، ولا قيمة ومضمون ما يقول قياساً بحقيقة موضوعية ما. هنا تنتج نسخ مسطحة عن مفهوم «الخطاب». وهو مفهوم وجيه وذو فائدة في العلوم الاجتماعية يقوم على العلاقة بين المعرفة والسلطة، كما تصدر نسخ مشوّهة لمفهوم السردية. وهو أيضاً مفهوم وجيه يسهم في فهم عمليات التحقيب والتأريخ وإنتاج الهوية. إنّه نموذج لفهم رواية الأحداث كسرد ناجم عن موقف ثقافي وأيديولوجي معيّن. وكلا المفهومين لم يهدف إلى مساواة الحقيقة بالكذب في أي لحظة معطاة، وعند أي مقارنة بين القول والوقائع.


تسخيف الحقائق بحجة نسبية الحقيقة وخلع ألقاب ما بعد حداثية على هذا التسخيف وترويجه كثقافة سياسية هو الوجه الآخر لاحتكار المعلومة وجواز الكذب من المؤسسات الحاكمة.


في المقابل، وجدت دائماً أنواع أخرى من التسريب يقوم بها منشقون عن الحكومات والمؤسسات لم يمكنهم تحمل التبعات الأخلاقية لعدم البوح في الفضاء العام بما يعرفونه عن أعمال تقوم بها مؤسسة ما، ويعدونها غير أخلاقية أو ضارة للخير العام. كذلك وجدت تسريبات قامت بها حركات ثورية لتثبت صحة ما قالته عن الدولة، وغالباً ما يجلب مثالاً على ذلك كشف البلاشفة بعد وصولهم إلى الحكم للاتفاقات السرية بين الدول الاستعمارية في ما يتعلق بتقسيم التركة العثمانية التي كانت في أساس الحرب العالمية الأولى التي عدّها البلاشفة حرباً استعمارية وليست حرباً وطنية خلافاً لما ادّعت الحكومات، ومنها حكومة القيصر. كان ذلك النوع من التسريب بالجملة لوثائق وصل حد الكشف ذي الأثر البالغ والبعيد المدى على الثقافة السياسية في أوروبا. ولا شك في أن هذا الكشف قد أسهم في بلورة الوعي بالمواطنة كمشاركة سياسية احتجاجية ضد الحرب، وضد التعامل مع قرار الحرب كشأن متعلق بالحكومات وحدها. لكن هذا مثال ثوري تاريخي من مرحلة ما قبل نشوء الشفافية كمفهوم وكمؤسسة ديموقراطية.


ومن السياقات الأحدث نذكر جميعاً تسريبات صحيفة «نيويورك تايمز» لوثائق البنتاغون التي فضحت التناقض بين الفعل والقول في ما يتعلق بحرب فيتنام. وأيضاً تسريب الـ«واشنطن بوست» شهادات ووثائق عن التنصّت غير القانوني لأجهزة الأمن لأغراض انتخابية لمصلحة رئيس ضد خصومه السياسيين في فضيحة «ووتر غيت» الشهيرة 1972 ـــ 1974 في عهد ريتشارد نيكسون الذي أطاحته الفضيحة ولم يكمل لهذا السبب فترة رئاسته الثانية.


أعقب الفضيحة احتفاء بالصحافة الاستقصائية، وبالتحقيق الصحافي لأنه يكشف الاستخدام غير المشروع للقوة والنفوذ من قبل السياسيين في السلطة. ورغم محاولة المؤسسة الحاكمة منع الوثائق من النشر في الحالتين، حالة البنتاغون وحالة ووتر غيت، إلا أنها رضخت للنشر في النهاية، واضطرت إلى اتخاذ إجراءات بحق الرئيس نيكسون نفسه. وتطور معها مفهوم ممارسة الشفافية. وتعود المؤسسة إلى روتينها الجديد بعد أن تقدّم ضحايا من السياسيين المتهمين بالفضيحة، ولا تلبث المؤسسة أن تسنّ تشريعات تتلاءم مع مفهوم أكثر تطوراً للشفافية. نجد هنا علاقة جدلية بين المؤسسات الإعلامية الكبرى والمؤسسة الحاكمة، وهي تعيد إنتاج التوتر والتوازن بعد كل كشف من دون أن يؤدي ذلك إلى نفور الناس من السياسة. يصح هذا على ما تقوم به وسائل الإعلام المؤسسة يومياً في ما يتعلق بالفضائح المالية والفساد واستخدام الشرطة العنف أثناء التحقيق وغير ذلك من مزايا الصحافة الاستقصائية.


يجري كل هذا في إطار ممأسس بين فاعلين لا يتبادلون الخدمات بالمعنى السلبي المذكور أعلاه فحسب، بل يدخلون في صراع فعلي من حين لآخر تنجم عنه علاقة تفاعلية نسميها هنا جدلية إيجابية لناحية الشفافية وحقوق المواطن.


وحتى حين يعاد رسم الحدود المشوشة بين المؤسسة السياسية والإعلامية خلال التسريبات والكشوفات في إطار الجدلية الإيجابية، إذا صح التعبير، فإنها تتفق غالباً على الفضاء الذي يجمعها داخل حدود الأمن القومي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بما يسمى «المصالح الوطنية العليا»، والعلاقات مع الدول والشعوب الأخرى، وعلى نحو أكثر تحديداً في ما يسميه كارل شميت «جدلية العدو والصديق». وهي الجدلية التي لا يصح فيها للعدو ما يصح للصديق، ولا تُعَدّ فيها ازدواجية المعايير نقيصة، بل ضرورة نابعة من تعريف السياسة وتعريف العدو والصديق.


وبهذا المعنى، فإنه ليس غريباً أنّ مَن يعملون على التسريب وفضح الحقائق من دون هوادة في قضية فساد مالي لوزير أو تحرش جنسي يقوم به مسؤول في حكومة قد يندمجون بسهولة فائقة في جوقة نشر الأكاذيب أو حجب حقائق، في ما يتعلق بالأكاذيب التي تبرر شن حرب على دولة أخرى. ولا تناقض هنا برأيهم، فهم في الحالتين يخدمون المصلحة الوطنية، لأن مكافحة الفساد والشفافية داخلياً هي مصلحة وطنية وحجب الحقيقة والكذب من أجل التعبئة والتحشيد لخوض الحرب قد تكون أيضاً في خدمة مصلحة وطنية.


هذا ما يجعل الحدود واضحة عند المؤسسة الإعلامية والسياسية بين التسريب الذي تقوم به وسيلة إعلامية ممأسسة من جهة، والتسريب غير المنظّم للمعلومات السرية الذي يقدم عليه فرد منشق عن الحكومة أو موظف أو جندي، وأخيراً ما يقوم به على أوسع نطاق مصدر مفتوح على شبكة الإنترنت يتجاوز كل الحدود المؤسساتية الداخلية والوطنية بين الدول وتقوم عليه مجموعة أفراد من جنسيات مختلفة. هنا تنشأ ظاهرة جديدة لم يستعدوا لها على الإطلاق.


حين نشر موقع ويكيليكس وثائق عن الحرب في العراق، وعن سوء استخدام الجيش للقوة ضد المدنيين، ثم وقائع تقارير السفراء الأميركيين في الدول المختلفة إلى وزارة الخارجية، لم تكن مؤسسة الشفافية في معظم الدول الغربية مستعدة لاستقبال هذا الحدث، ولا مجهّزة قانونياً لمنعه.


فالشفافية لا تسري على «الأمن القومي». لكن القانون لا يمنع صحيفة من نشر وثيقة تسربت بنحو غير قانوني، لأنها إذا كانت سرية فمن واجب الحكومة الحفاظ على سريتها، لكنها إذا وصلت إلى أيدي الصحافة فمن واجب الأخيرة نشرها وكشف الحقيقة للجمهور، فهذه مهمة الصحافة. وقد نشأ التوازن المذكور أعلاه بين المؤسستين في إطار مؤسسة الدولة، وهي تسمح بهذا التناقض وبهذا التوتر بين حقين من دون أن يخرق أي قانون. لكن من ناحية أخرى، إذا كانت الشفافية لا تشمل قضايا الأمن القومي، فإن المصدر المفتوح على الإنترنت ليس معرّفاً كصحافة.


لقد ظهر المصدر المفتوح خارج سياق الصحافة، بما في ذلك الصحافة الإلكترونية، مع دخول فاعل جديد هو المواطن أو مجموعة المواطنين الذين يمتلكون أداة نشر خارج المؤسسات الإعلامية، وخارج حقوق الطباعة وحقوق البث.


يختلف المصدر المفتوح عن الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة بأنها تقع خارج قدرة الحكومات على التحكّم من حيث القدرة على منع الطباعة والتوزيع والبث، وحتى في حالة حجب الموقع، فإن مواقع أخرى كثيرة قادرة على نشر المادة... وهكذا يتوسع المنع والحجب إلى درجة يصعب احتمالها إلا في الدول الديكتاتورية. ويختلف حتى عن الصحافة الإلكترونية في أنه لا يخضع لتحكّم المؤسسة الصحافية. وبهذا المعنى فهو يتحدى المؤسستين، السياسية والإعلامية، ولا يخضع لقوانينهما، ولذلك أيضاً يثير غضب المؤسستين.


كذلك فإنه يضيف الكثير حتى للمدونات والمواقع الإلكترونية غير الممأسسة. فهذه الأخيرة تتميّز بأنها لا تكتفي بالتلقّي، وتمتاز بتفاعليتها وقدرتها على الانتشار وإنتاج العالم الافتراضي والجماعات البشرية العابرة للحدود المعوّقة للتواصل داخل المجتمعات وبين المجتمعات في الواقع «غير الافتراضي». لكنها في أفضل حالاتها تعتمد كثيراً على المصادر الصحافية المهنية المعروفة وتقوّمها نقدياً. وفي أسوأ حالاتها تنتج شائعات ومعلومات خاطئة وتنشر الجهل. المصدر المفتوح يمدها بمعلومات غير مراقبة من المؤسسة الصحافية، ليصبح كلاً من المصدر وأداة النشر والتفاعل والانتشار خارج آليات السيطرة والتحكّم.


لقد كانت ردود الفعل على ظاهرة المصدر المفتوح الذي ينشر وثائق سرية مسرّبة من وزارة الخارجية الأميركية ردوداً غاضبة وانفعالية بكل المقاييس من المؤسسات الحاكمة، وأيضاً من نجوم الصحافة الرسمية. ففضلاً عن انخراطهم في جدلية المؤسسات، لم يكن نجوم الصحافة أبرياء من الغيرة على الاحتكار وضد المنافسة غير المتوقعة من غير المهنيين. ووصل الانفعال إلى حد مطالبة بعض الهيئات والشخصيات في إطار المؤسسة الحاكمة الأميركية بالتعامل مع المصدر المفتوح المتمثل بموقع ويكيليكس كتنظيم إرهابي ليلاحق ويحارب مثل تنظيم القاعدة. وبلغ الأمر بوزير الخارجية الإيطالي أن عدّ التسريبات شبيهة بعملية 11 أيلول/ سبتمبر، كأنها تجري مجازاً ضد مبنى الدبلوماسية العالمية في مقابل مبنى التجارة العالمية الحقيقي. وطالب سياسيون أميركيون بمحاكمة القائمين على الموقع بموجب قوانين مكافحة التجسس The espionage 1917 (وهو القانون الذي يحرّم نشر معلومات ذات علاقة بالأمن القومي إذا أمكن أن تستخدم هذه المعلومات للمسّ بالولايات المتحدة).


ليس هذا بالأمر الجديد، فغالباً ما تتعامل الحكومات مع التسريب الفردي للحقائق أو الوثائق إذا عدّته مسّاً بالأمن القومي كأنه عمليات تجسس. ويحضرني هنا أن أشبّه ما يكون بسلف غير رقمي (nondigital) لقضية ويكيليكس، هو قضية الموظف في المفاعل النووي الإسرائيلي، ديمونا، مردخاي فعنونو. ففي عام 1985 ترك فعنونو عمله في المفاعل النووي وغادر إلى أوستراليا، حيث فضح وجود سلاح نووي لدى إسرائيل وكيفية إنتاجه مقدّراً حتى الكمية، ومستخدماً صوراً التقطها من داخل مبنى المفاعل. وهو لم يقم بهذا العمل لمصلحة حكومة أو دولة، لكنه فضح الأمر للرأي العام عبر صحيفة بريطانية.


اختُطف فعنونو من الموساد وحوكم بتهمة التجسس، وحكم عليه بالسجن 17 عاماً قضى منها 11 عاماً في السجن الانفرادي حتى أطلق سراحه عام 2004.


وطبعاً لم يحصل هذا للقائمين على موقع ويكيليكس، مع أن العقلية التي لوّحت بتوجيه تهم بالتجسس هي العقلية نفسها التي اختطفت فعنونو من دول أوروبية على نحو غير قانوني يليق بمنظمة إرهابية واقتادته إلى البلاد ليحاكم بتهمة التجسس. في حينه نُبِذ فعنونو خارج القبيلة التي انشقّ عنها، وتحوّل «الإعلام الإسرائيلي الحر» واليسار واليمين في «واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط» إلى بطون في القبيلة، يحرّضون بعصبية على مَن فضح أسرارها، وينبذونه خارجها حتى تستباح حقوقه، وما الحقوق في مثل هذه الحالة إلا امتيازات لعضو القبيلة، والامتيازات قابلة للانتزاع. فماذا فعل فعنونو؟ وماذا كانت تهمته؟ لقد تصرف كإنسان، وربما كمواطن عالمي، مدفوع بدافع أخلاقي هو تعريف العالم بالخطر الناجم عن التسلح النووي الإسرائيلي. هنا توقفت قوانين الشفافية والإعلام الحر التي تحكم تسرّب المعلومات داخل الدولة الوطنية، وفُعّلت قوانين التجسس ضد مواطن لم يتجسس لمصلحة دولة بل كشف الحقيقة للجمهور عبر مؤسسة صحافية في دولة أخرى. وهي بذاتها غير خاضعة لجدلية المؤسسة الإعلامية والسياسية الوطنية. لقد تجاوز الحدود والقوانين التي تحكم جدلية المؤسستين بتجاوزه حدود الدولة السيادية الوطنية. فعل ذلك قبل عصر الإنترنت، ودفع الثمن غالياً.


ينتمي فعنونو، كما ينتمي القائمون على موقع ويكيليكس وغيرهم، إلى نمط من المعارضة الراديكالية والاحتجاج على المؤسسات الحاكمة ولا ينطلق من الأحزاب أو النقابات، ولا يهدف للوصول إلى الحكم، بل يجمع بين الإنسانية والقيم الكونية، ويتقاطع مع التفرعات الفوضوية لحركات الاحتجاج على الحرب وعلى منظمة التجارة العالمية وعلى تلويث البيئة وكل ما يعدّونه سوء استخدام للقوة السياسية والاقتصادية. ولا يرون من مهمتهم تقديم البديل.


ويذكّرني النقاش في المصدر المفتوح بقضية فعنونو، ليس فقط للأسباب أعلاه، بل أيضاً لسبب آخر سأتحدث عنه لاحقاً، هو كشف ما هو معروف أو تقديم الدليل على ما كان العقل يدركه نظرياً. كان امتلاك إسرائيل للسلاح النووي من ضمن ما يمكن تصنيفه معلومات عامة. فعنونو لم يكشف أمراً غير معروف، لكن إسرائيل اتّبعت ما تسميه هي بلغتها «سياسة الغموض النووي» لأغراض الردع. فهي تريد أن يعرف العرب أن لديها سلاحاً نووياً؛ لأن المعرفة هي التي تردع، ولا ردع لسلاح لا يعرف بوجوده أحد. لكنها من ناحية أخرى لا تريد أن تعترف بذلك رسمياً، فلا تمنح مبرراً قانونياً لسباق نووي ضدها في المنطقة. جاء فعنونو فأفسد هذه الخطة، لذلك يمكن القول إنه لم يُعاقَب لأنه كشف الحقيقة، بل لأنه أفسد لعبة سياسية. وأضيف أيضاً من خارج موضوعنا أنه عوقب لأنه خرج على القبيلة.


هنا يبلغ النفاق الإعلامي السياسي بغطاء قانوني أوجه. وحتى من ناحية حقوق المواطنة يُسأل السؤال في دولة ديموقراطية أو تدعي أنها ديموقراطية: هل يجب أن يعرف المواطنون رسمياً من قبل الدولة إذا كانت هذه الدولة تملك سلاحاً نووياً، أو إذا كان هذا السلاح يُنتَج عن بعد بضعة كيلومترات عن بيوتهم، حتى لو كان ذلك لأسباب متعلقة بالبيئة؟ لقد خُنق هذا السؤال، ووُجِّه إلى واقعة التسريب بأنها خيانة. وهنا أيضاً كتبت الصحافة الرصينة الكثير عن شخصية المسرّب ودوافعه النفسية ونشأته وغير ذلك مما يجنب الصحافي مناقشة الموضوع الذي تناوله التسريب.


حين نشر فعنونو ما لديه وثارت فضيحة عالمية راجت في الصحافة العربية مقولة أن ما قام به هو دور مرسوم في مؤامرة إسرائيلية لتخويف العرب. فالمستفيد من الردع هو إسرائيل. ولم يراجع أحد ممّن روّجوا المقولة نفسه علناً، حتى بعدما حكم على الرجل بالسجن. العقلية نفسها التي تساوي بين الفاعل والمستفيد (من دون أخذ الفائدة للرأي العام في الاعتبار) روّجت بعد ربع قرن مقولة أن تسريبات ويكيليكس هي مؤامرة تستفيد منها الولايات المتحدة ليتبيّن توافر دعم عربي لشن الحرب على إيران».

 

 

الحقيقة والسلطة (2/2) د. عزمي بشارة

بعد أن نشرت "الأخبار" اللبنانية الجزء الأول («الأخبار»، 5/3/2011)، فيما يلي الجزء الثاني من كلمة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المفكر د. عزمي بشارة، خلال مؤتمر "المصدر المفتوح في عالم الإنترنت والأوراق الدبلوماسية الأميركية المسرّبة كمعطى" الذي أنهى أعماله الأحد في بيروت

 

ظاهرة التسريب ليست جديدة. كما أنّ هنالك أسلافاً لعملية التسريب من منطلقات مواطنية متعلقة بالصالح العام. وهنالك تراث لعمليات كشف المعلومات الحكومية من فاعلين غير رسميين، يمكن أن يستند إليه القائمون على ويكيليكس وغيره من مواقع المصدر المفتوح. وهؤلاء يقدّرون، كما يبدو، بالمئات أو الآلاف من دول عدّة ومن مهن عديدة. ويجمعهم الاعتقاد أنّ احتكار المعلومة من الحكام هو شر، لأنّه يُسهم في سوء استخدام السياسيين للقوة التي في أيديهم، وأن هذا يؤدي إلى الحروب غير العادلة وغير المبررة، أي إنه يؤدي إلى القتل، قتل المواطنين وقتل المجندين وغيرهم في الدول التي تُشنّ عليها الحرب.

 

ويبدو أن حرب 2003 العدوانية على العراق، تحت غطاء من الأباطيل المفضوحة، التي كُشف كذبها لاحقاً، والتي على أساسها شُنّت الحرب وجُنّد الرأي العام بما فيه مؤسسات صحافية كاملة، هي التي ارتقت بهم من ثقافة القرصنة الرقمية أو قرصنة الشبكات المعلوماتية إلى تأسيس المصدر المفتوح.


وتقع ظاهرة ويكيليكس المدفوعة بدوافع حركات الاحتجاج غير التقليدية على تقاطع تراثين، أحدهما قائم والآخر متكون في سياق تطوّر أساليب وظواهر حديثة: التراث المعروف سابقاً هو التسريب للرأي العام لأسباب ودوافع نقدية من خارج المؤسسة، والتراث الجديد الذي يتأسس هو تراث القرصنة المسيّسة (Hacktivism) (وهي تطوير القرصنة الرقمية إلى فعل سياسي قائم على الاقتناع بأن المرافق العامة ملك للجمهور ومن حق الجمهور معرفة ما يدور فيها).


لقد تفاعل التراثان في سياق جديد كلياً، هو سياق مؤلف من العناصر الرئيسية الآتية:
1 ــ واقع جديد لعالم الاتصالات تتجاوز فيه الشبكات المعلوماتية الحدود الوطنية ويصعب التحكم بها بموجب القانون الوطني المحلي ويديره وكلاء من عدة جنسيات كما يستفيد منه جمهور عابر للحدود الوطنية.
2 ــ تجاوز الإعلام التقليدي وحتى الإعلام الرقمي المُحوسَب بالمدوّنات الفردية والشبكات الاجتماعية التفاعلية التي لا تكتفي بتلقي المعلومة، بل تنشرها وتعلّق عليها وتنتقي منها ما تراه مناسباً وتعيد توصيفها قبل أن تعيد نشرها.
3 ــ في مقابل ذلك، تحوّل في العلاقة بين المعلومة والسلطة الحاكمة، بحيث لم تعد القوة مقتصرة على احتكار المعلومة، بل انتقلت إلى القدرة على بث أكبر قدر من المعلومات والصور والمشاهد والتحكم بها، لم يعد النشر الواسع وغير المنضبط أداة نقدية فقط، بل أيضاً هادمة للنقد، وبهذا المعنى محافظة.


لم تعد القوة مقتصرة على مَن يمكنه حفظ السرية والتحكّم بها عبر آليات مثل الرقابة وحجب المواقع وحتى الاعتقال، بل صارت في حوزة مَن يمكنه تحمّل أكبر قدر من الشفافية الفعلية، بل ويمكنه أيضاً إنتاج الشفافية المصطنعة، بمعنى ضخ المعلومات وتحويل غزارة المعلومات إلى حقائق نسبية متضاربة تضيع بينها الحقيقة، أو إنتاج الصور والمشاهد الإعلامية التي تهدف إلى الإثارة أكثر مما توصل إلى الحقيقة...
هذه وغيرها من الآليات التي تحوّل الشفافية إلى مصدر قوة بدلاً عن السرية.
 

هذه هي السياقات الجديدة التي نشأ فيها المصدر المفتوح. وهنا أيضاً نعثر على مصادر ردود الفعل المتطرفة، ومنها المطالبة باتهامه بالجاسوسية وإنزال أشد العقوبات به وحتى شيطنته، ومنها في القطب الثاني تلك الصادرة عمّن يعتبره مؤامرة من مؤامرات التحكم عبر الشفافية. فمن وجهة النظر هذه يقاس كشف المعلومات والحقائق بهوية المستفيد. وبما أنّ التحليل قد يؤدي إلى الضرر الناجم عن الوثائق يقتصر خصوصاً على حلفاء الولايات المتحدة، فيما أقصى ما تعرضت له الولايات المتحدة بعد الوثائق هو سلسلة من الإحراجات؛ فقد تكون الوثائق من وجهة النظر نفسها مسرّبة عن قصد في إطار التحكّم بواسطة التسريب المقصود، لا بواسطة حجب المعلومات. هنا يجري خلط السياقات التاريخية والظواهر الجديدة غير المفهومة لمَن نشأ وطور وعيه قبل نشوئها بالمؤامرات. لأنّ المؤامرة هي أسهل طريقة للفهم، فهي حين يجب أن ترى الذات الفاعلة تستعيض عنها بالبنية الحاكمة والمتحكمة، وحين يكون عليها تشخيص العلاقات السببية تستعيض بالدوافع والمقاصد والغايات، فتؤنسن الأسباب كدوافع والنتائج كمجرد غايات.


ونحن هنا لن نحاكم المصدر المفتوح بواسطة السؤال «مَن المستفيد؟». فالقدرة على الاستفادة حتى من أمر لم يخطط له، هي من ضمن مقومات القوة. وبغض النظر إذا كانت الولايات المتحدة مستفيدة أو متضررة من كشف الوثائق مباشرة، فمن الواضح أن علاقات الدول معها غير قائمة على الكذب لكي تتضرر من الحقيقة.

 

إن علاقات الدول مع الولايات المتحدة قائمة على حقائق صلبة مثل المصالح والاستراتيجيات والنجاة في صراع البقاء. وعدم رغبة الناس في الحديث عنها لا يقلل من كونها حقيقة. تقوم علاقات الدول الحليفة مع الولايات المتحدة على أهداف استراتيجية وعلى حاجة هذه الدول للعلاقة مع أغنى دولة في العالم وأقواها. ومن هنا لا تتضرر هذه العلاقات؛ لأن الوثائق لا تكشف أنها قائمة على الكذب، بل هي تكشف حقيقة هذه العلاقات للرأي العام في هذه البلدان. أما الكذب الذي يكشف، فهو كذب في كيفية تقديم هذه العلاقات من حكام هذه البلدان لشعوبها. وقد يلحق ضرر بالحكام أنفسهم إذا كان الرأي العام لا يقبل بعلاقات قائمة على مثل هذه الحقائق، وإذا كان مقتنعاً في الماضي بالأكاذيب التي بُثّت حولها، أو إذا لم يكن راغباً بمعرفة الحقيقة لأن المعرفة تتطلب موقفاً، أو يترتب عليها موقف وفعل. وحتى في هذه الحالة، تنتشر آليات الإنكار، ضد الحقائق التي أتاح معرفتها المصدر المفتوح، ومنها نظرية المؤامرة لتجنّب اتخاذ موقف أو فعل.


أثار إعلان موقع ويكيليكس عن توافر عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الوثائق المتعلقة بالدبلوماسية الأميركية، هي عبارة عن برقيات السفراء الأميركيين لرؤسائهم في وزارة الخارجية عن اجتماعات حضروها أو انطباعات جمعوها عن البلد الذي يعملون فيه أو عن مقابلات جرت بينهم وبين مَن يمكن اعتبارهم مصادر محلية للمعلومات، ضجة كبرى وردود فعل غاضبة في حكومات وفي المؤسسة السياسية الأميركية، فضلاً عن رد فعل واقعي واحد صدر عن وزير الدفاع الأميركي غيتس. وأثار كذلك ردود فعل في الإعلام الذي قامت له منافسة استقصائية تطرح عليه تحدياً غير مسبوق بنشر آلاف الوثائق غير المنشورة والمحرجة للدول والحكومات. لكن الموقع الذي يعرف السياقات التاريخية الجديدة والتطور التكنولوجي الذي يقوم عليه والذي لا يبطل أي محاولة لمنعه، كان يدرك مكامن قوته. لكنه لم يستغلها للنشر المباشر على الموقع، رغم معرفته أنه إذا أُغلق مؤقتاً فبإمكانه أن ينشرها لدى مئات بل آلاف المواقع الأخرى. فمنع النشر على الإنترنت هو أمر يكاد يكون مستحيلاً. ولا يوقف النشر باعتقال أو بحجب موقع أو موقعين. لقد استخدم الموقع هذه القوة لكي يقنع المؤسسات الصحافية الرئيسية أن تشاركه في النشر. وقد اخترق بذلك لأول مرة المؤسسة الإعلامية. وهي المؤسسة التي عاملته باحتقار، وصبّت عليه جام غضبها، ووصفته بأبشع النعوت وتناولت الناطق البارز باسمه في عملية لا تنتهي من تحليل الشخصية مختزلة إياه إلى ماضٍ مشبوه، وشكل لا يثير الاطمئنان، وسيكولوجية غير مستقرة... وغير ذلك من الوسائل البعيدة كل البعد عن التقويم الموضوعي.


هنا استخدم الإعلام أدوات حجب الحقيقة مثل نسبية الحقيقة وموقع المتكلم، وبضخ المعلومات من غير ذات العلاقة، وبصنع الصورة والمشهد وغيرها من آليات التضليل والمغالطة.


وكما اضطرت المؤسسة السياسية إلى أن تعدّل نفسها بموجب مبدأ الشفافية لكي تستوعب الإعلام، اضطر الإعلام إلى أن يعدّل نفسه لكي يستوعب منافسة المصدر المفتوح. فالمصدر المفتوح يعرف أن الإعلام الرسمي أو الممأسس هو الأكثر انتشاراً والأكثر اختراقاً للثقافة السياسية للجماهير والرأي العام. وهو أيضاً مسلح بالأدوات المهنية التي تمكنه من تصنيف آلاف الوثائق وترتيبتها، لكن الثمن طبعاً هو الكثير من الحلول الوسط بين الإعلام والمؤسسة السياسية في ما يتعلق بالمواد المنشورة.


وبالرغم من الحلول الوسط يؤدي تكيّف الإعلام المؤسسي لواقع المصدر المفتوح إلى بعث الحياة في الصحافة الاستقصائية من جديد، وقد يكون لذلك أثر كبير على الصحافة المجنّدة في اللحظات الصعبة لمصلحة ما يسمى الأمن القومي، وهي التي انساقت بسهولة إلى الإثارة بموجب قوانين العرض والطلب لتسويق نفسها كسلعة. سنرى هل الحقائق التي يُتوصَّل إليها في الصحافة الاستقصائية هي فوق قوانين السوق أم ستُسلَّع هي الأخرى؟ هذا سؤال مفتوح لا جواب لدينا عنه حتى الآن.


وما إن بدأت وسائل الإعلام بالنشر حتى كُشفت أمور عديدة متعلقة بالدبلوماسية الأميركية، ستكون لها آثار كبرى ربما ليس على العلاقات بين الدول، بل على وزن الدبلوماسية في العلاقات بين الدول. وهنالك سؤال مهم يطرح الآن عن ماذا يمكن أن تعني الدبلوماسية من دون سرية؟


لقد قام الدبلوماسيون الأميركيون بعملهم كما هو مطلوب، قوّموا أوضاع البلاد التي عيّنوا فيها، وقوّموا السياسيين، شخصياتهم، معدلات ذكائهم، نزعاتهم، نقاط ضعفهم، ثرواتهم وحتى علاقاتهم العاطفية. فعلوا ذلك كما يجدر بالدبلوماسية النشطة التي غالباً ما تعني جاسوسية ناعمة أن تفعل. وقدموا تقارير عن الاجتماعات التي حضروها على شكل محاضر أرسلت لوزارة الخارجية للعلم، بما في ذلك محاضر اجتماعات وفود مسؤولين أميركيين يزورون البلدان التي يعملون فيها. كذلك رفعوا لواشنطن تقارير مستقاة من مواطنين وشخصيات سياسية يمثّلون بالنسبة إليهم مصادر معلومات. هذا ما يقوم به السفراء فعلاً، فضلاً عن الطقوس الرتيبة وحفلات الاستقبال المملّة. وفي المجمل يمكن القول بأثر رجعي بعد نشر المواد إنّه في كثير من الحالات يبدو الدبلوماسي الأميركي كالمراسل الصحافي المطّلع، مع الفرق أنه يكتب بصراحة أكثر لأنه لا يكتب للنشر بل للعلم، ولأنه يتوخى الدقة نتيجة للشعور بالمسؤولية أن قرارات قد تترتب على تقاريره. لكنه يبقى شخصاً محدوداً بمعدل ذكاء محدود أيضاً، لذلك شابهت انطباعاته في كثير من الحالات ما ينشر في الصحف في تلك البلاد. هكذا مثلاً حُكِمَ على التسريبات من السفارة الأميركية في لندن أن تقاريرها لا تختلف عمّا يُكتب في الصحف البريطانية، وتتخللها الحِكَم الرائجة نفسها، والتذاكي المألوف في الصحافة، والانطباعات الخاطئة المنتشرة أيضاً. ويتبيّن في حالات أخرى أن تقويم شخصية السياسيين وعاداتهم يستحوذ على الدبلوماسي إلى درجة حب الاستطلاع المَرَضي على حساب القرارات السياسية والمصالح والفئات التي يمثلها السياسي. فيقدم الدبلوماسي الأميركي دليلاً إضافياً على الاهتمام البالغ الذي توليه الدبلوماسية الأميركية للفرد في صنع السياسات.


وقد تكون هذه كلها موضوعات مشوّقة وشائكة في الوقت ذاته للبحث. لكن ما يهمنا هنا هو موضوع آخر تُرجى منه فوائد لتبلور الرأي العام والنزعات العقلانية في السياسة وفي نقد السياسة، إنه إعادة الاعتبار للحقائق.


سبق أن بيّنّا أعلاه مصادر نسبية الحقائق الناجمة عن التسريبات الفضائحية المتبادلة من داخل المؤسسة السياسية والناجمة أيضاً عن التحكّم بواسطة الشفافية. وقلنا إنّ نسبية الحقائق هي الشكل الجديد لاحتكار الحقيقة من المؤسسة السياسية، وهي أداة كبرى في تجنيد الرأي العام وتحشيده لأهداف محددة، وفي زيادة وزن الإثارة والمشهد على حساب المعلومة والمضمون. ومن سخريات هذه العملية أنها استخدمت ضد القائمين على المصدر المفتوح، فكان التركيز على تاريخهم الشخصي وعلى شكلهم وهندامهم، ورُوّجت أخبار عن فضائح جنسية وغير ذلك في محاولة للتغطية على المعلومة. وتبيّنت مدى قابلية هذه الأدوات الفكرية المتعلقة بزاوية نظر المتكلم وتاريخه وثقافته للاستخدام لأهداف سياسية سيئة من النوع الذي لا يمكنه تبرير ذاته أمام الجمهور بصراحة.


لقد كان لغضب الحكومة الأميركية على كشف الحقائق وتسخير كل الوسائل لمنعها في البداية، ثم اضطرار المؤسسات الإعلامية إلى التعامل معها لأسباب متعلقة بالتنافس في ما بينها والتنافس بينها جميعاً من جهة المصادر المفتوحة والإنترنت من جهة أخرى، أثر جانبي هام جداً في رأينا، هو إعادة الاعتبار إلى الحقائق في السياسة، وهي خطوة تقع في صلب تراث التنوير. والتنوير أصلاً وحرفياً هو عكس الجهل والتجهيل. والمنطلق الرئيسي لفلسفة التنوير الذي تدحضه النسبية بعناوينها المتخلفة، نسبية ثقافية ونسبية معرفية وغيرها، هو أن معرفة الحقيقة بحد ذاتها هدف لا يصح من دونه تنظيم المجتمعات على أسس أخلاقية صحيحة، ولا يصح من دونه تأسيس ما يمكن تسميته «الخير العام». كانت فلسفة التنوير القدية تنحو المنحى القائل إن المعرفة تجلب المنفعة والخير وأيضاً الأخلاق الحميدة. فهي ربطت سوء الخلق بالجهل.


لكننا أصبحنا نعرف أنه لا علاقة ضرورية بين الخير والعلم. ومع ذلك إذا رغبنا في تخيّل ما يمكن أن يعنيه التنوير في عصرنا، فسنقول إن أي تنوير ممكن في عصرنا يصر على أنه إذا كانت المعرفة لا تقود بالضرورة إلى الخير، فإن الجهل يقود للشر بالضرورة. ربما هذه هي العلاقة التي تؤكدها فلسفة التنوير بين المعرفة والأخلاق. فماذا لدينا لنقوله في هذا الموضوع هنا؟ أريد أن أصوّر الأمر بنحو أكثر عينية عبر ما سُرّب من وثائق عن موقف الأنظمة العربية بالولايات المتحدة وإسرائيل من العدوان على غزة وأيضاً موقفها من استخدام القوة ضد إيران في مسألة الطاقة النووية الإيرانية.


كان التحليل المنطقي يقود إلى ما يأتي: تدفع مصالح الأنظمة العربية وعلاقاتها بالولايات المتحدة، في مقابل التحديات الداخلية التي تواجهها إلى أن ترى في القضية الفلسطينية عبئاً لا بد من التخلص منه، وأن أي حركة مقاومة فلسطينية هي عقبة في طريق التوصل إلى تسوية من النوع الذي تقبله إسرائيل وهذه الأنظمة، وأنها منطقياً لا بد أنه كانت لها مصلحة من الحرب الإسرائيلية على غزة للتخلص من الحكومة. كان هذا تحليلاً قائماً على معطيات عامة ملموسة وعلى تحليل عقلاني. لكن لم يكن هنالك تسجيل لرئيس عربي أو لمسؤول عربي يثبت أن بعض الحكومات العربية تعلم بالعدوان ولا تعترض عليه، أو أن لها مصلحة به. جاءت الوثائق المنشورة وقدمت هذه الأدلة.


كان التحليل العقلاني يقابَل بتحريض إعلامي من الصحافة المقرّبة من الأوساط الرسمية، أو بشعارات وطنية وقومية من هذه الأنظمة، أو بتعبئة الرأي العام ضد التحليل العقلاني باعتباره تهجّماً على الدولة أو على رئيس الدولة وتشكيكاً بنزاهتهم ووطنيتهم... وفي كثير من الأحيان اعتمد على التخويف والإحراج ليتراجع التحليل العقلاني أمام إمكان التهمة بأنه يقوم بالتخوين. فماذا جرى؟ أعاد نشر هذه التسريبات الاعتبار للتحليل العقلاني بأنها نشرت الحقائق فأظهرت انسجاماً بين الحقائق المكتشفة والتحليل العقلاني السابق. ففي النهاية ورغم كل التهريج الإعلامي في الظاهر غالباً ما تسلك الدول في الخفاء سلوكاً براغماتياً قائماً على المصالح والحسابات يمكن استنتاجه بالتحليل العقلاني. ولا شك في أن هنالك دور اللاعقلانية السياسية وللعواطف مثل الحسد والغيرة والحقد في سلوك السياسيين وقراراتهم، لكن هنالك قدر كبير من العقلانية بحكم سلوك الدول بناءً على مصالحها وبناءً على أهدافها، هذا ما تبيّنه الوثائق المسرّبة من حقائق. وعندما تنسجم الحقائق المكشوفة مع التحليل العقلاني الذي قام على افتراضات، فإن هذا الأمر يسمى إثباتاً، وهو يعيد الاعتبار لبعدَي التنوير هذين: الحقائق والتحليل العقلاني.


ينطبق الأمر نفسه بدرجة أكبر على تأليب الحكّام العرب للولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. لقد قاد أي تحليل منطقي إلى استنتاج ذلك من دون معرفة الوثائق. لكن التصريحات السياسية والبيانات الختامية والزيارات الرسمية كانت تروج عكس ذلك. وهي لم تكن تنفي عن نفسها مثل هذه التهمة، بل كانت تدعو علنياً إلى استخدام وسائل دبلوماسية فقط، وإلى عدم استخدام القوة. لكن الوثائق المنشورة بيّنت أنه في الاجتماعات الجدية والرسمية تلحّ بعض الدول على استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وتكذب في العلن، وأن الولايات المتحدة تتفهّم هذا الكذب. إنها تتفهّم اضطرار الحكومات إلى الكذب على شعوبها، فالشفافية ممارسة إذا صحّت تصحّ داخل الدول الديموقرطية الغربية.

 

أعادت التسريبات في المصدر المفتوح بهذه الكمية وبهذه الغزارة الاعتبار للعقل في الحيّز العام.
وأخيراً، حتى عصر المصدر المفتوح كان تسريب مثل هذا الكم من الوثائق لا يكون سرياً، بل على شكل نشر رسمي للوثائق بعد ثلاثين أو عشرين عاماً بموجب قوانين تنظّم نشر الوثائق السرية الرسمية للباحثين أو المؤرخين بعد أن يزول خطر نشرها، لذلك كانت العقلانية في التحليل السياسي أمراً متروكاً للمؤرخين لاستنتاج الدوافع الحقيقية للسلوك السياسي للحكومات والدول في الماضي.


أما المصدر المفتوح فقد جعل الأمر متاحاً لما يمكن تسميته بالتعامل مع الحدث اللحظي بمنهجية المؤرخين. وهذه استعارة فقط. فالمصدر المفتوح لا يحوّل المتلقّين إلى مؤرخين منكبين على الوثائق بنهم في أرشيف، تماماً كما لا تحول المدونة كل إنسان إلى صحافي. لكنها من دون شك تفتح مجالات جديدة لعمل المحاكمات العقلية والتفكير النقدي. نقطة للتفكير.