خبر الحكم مسؤولية.. والثورة أيضاً..علي عقلة عرسان

الساعة 06:43 م|04 مارس 2011

الحكم مسؤولية.. والثورة أيضاً..علي عقلة عرسان

 

عندما بدأت ثورة شباب مصر من ميدان التحرير، بعد ثورة الشعب التونسي التي انتهت بإزالة حكم الرئيس السابق بن علي وحزبه، قال مصريون من مستويات واهتمامات متنوعة، حكومية وغير حكومية: " مصر ليست تونس"، ولكن ثورة الشعب المصري وصلت إزالة حكم مبارك وحزبه، وإلى التغيير الذي نشدته، شأنها في ذلك شأن ثورة الشعب التونسي.. لأنه على الرغم من وجود تفاصيل اختلاف إلا أن التكوين العام للشعب، والأسباب التي خرج من أجلها، والتركيب العام للمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. ومن ثم النتائج التي أفضى إليها التحرك الجماهيري.. كانت متشابهة. وعندما بدأت الثورة الشعبية في كل من اليمن وليبيا، قال كل من اليمنيين والليبيين عن بلدهم إنه ليس تونس أو مصر.. وسوف يقول مسؤولون ومهتمون، في كل بلد عربي تتحرك فيه الجماهير لتحقيق للتخلص من ظلم وفساد واستبداد وتحقيق تغيير وأهداف مشروعة لها، إنه ليس البلد العربي الآخر.. ولكن الحقائق على الأرض تشير إلى أن الهم واحد، والدم واحد، والمعاناة والتطلعات واحدة، والحرية لا تتجزأ.. ومن ثم فلابد من أن تتحقق نتائج متشابهة أن لم تكن متطابقة، فجماهير الأمة العربي أصدق في التعبير عن ذاتها وهويتها وانتمائها وتطلعاتها من أي حكم أو حزب أو حاكم، وأقدر على الرؤية حينما ينتشر الضباب أو ينشر عنوة لإضعاف الرؤية والقدرة على التمييز.

وفي تقديري أن لكل قطر من الأقطار العربية هوامش خصوصية سياسية على الأقل، تسوغ للبعض أن يقول بوجود التمايز، ولكن الأرضية الأوسع التي تضم عناصر الثورة والمطالبين بالتغيير أو الإصلاح، ومقومات لتكوين الروحي والاجتماعي الشعبي العام، والأسباب التي تؤسس للخروج الشعبي على إرادة الحاكم ونهج الحكم متشابهة إلى حد كبير، حتى لا نقول متطابقة.. وقد تختلف المعالجات والنتائج والمدة التي يستغرقها الوصول إلى التغيير المنشود والنتائج المرجوة، والثمن الذي يدفعه كل قطر وكل فريق في كل قطر.. كل ذلك قد يختلف من قطر عربي إلى آخر، بحسب تأثير التركيب السياسي الداخلي على الخصوص، وتأثير المحيطين  العربي والدولي اللذين يدخلان في كل تفاصيل المشهد والحسابات والنتائج.

نحن اليوم أمام المشهدين الليبي واليمني، وليبيا واليمن حالتان شعبيتان وسياسيتان تختلفان نسبياً عن المشهدين التونسي والمصري، وعن بعضهما بعضاً، من حيث الوقائع ومجريات الأحداث على الأقل.. والحالة الليبية تختلف نسبياً عن الحالة اليمنية، وإن كانتا على شيء من التشابه في هوامش ومفاصل وتفاصيل.

ففي الحالتين التونسية والمصرية احتضن الجيش ثورة الشعب بطريقة ما، وحمى المتظاهرين ولم يوجه سلاحه إليهم، وأوحى إلى الرئيس بالتخلي عن الحكم، مع تقديم تسهيلات و"الوعد بضمانات".. وترك للشعب حرية تقرير ما يريد في إطار الحكم المدني المنشود، محافظاً على دور الجيش في حماية الوطن والمواطنين والدولة ومؤسساتها ما أمكن.. وقد أدى ذلك إلى جعل الحزب الحاكم الذي كان قيد التآكل الداخلي، من حيث الروح النضالية والمعنوية والقبول الجماهيري على الأقل، جعله يتهافت ويفلس ويتفكك يتوقف عن الأداء الناجع بسرعة كبيرة، أشارت إلى حقيقة أن التآكل المفضي إلى التهافت له تاريخ طويل في جسم حزب الحكم لأسباب عدة، منها تجمع كثير من منتسبي حزب الحكم الذي أنشأته السلطة أو اعتمدته، على قصعة المكاسب التي يحققها لهم الولاء للحاكم وفساد الحكم.. وحين اهتزت شبكة المكاسب هرب المنتفعون وتركوها فارغة.

أما في الحالتين اليمنية والليبية فإن الحاكم وحزبه وقفا في جبهة مواجهة مع "المعارضة ـ الثورة"، وتصديا لعناصرها من موقع "قاعدتهم الشعبية"، بحكم امتلاكهم للقوة، وانطلاقهم من موقع قوة، وهم يصرون على أن يحسموا الأمر بالعنف وعن طريق القوة المسلحة، إن استدعت الأمور ذلك النوع من الحسم.. وفعلاً دخل كل من البلدين دائرة العنف، وسال الدم وما زال يسيل في ليبيا أكثر من اليمن، حيث بدأ تفكك البلد قبل تفكك الحزب الحاكم والحكم، ولم تحسم الأمور بعد.. والشعب مسلح في البلدين حتى بأسلحة ثقيلة.

أما بشأن الجيش في البلدين العزيزين، فإن الأمر مختلف في كل منهما عن الآخر، مع وجود مخاطر متشابهة حيث أن التركيب القبائلي في الجيشين متقارب... فقد بدأ انقسام الجيش الليبي وتقسيمه، للأسف الشديد، ولو بصورة أولية: " انضمام ضباط وضباط صف وأفراد إلى الثورة الشعبية، وتمرد قلة قليلة على الأوامر، ولكن الانقسام والتقسيم شملا الجغرافيا والسكان، وتشكلت جهة تمثل الشرق بمواجهة الجهة التي تمثل طرابلس والغرب، وأخذت تنازعها تمثيل ليبيا دولياً، حيث يتكلم الناس اليوم عن الشرق الليبي والغرب الليبي.

في اليمن لم يحدث ذلك في الجيش ـ ونأمل ألا يحدث.. لأن التركيب القبلي للجيش اليمني سيتأثر بالمواجهات الشعبية أكثر من تأثر الجيش الليبي بها، وقد يؤدي ذلك إلى انفراطه وتوزعه على خلافات القبائل وأحلافها، وعلى الجنوب والشمال حيث توجد أجواء تهيئ لانقسام اليمن بين جنوب وشمال، في نزوع انفصالي لا يؤيد العرب، وتوجد مطالبة مسلحة وراء دعوات الانفصال يمنياً.. ونحن نعرف نتائج انفراط الجيش على الناس والبلد، إن حدث لا سمح الله، فما زالت حالة انفراط عقد الجيش اللبناني، على أرضية طائفية، في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ـ  النصف الثاني من القرن العشرين ـ  مازالت هي ونتائجها ومآسيها، بل كوارثها، ما ثلة أمام عيوننا.  

إن حكمة اليمن تتحرك نحو وساطة داخلية بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة ـ بين الثورة والسلطة ـ من أجل التوصل إلى حل توافقي يقبل به الطرفان، وهناك بشائره تلوح في أفق صنعاء حول إمكانية التوصل إلى اتفاق يجنب اليمن مزيداً من الخسائر والخلافات، ويؤدي إلى التغيير المنشود في الوقت ذاته.. وقد اتجهت مملكة البحرين، قبل ذلك، إلى هذا النوع من الوساطة بين أنصار العهد ومعارضيه، من أجل التوصل إلى تفاهم حول التغيير المنشود.. وقد توجهت ليبيا نحو قبول وساطة دولية للتوصل إلى حل للصراع الدامي بين شرقها وغربها.. وهذا تحرك عربي لم نشهد مثله في حالتي تونس ومصر حيث حققت الثورتان مطالبهما تامة، أو شبه تامة، لأن تدخل الجيش بحكمة وحيادية هناك، أدى إلى حماية الثورة وتجنيب الوطن الانزلاق نحو مزيد من الدموية والفوضى، وفتح باب الخروج أمام الرئيس. وإذا قيض لهذا النوع من الوساطة أن ينجح في كل من اليمن وليبيا والبحرين، فإنه سوف يضيف مصطلحات ومفاهيم جديدة إلى قاموس العمل السياسي المعاصر في الوطن العربي.. ويشكل خطوة في طريق نهج قديم يتجدد، وهو الذي يتلخص في " خذ وطالب".   

إن هذا التوجه قد يجعل الثورة الشعبية، في الأقطار العربية المشار إليها على الأقل، لا تصل إلى كل أهدافها، ولكنه يرسل رسالة باتجاهين:

ـ رسالة إلى الأنظمة والحكام والأحزاب الحاكمة، مفادها أنكم لستم ملاكاً للأوطان والناس وثروات الشعب ومصيره، وأنكم لستم فوق القانون والناس، وأنتم مجرد مؤتمنين على أمانة سيحاسبكم الشعب عليها، وأن تداول السلطة أساس، والتغيير نحو الأصلح يجب أن يتحقق وبسرعة وشمول، وإن إرادة الشعب وحقوقه وحرياته يجب أن تحترم، وأن الطغيان مرفوض والظلم سيدمر أهله، وأنه لا بقاء بعد اليوم للفاسدين ومن يمارسون الإفساد ويبيعون ويشترون في سوق الضمائر، ولمن يستعدون القوى الخارجية على شعوبهم وأوطانهم، ويستظلون بها ليحكموا شعبهم ولترسيخ بقائهم في كراسيهم ظلماً وعدواناً.. فالشعب العربي استيقظ وهو مستعد للموت من أجل الوطن والحقوق والكرامة والرغيف، من أجل القيم والهوية والعقيدة والقضايا المصيرية.

ـ ورسالة إلى الشعب العربي في كل أقطاره تفيد بأن الثورة طريق للوصول إلى الحرية والحق والحكم الصالح والعدالة الاجتماعية، وترتب المسؤولية الأخلاقية العليا، وأن الشعب أقوى من كل قوة، وأنه صاحب القرار ومصدر السلطات، وإرادته فوق كل إرادة، وعينه تراقب، وأنه لا ينسى.. وأن الثورة التي تريق الدماء، وتدمر العمران، وتقضي على المنجزات، وتروع الناس، وتزرع الأحقاد بين أبناء الشعب.. ليست ثورة الناس بل ثورة من يختارونها طريقاً للوصول إلى السلطة وإلى إقصاء مناوئيهم عن السلطة.. والسلطة يجب أن تكون بتفويض من الشعب، وهي أمانة وتكليف وليست تفويضاً " بربوبية من نوع ما"، وأن إشاعة الفوضى والذعر بين الناس وجعلهم يفقدون الأمن والأمان ويتشردون في الأرض ليس مصلحة الوطن والشعب ولا مطلباً شريفاً ونظيفاً، أو وسيلة مباحة لتحقيق أي غرض أو هدف.. وأن ذلك لا يؤدى إلى تحقيق أغراض ثورية نبيلة،  فنلك فوضى مدمرة ولا يمكن أن تكون الفوضى بناءة أو محررة أو خلاقة.. وأن الوطن العربي بأقطاره كلها مستهدف، على نحو أو آخر، من قوى استعمارية وخارجية طامعة بثرواته وموقعه، تتطلع إلى إضعافه عقائدياً وثقافياً واقتصادياً وبشرياً لإعادة استعماره وفرض الهيمنة عليه.. وأنه لا بد من التنبه إلى ذلك وعدم اللجوء إلى نشر الفوضى والاقتتال الداخلي الذي يوقظ الفتن ويزرع الأحقاد ويقضي على قوة الأمة وأقطارها. وأن الاعتماد على أية قوة خارجية لتحقيق أهداف وطنية ليس من الوطنية في شيء، وسيأتي على حساب الوطن والحرية الاستقلال التام والإرادة الحرة والناس.. فلا يستعدين أحدٌ قوة خارجية ما على وطنه وشعبه، ولا يستعينن بها عليهما، وللأمة العربية، فيما جرى في العراق وله، درس يجب ألا يُنسى. 

إن الحكم مسؤولية أخلاقية واجتماعية، والثورة أيضاً مسؤولية، وإذا جار حاكم أو فسد أو أخطأ فلا ينبغي أن نحلل أسلوبه حين نثور عليه، فالثورة أهداف نبيلة، ودماء الناس غالية، والوصول إلى الأهداف الثورية مطلوب، ضمن حدود رؤية ومسؤولية أخلاقية، ومصلحة عليا للشعب والوطن والأمة، وتلك أهداف وغايات ووسائل لا بد من أن تفرض نفسها ونقاءها على كل من يتطلع إلى ثورة ونهضة وإصلاح وحكم عادل وخدمة للأمة، وقضاء على الظلم والطغيان، وإلى نهضة وعمل حضاري من أي نوع.

والتوجه الذي أشرنا إليه، في كل من اليمن وليبيا والبحرين، أعني الوساطة الداخلية على الخصوص واللجوء إلى الحكمة والحوار على الخصوص، قد يضع حداً للصراع الدامي والفوضى المدمر من جهة، ويسحب الذرائع من القوى الاستعمارية الخارجية التي تبحث عن ذرائع لإعادة استعمار الوطن العربي والسيطرة على ثرواته وخيراته، وتعميق الصراع بين أقطاره وفئات الشعب العربي وقبائله، وتجزئة المجزأ فيه، وإضعاف اللحمة القومية التي تستهدف القضاء التام عليها.. وفرض هيمنتها الشاملة، وتعزيز الوجود العنصري الصهيوني، وفرض حلول غير مقبولة للقضايا العربية المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين وشعبها الذي يعاني منذ عشرات السنين.